قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة الثامنة والثلاثون: قد دلت آيات كثيرة على جبر المنكسر قلبه،ومن تشوّفت نفسه لأمر من الأمور إيجاباً أو استحباباً وهذه قاعدة لطيفة، اعتبرها الباري وأرشد عباده إليها في عدة آيات".
المؤلف يقول: (قد دلت آيات كثيرة) والحقيقة أنها فائدة وليست قاعدة، (قد دلت آيات كثيرة على جبر خاطر المنكسر قلبه) جبر خاطره بأن يعامل أو يشرع له من الأحكام ما يسدّ خلته، ما يسد ما حصل له من كسر، واستعمل الجبر في مقابل الكسر؛ لأن الجبر يستعمل في الكسر الحسي وفي الكسر المعنوي، قال: (ومن تشوفت نفسه لأمر من الأمور إيجاباً أو استحباباً) فراعى الشارع نفسية هـٰذا المتشوِّف بأن شرع له ما يحصل به جبر كسره وحصول شيء من مقصوده إيجاباً أو استحباباً، على ما سيأتي، و هذه القاعدة لطيفة اعتبرها الشارع وأرشد عباده إليها في عدة آيات منها:
(منها: المُطلَّقة، فإنها لما كانت في الغالب منكسرة القلب حزينة على فراق بعلها، أمر الله بتمتيعها على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، متاعاً بالمعروف).
المتاع هو ما تعطاه المرأة بسبب الفراق؛ بسبب فراق زوجها بالطلاق، واختلف أهل العلم رحمهم الله في هذه المتعة: هل هي واجبة لكل مطلقة أم هي واجبة لبعض المطلقات؟
فقال بعضهم: إنها تجب للمطلقة التي لم يسمّ لها مهر، لم يفرض لها مهر.
وقال آخرون: إنها واجبة لكل مطلقة؛ لقوله تعالىٰ: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)﴾([1]). وهـٰذا القول الأخير هو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وهو الذي يوافق ظاهر الآيات، فإن قوله: ﴿حَقًّا﴾ أي ثابتاً، ولا يقال ذلك إلا فيما كان واجباً، هـٰذا من وجه.
ومن وجه آخر أنه قال: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾. والأخذ بخصال التقوى واجب، فدلت الآية من وجهين:
من قوله: ﴿حَقًّا﴾.
ومن قوله: ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾.
أن متعة المطلقة واجبة، والمتعة تحصل بكل ما يحصل به جبر خاطرها، لا يلزم أن يقدَّر ذلك بمبلغ معين، إنما ما يحصل به جبر الخاطر، وهـٰذا هو القول الصحيح.
(وكذلك من مات زوجها عنها، فإن من تمام جبر خاطرها أن تمكث عند أهله سنة كاملة وصية ومتعة مرغّب فيها).
وهـٰذا الأمر كان واجباً في أول الأمر، ثم نسخ بقوله تعالىٰ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾([2]). فنسخت هذه الآية الوجوب في قوله تعالىٰ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾([3]).
بعضهم قال: إنها ناسخة لها بالكلية، فلا يجب ولا يستحب.
وقال آخرون -وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله-: إن إبقاء الزوجة في بيت الزوج بعد وفاته عاماً وتمكينها من ذلك من غير إخراج يستحب.
فالآية الثانية أفادت وجوب التربص، و هذه أفادت أنها تكمل السنة استحباباً.
(وكذلك أوجب الله للزوجة على الزوج النفقة والكسوة في مدة العدة، إذا كانت رجعية، أو كانت حاملاً مُطْلَقاً).
(إذا كانت حاملاً مُطْلَقاً) سواء كانت رجعية أو غير رجعية، يعني الحامل البائن من طلقت آخر ثلاث تطليقات هل لها النفقة والكسوة؟ الجواب: نعم لها النفقة والكسوة؛ لقوله تعالىٰ: ﴿وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾([4]). فأوجب النفقة عليهن، ومدّ ذلك إلىٰ وضع الحمل.
(وكذلك أوجب الله للزوجة على الزوج النفقة والكسوة في مدة العدة، إذا كانت رجعية، أو كانت حاملاً مُطْلَقاً).
ما هي الرجعية؟ التي يمكن لزوجها مراجعتها، وهي من طُلقت دون ثلاث تطليقات.
(وقال تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾([5])).
شرع الله عز وجل ندبًا أن يعطى هٰؤلاء بسبب حضورهم القسمة، وهي قسمة الميراث، فإذا حضر ذوو القربى واليتامى من الأقارب وغيرهم والمساكين من الأقارب وغيرهم شُرِع أن يعطوا عند قسمة الميراث ما يجبر خواطرهم.
(ويدخل الواجب والمستحب في مثل قوله في سورة الأنعام: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾([6])).
يوم حصاد إيش؟ يوم حصاد الزرع، شرع الله عز وجل إعطاء الفقراء وغيرهم ممن تتشوف نفوسهم يوم الحصاد؛ لأنه يوم يتطلع فيه هٰؤلاء إلىٰ ما حصّله أصحاب الزروع بسبب الحصاد، فشرع أن يعطى هٰؤلاء شيئاً يسكن نفوسهم ويجبر فقرهم وكسرهم.
الشيخ قال: (ويدخل الواجب والمستحب) يشمل الواجب الزكاة ويشمل المستحب.
(وكذلك إخباره عن عقوبة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين، وتواصوا أن لا يدخلنها اليوم عليكم([7]) مسكين.
وقال تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾،([8]) إلى قوله: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾([9])).
هل يجوز أن يقول الرجل لوالديه: أف إذا كانا شابين قويين؟ لا، إذاً لماذا قال: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾؟ لأن الحالة التي يبلغ فيها هٰؤلاء من الضعف ما يحتاجان فيه إلىٰ أن تراعى أحوالهما وأن يجبر ضعفهما برقة القول ولطافة العبارة وحسن العشرة، وإلا فهـٰذا ينهى عنه في كل مقام وفي كل حال، لكن في هذه الحال يتأكد النهي، وهـٰذا يدل على مراعاة الشارع لأحوال الناس كما قال: (قد دلت آيات كثيرة على جبر خاطر المنكسر قلبه).
(وقد ذكر الله جبره لقلوب أنبيائه وأصفيائه أوقات الشدَّات، وإجابته لأدعيتهم أوقات الحاجات والضرورات.([10])
فهذا أصل قد اعتبره الله، وأرشد إليه، فينبغي للعبد أن يكون هذا على باله في وقت المناسبات، ويعتبره عند وجود سببه) .