قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة السابعة والثلاثون: اعتبر الله القصد والإرادة في ترتب([1]) الأحكام على أعمال العباد
وهذا الأصل العظيم: صرح به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: ((إنما الأعمال بالنيات)).([2])
والمقصود هنا أنه ورد آيات كثيرة جداً في هذا الأصل: فمنها -وهو أعظمها- أنه رتّب حصول الأجر العظيم على الأعمال بإرادة وجهه، لما ذكر الصدقة والمعروف، والإصلاح بين الناس، قال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾([3])، وقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾([4]) وفي مقابله قال: ﴿رِئَاءَ النَّاسِ﴾.([5])
ووصف الله نبيه وخيار خلقه من الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ومن تبعهم بأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. وقال تعالى في الرجعة: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً﴾،([6]) ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾.([7])
وقال تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ﴾ ([8])، وقال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً﴾،([9]) ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾،([10]) ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾([11])، وفي دعاء المؤمنين: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾([12])، فقال الله: ((قد فعلت))([13]). وقال: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ ([14]).
وذكر الله قتل الخطأ ورتب عليه الدِّية والكفارة، ثم قال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾،([15]) وقال في([16]) الصيد: ﴿وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾([17])، وقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾. ([18]) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن أعمال الأبدان وأقوال اللسان، صحتها وفسادها، ورتب أجرها أو وزرها: بحسب ما قام بالقلب([19])".
هذه قاعدة مهمة، وهي كما قال الشيخ رحمه الله: (وهـٰذا الأصل العظيم صرح به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: ((إنما الأعمال بالنيات))) هـٰذا تصريحاً، وإلا فقد ورد في النصوص ما يدل على أن العبرة في أعمال القلوب ومقاصدها ما لا حصر له، سواء في الكتب أو في السنة.
فمن ذلك في السنة -وكان من الجدير أن يأتي به المؤلف رحمه الله- قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ فيما يرويه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة: ((إن الله لا ينظر إلىٰ صوركم ولا إلىٰ أجسامكم ولكن ينظر إلىٰ قلوبكم)) وفي رواية ((وأعمالكم))([20]). فالنظر من الله جل وعلا للقلب وما يقوم به، والحساب يوم القيامة في الأصل على أعمال القلوب، وأعمال الجوارح تابع.
ولذلك كان في الموازنة عمل القلب أعظم أجراً وثواباً عند الله عز وجل من عمل البدن، هـٰذا واحد.
ثانياً: أن عمل القلب يؤجر عليه الإنسان، ولو لم يرافقه أو يصاحبه عمل البدن، أما عمل البدن فلو كان الليل والنهار؛ لكن لم يصاحبه عمل القلب فإنه لا ينفع صاحبه، وهـٰذا ثاني ما يدلّ على أن الفضل والسبق لعمل القلب.
مما يدل أيضاً على أهمية أعمال القلوب أن آثام القلوب أعظم بكثير من آثام الجوارح، فالرياء يسيره يمنع دخول الجنة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))([21]). ولم يرد مثل هـٰذا التهديد على شيء قليل من أعمال الجوارح.
مما يدلّ على أهمية عمل القلب أيضاً أنّ فساد القلب سبب للعقوبة العظيمة ولو صلح الظاهر، فإن الله جل وعلا قد قال في المنافقين الذين فسدت قلوبهم مع صلاح ظواهرهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾([22]). قال ابن القيم رحمه الله: وآثام القلوب أعظم من آثام الجوارح، قال: والناس يغيب عنهم مثل هـٰذا الأمر، فتجد الشخص يعظم في عينه الزنى، ويعظم في عينه كبائر الذنوب من أعمال الجوارح؛ لكنه يغفل عن طوام من أعمال القلوب هي أعظم من تلك الأعمال التي بالجوارح كالزنى وغيره.
فهو ضرب بذلك مثلاً بيسير الرياء يغفل عنه كثير من الناس مع أنه أعظم خطراً وأثراً من كثير من كبائر الذنوب التي تكون بالجوارح، وهـٰذا يوجب على الإنسان أن يعتني بقلبه من حيث التخلية ومن حيث التحلية:
من حيث التخلية: إزالة الآفات عنه ومراعاته ومراقبته.
ومن حيث التحلية: الاشتغال بأعمال القلوب.
ولا يعني هـٰذا أن يتخلّف عمل الظاهر؛ فإنه لا يمكن أبداً إطلاقاً أن يصلح الجوهر ويصلح القلب ويكون العمل فاسداً، أبداً لا يمكن؛ بل كل فساد في الظاهر يدل على نوع فساد في الباطن، هذه قاعدة لا إشكال فيها ولا ريب.
ذكر المؤلف رحمه الله في هذه القاعدة أدلة عديدة تدل على أن عظيم الأجر يرتَّب على ما في القلب من عمل، قال: (منها وهو أعظمها أنه رتب) يعني من الأدلة على هذه القاعدة -وهي اعتبار القصد والإرادة في ترتب الأحكام على أعمال العباد- (وهو أعظمها أنه رتب حصول الأجر العظيم على الأعمال بإرادة وجهه) لما ذكر الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس.
فدل ذلك على أن عدم إرادة وجه الله عز وجل في هذه الأعمال وفي هذه القربات يذهب أجرها ولا يحصِّل الإنسان ما رُتب عليها من الفضل: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ من الإصلاح بين الناس ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾([23]). فإن لم يكن ابتغاء لوجه الله فإنه لا يحصل له الأجر العظيم، والأمثلة التي ذكرها واضحة في غالبها. نعم.
([2]) البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... حديث رقم (1).
مسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال. حديث رقم (1907).
([20]) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، حديث رقم (2564).