قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة الأربعون: في دلالة القرآن على أصول الطب، أصول الطب ثلاثة: حفظ الصحة باستعمال الأمور النافعة. والحمية عن الأمور الضارة.ودفع ما يعرض للبدن من المؤذيات.
ومسائل الطب كلها تدور على هذه القواعد.
وقد نبّه القرآن عليها في قوله تعالى في حفظ الصحة ودفع المؤذي: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا﴾([1])".
في هذه القاعدة التي ذكرها المؤلف رحمه الله هي من الفوائد التي تُستفاد من القرآن، وهي ما يتعلق بأصول الطب.
وأصول الطب: أي قواعده التي ترجع إليها فروعه.
فأصول الشيء هو ما يرجع إليه غيره، والمراد بالطب هنا طب الأبدان، والقرآن لم يأت في الحقيقة لطبّ الأبدان، فإن هـٰذا تابع، وإنما جاء في الأصل لطب القلوب وإصلاحها، وأما طب الأبدان فهو تابع، ولكن مع هـٰذا فإن القرآن احتوى على الإشارة إلىٰ أصول طب البدن، وهو ما ذكره المؤلف رحمه الله من حفظ الصحة في قوله: (أصول الطب ثلاثة: حفظ الصحة باستعمال الأمور النافعة، والحمية عن الأمور الضارة، ودفع ما عرض للبدن من المؤذيات). ويستدل المؤلف رحمه الله أو يذكر ما في الكتاب من الإشارة إلىٰ هذه الأصول الثلاثة.
(وقد نبّه القرآن عليها في قوله تعالى في حفظ الصحة ودفع المؤذي: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا﴾،([2]) فأمر الله بالأكل والشرب اللذين لا تستقيم الأبدان إلا بهما، وأطلق ذلك ليدل على أن المأكول والمشروب بحسب ما يلائم الإنسان، وينفعه في كل وقت وحال).
ما معنى أطلق ؟ أي إنه لم يقيد بشيء، لم يقل كلوا كذا أو اشربوا كذا، بل أطلق الأمر بالأكل والشرب دون تقييده بشيء معين، فقال: ﴿وكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾.([3])
(ونهى عن الإسراف في ذلك: إما بالزيادة في كثرة المأكولات والمشروبات، وإما بالتخليط (في المطعوم والأوقات) ، وهذا حمية عن كل ما يؤذي الإنسان. فإذا كان القوت الضروري من الطعام والشراب إذا صار([4]) بحالة يتأذى منه البدن ويتضرّر منع منه، فكيف بغيره؟
وكذلك أباح الله للمريض التيمم إذا كان استعمال الماء يضره، حمية له عن المضرات كلها).
وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾([5]) فأباح التيمم في هاتين الحالين:
حال المرض.
وحال السفر إذا فقد الماء.
(وأباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ويفدي، وهذا من باب الاستفراغ وإزالة ما يؤذي البدن، فكيف بما ضرره أكبر من هذا؟.
ونهى عن الإلقاء باليد إلى التهلكة، فيدخل في ذلك استعمال كل ما يتضرر به الإنسان من الأغذية والأدوية، ودفع ما يضر بمدافعته الذي لم يقع، أو التحرز عنه، وبمعالجة الحادث بالطريقة([6]) الطبية النافعة.
وكذلك ما ذكره الله في كتابه من الأعمال كلها: كالجهاد والصلاة والصوم والحج وبقية الأعمال والإحسان إلى عبيده؛([7]) فإن فيها صحة للأبدان وتمريناً لها، ورياضة وراحة للنفس، وفرحاً للقلب، وأسراراً خاصة تحفظ الصحة وتنميها وتزيل عنها المؤذيات.
وبالجملة فإن جميع الشرائع ترجع إلى صلاح القلوب والأرواح والأخلاق والأبدان والأموال والدنيا والآخرة، والله أعلم).
والأصل في هـٰذا كله ما بدأ به رحمه الله في قوله: (ترجع إلىٰ صلاح القلوب والأرواح) فإنها إذا صلحت صلح سائر حال الإنسان، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))([8]). فصلاح البدن وقوته ونشاطه مع فساد القلب لا يغني عن صاحبه شيئاً؛ بل هو كما قال جل وعلا في المنافقين: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾. فجمال في المظهر وحسن في المنطق؛ لكن بماذا شبههم؟ ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ﴾([9]) لم يطلق بأنها خشب؛ لأنّ الخشب قد ينتفع بها؛ بل قال: ﴿خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ﴾ يعني لا ينتفع منها ولا ينتفع بها ولا يحصل منها أي نفع للإنسان، هـٰذا هو وصف من صلح بدنه وفسد جوهره وقلبه، فالأصل كل الأصل في صلاح القلب، إذا صلح القلب فلا عليك؛ كل ما بعده يتبعه.