قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة التاسعة والثلاثون: في طريقة القرآن في أحوال السياسة الداخلية والخارجية طريقة القرآن في هذا أعلى طريقة، وأقرب إلى حصول جميع المصالح الكلية، وإلى دفع المفاسد، ولو لم يكن في القرآن من هذا النوع إلا قوله تعالىٰ: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾،([1]) وإخباره عن المؤمنين أن ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾،([2]) فالأمر مفرد مضاف إلى المؤمنين.
وفي الآية الأولى: قد دخلت عليه: (أل)، المفيدة للعموم والاستغراق، يعني أن جميع أمور المؤمنين وشؤونهم واستجلاب مصالحهم واستدفاع مضارهم، معلقٌ بالشورى والتعاون على تعيين الأمر الذي يجرون عليه. ([3])
وقد اتفق العقلاء أن الطريق الوحيد للصلاح الديني والدنيوي هو طريق الشورى.
فالمسلمون قد أرشدهم الله إلىٰ أن يهتدوا إلى مصالحهم، وكيفية الوصول إليها بإعمال أفكارهم مجتمعة، فإذا تعينت المصلحة في طريق سلكوه، وإذا تعينت المضرة في طريق تركوه، وإذا كان في ذلك مصلحة ومضرة، نظروا: أيهما أقوى وأولى وأحسن عاقبة.
وإذا رأوا أمراً من الأمور هو المصلحة ولكن ليست أسبابه عتيدة عندهم ولا لهم قدرة عليها، نظروا بأي شيء تدرك تلك الأسباب، وبأي حالة تنال على وجه لا يضر.
وإذا رأوا مصالحهم تتوقف على الاستعداد بالفنون الحديثة والاختراعات الباهرة، سعوا لذلك بحسب اقتدارهم، ولم يملكهم اليأس والاتكال على غيـرهم الملقي إلى التهلكة، وإذا عرفـوا -وقد عرفوا- أن السعي لاتفاق الكلمة وتوحيد الأمة هو الطريق الأقوم للقوة المعنوية جدّوا في هذا واجتهدوا، وإذا رأوا المصلحة في المقاومة والمهاجمة أو في المسالمة والمدافعة بحسب الإمكان، سلكوا ما تعينت مصلحته، فيُقْدمون في موضع الإقدام، ويحجمون في موضع الإحجام، وبالجملة لا يدعون مصلحة داخلية ولا خارجية، دقيقة ولا جليلة إلا تشاوروا فيها، وفي طريق تحصيلها وتنميتها، ودفع ما يضادها وينقصها.
فهذا النظام العجيب الذي أرشد إليه القرآن: هو النظام الذي يصلح في كل زمان ومكان، وفي كل أمة ضعيفة أو قوية".
و هذه الفوائد المهمة ذكرها الشيخ رحمه الله، وهي ليست من قواعد التفسير إنما من الفوائد، يقول رحمه الله: (في طريقة القرآن في أحوال السياسة الداخلية والخارجية) المراد أن القرآن بيّن لأمة الإسلام ما تصلح به حياتهم فيما بينهم، وما تستقيم به علاقتهم مع غيرهم، فالسياسة هي القيام على الشيء وإصلاحه، هـٰذا معناها، الشريعة جاءت لبيان المصالح للناس، وينطبق على ما جاءت به الشريعة في هـٰذا الأمر قول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾([4]) في أمر الدين وأمر الدنيا، في أمر علاقات الناس بعضهم ببعض على اختلاف أنواعهم وأجناسهم وأماكنهم وأزمانهم.
(ومن ذلك قوله تعالىٰ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾([5]). فهذه الآية نص صريح بوجوب([6]) الاستعداد للأعداء بما استطاعه المسلمون([7]) من قوة عقلية، ومعنوية ومادية، مما لا يمكن حصر أفراده، وفي كل وقت يتعيّن سلوك ما يلائم ذلك الوقت ويناسبه. ومن ذلك قوله تعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾،([8]) ونحوها من الآيات التي أرشد الله فيها إلى([9]) التحرز من الأعداء، فكل طريق وسبب يُتحرز به من الأعداء فإنه داخل في هذا، ولكل وقت لبوسه، ومن عجيب ما نبّه عليه القرآن من النظام الوحيد، أنّ الله عاتب المؤمنين بقوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾([10]). فأرشد عباده إلى أنه ينبغي أن يكونوا بحالة من جريان([11]) الأمور على طُرقها،([12]) لا يزعزعهم عنها فَقْدُ رئيس وإن عظُم.
وما يكون ذلك إلا بأن يستعدوا لكل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية بعدة أناس، إذا فُقد أحدهم قام مقامه غيره، وأن تكون الأمة متوحدة في إرادتها وعزمها ومقاصدها وجميع شؤونها، قصدهم جميعاً أن تكون كلمة الله هي العليا، وأنْ تقوم جميع الأمور بحسب قدرتهم).
