قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة السادسة والثلاثون: مقابلة المعتدي بمثل عدوانه.
طريقة القرآن: إباحة الاقتصاص من المعتدي ومقابلته بمثل عدوانه، والنهي عن ظلمه، والندب إلى العفو عنه والإحسان.
وهذا في آيات كثيرة، كقوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾،([1]) ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾([2]) فذكر المراتب الثلاث.
ولما كان القتال في المسجد الحرام محرماً قال تعالى: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)﴾ إلىٰ قوله: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾،([3]) وهو كل ما حرمه الله وأمر باحترامه.
فمن انتهكه فقد أباح الله الاقتصاص منه، بقدر ما اعتدى به لا أكثر. وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾،([4]) وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى﴾ الآية،([5]) ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ الآية،([6]) ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾، ([7]) ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ﴾([8]) والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله أعلم" .
لكن لا بد من تقييد قوله: (ومقابلته بمثل عدوانه) أن لا يكون ذلك الفعل محرّماً؛ فإنه يجوز مقابلة المعتدي بمثل عدوانه ما لم يكن فعله محرماً، فإنه لا يجوز أن يقابل: فمثلاً لو أن شخصا زنى بأهل شخص آخر، فليس للمعتدى عليه أن يزني بأهل هـٰذا المعتدي؛ لأن هـٰذا محرم، فتقيد تلك بأن لا يكون القصاص مفضياً إلىٰ ارتكاب محرم حرمته الشريعة".
قوله رحمه الله: (فذكر المراتب الثلاث في قوله: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾،([9]) وكذلك في قوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126)﴾([10]) الآية الأولى قوله: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ أين المراتب الثلاث؟ وما هي المراتب الثلاث التي جُمعت في هذه الآية؟ المقابلة، والندب إلىٰ العفو، والنهي عن ظلمه:
المقابلة في قوله: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾.
الندب إلىٰ العفو في قوله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾.
النهي عن الظلم في قوله: ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.
لكن انتبه في العفو: الندب إلىٰ العفو ليس مطلقاً؛ بل إلىٰ العفو الذي يترتّب عليه إصلاح، فإن كان العفو يترتب عليه مفسدة، فإنه غير مأمور به ولا مندوب إليه، فتنبه إلىٰ هـٰذا؛ لأن من الناس من يظن أن العفو مندوب إليه مطلقاً، وليس الأمر كذلك؛ فإن الله جل وعلا لم يطلق الأمر بالعفو، بل قال: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ والإصلاح قيد في العفو، فإذا كان العفو لا إصلاح فيه فالحزم والشرع أن لا يكون عفو، وهـٰذا قل من ينبه إليه، فلا بد من تقييد العفو بالإصلاح، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ونبّه إليه شيخنا كثيراً.