هـٰذا فيما ذكره الله عز وجل مما وقع من بعض الصحابة في غزوة أحد لما شاع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قتل، فكان بعض الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم من شدة وقع الخبر عليه أن رمى بسيفه وجلس، فمر بهم بعض الصحابة فقالوا لهم: ما الذي حملكم على هـٰذا؟ قالوا: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قتل. فقال لهم: قوموا فقاتلوا على ما قاتل، أو قوموا حتى تقتلوا على ما قتل. وعاتب الله جل وعلا الصحابة الذين وقع منهم ذلك بقوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ﴾ بلا قتل و لا غيره: ﴿أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ ثم بين عقوبة من كان منه هـٰذا فقال: ﴿وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا﴾([13])؛ لأن الله جل وعلا لا يضره تقصير المقصر، ولا ينفعه عمل العامل، كما قال في الحديث الإلهي: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني))([14]). إنما الأمر كما قال الله جل وعلا: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا﴾.([15])
(وقال تعالىٰ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾،([16]) أي: اتقوا غضبه وعقابه بالقيام بما أمر به من كل ما فيه الخير والصلاح لكم جماعة ومنفردين، فكل مصلحة أمر الله بها وهي متوقفة في حصولها أو في كمالها على أمر من الأمور السابقة أو اللاحقة، فإنه يجب تحصيلها بحسب الاستطاعة. فلا يكلفهم الله ما لا يطيقون. وكذلك كل مفسدة ومضرة لا يمكن اجتنابها إلا بسلوك بعض الطرق السابقة أو اللاحقة فإنها داخلة في تقوى الله تعالىٰ، وذلك أن لازم الحق حق، والوسائل لها أحكام المقاصد ([17])).
و هذه الآية لا تعارض قوله تعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾([18]). فإن الله جل وعلا في ذلك الموضع في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ بيّن ما يجب من التقوى، وأن الواجب على المؤمن أن يبلغ في تقواه ما يستحقه الله جل وعلا من التقوى، ثم جاء بيان أن هـٰذا التكليف على قدر الاستطاعة كسائر ما أمر الله به فقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾([19]) أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بقدر ما تسعه نفوسكم وما تقدر عليه نفوسكم، فلا تعارض بين الآيتين، كما اختار ذلك شيخ الإسلام رحمه الله وغيره من المحققين.
(ومن الآيات الجامعة في السياسة قوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾،([20]) والآية التي بعدها).
طبعاً الشيخ في السياسة هنا يعني ما تصلح به شؤون الناس وتقوم به مصالح دنياهم، ليس مراده السياسة في الاصطلاح المعاصر، إنما المراد بالسياسة ما تستقيم به شؤون الناس وتحصل به مصالحهم الدنيوية. نعم.
(فالأمانات يدخل فيها أشياء كثيرة، من أجَلِّها: الولايات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، الدينية والدنيوية. فقد أمر الله أن تؤدى([21]) إلى أهلها بأن يجعل فيها الأكْفاء لها، وكل ولاية لها أكْفاء مخصوصون. فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال، فإنّ صلاح الأمور بصلاح المتولين والرؤساء فيها والمدبرين لها والعاملين لها،([22]) ويجب تولية الأمثل فالأمثل: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ﴾.([23])
فصلاح المتولين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة، وضده بضده.
ثم أرشدهم([24]) إلى الحكم بين الناس بالعدل الذي ما قامت السماوات والأرض إلا به، فالعدل قوام الأمور وروحها، وبفقده تفسد الأمور.(كلها، ويختل الميزان لكل شيء).
والحكم بالعدل من لازمه معرفة العدل في كل أمر من الأمور،([25]) فإذا كان المتولون للولايات هم الكُمَّل من الرجال والأكْفاء للأعمال فَجَرَتْ تدابيرهم وأفعالهم على العدل والسداد، متجنبين للظلم والفساد، ترقت الأمة وصَلَحت أحوالها، وتمام ذلك في الآية الأخرى التي أمر الله فيها بطاعة ولاة الأمور([26])، فهل يوجد أكمل وأغنى من هذه السياسة الحكيمة (الرشيدة) التي عواقبها أحمد العواقب؟
ومن الآيات المتعلقة بالسِّياسة الشرعية: جميع ما شرعه الله من([27]) الحدود على الجرائم، العقوبات على المتجرئين على حقوقه وحقوق عباده وهي في غاية العدالة والحسن وردع المجرمين والنَّكال والتخويف لأهل الشر والفساد،([28]) وفيها صيانة لدماء الخلق وأموالهم وأعراضهم.
والآيات التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكلّم بالحق مع من كان وفي أي حال من الأحوال.
وكذلك ما فيها من النهي عن الظلم فيه إرشاد لإعطاء الناس الحرية النافعة التي معناها التكلم بالحق،([29]) وفي الأمور التي لا محظور فيها، كما أن الحدود والعقوبات والنهي عن الكلام القبيح والفعل القبيح فيها رد على الحرية([30]) الباطلة([31]). فإن ميزان الحرية الصحيحة النافعة هو ما أرشد إليه القرآن.([32])
وأما إطلاق عِنان الجهل والظلم والأقوال الضارة للمجتمع المحللة للأخلاق، فإنه من أكبر أسباب الشر والفساد،([33]) وانحلال الأمور والفوضوية المحضة.([34])
فنتائج الحرية الصحيحة أحسن النتائج، ونتائج الحرية الفاسدة أقبح النتائج، فالشارع فتح الباب للأُولى، وأغلقه عن الثانية، تحصيلاً للمصالح ودفعاً للمضار والمفاسد، والله أعلم).
([3]) في نسخة: الاهتداء إلى الأمر الذي يجرون عليه في حل مشكلاتهم، وتدعيم سلطانهم وتجنيبهم الخلاف المفضي إلى تفكك قواهم وانحلال عراهم.
([17]) في نسخة: كذلك كل ما نهاهم عنه، فإنه أعطاهم من القوى والأسباب ما يمكنهم من البعد عنه ومن الحلال ما يستغنون به.
([26]) في نسخة: بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.
([31]) في نسخة: التي يتشدق بها الحمقى والسفهاء الذين عموا وصموا، فلا يرون ما حل بأمم الغرب من الدمار من ثمرات هذه الحرية الفاجرة الخاسرة.