قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الحادية والأربعون: قصر النظر على الحالة الحاضرة.
يرشد الله عباده في كتابه من جهة العمل إلى قصر نظرهم على الحالة الحاضرة التي هم فيها، ومن جهة الترغيب في الأمر والترهيب من ضده إلى ما يترتب عليه([1]) من المصالح، ومن جهة النعم بالنظر إلى ضدها".
هذه القاعدة هي فائدة مستقراة من طريق القرآن في هذه الأمور:
أما من جهة العمل فالقرآن يحث على قصر النظر في الوقت الحاضر.
وأما من جهة الحث والترغيب والترهيب مما يضرّ فإنه يذكر العواقب في الدنيا والآخرة.
وأما من جهة النعم التي يعيشها الإنسان فإنه يذكِّر بها من جهة النظر إلىٰ ضدها.
فعندنا ثلاثة أمور بين المؤلف رحمه الله طريق القرآن فيها:
الأمر الأول: العمل.
الأمر الثاني: طريق القرآن في الترغيب والترهيب.
الأمر الثالث: طريق القرآن في التذكير بالنعم.
ننظر إلىٰ ما ذكره رحمه في هذه القاعدة:
(وهذه القاعدة الجليلة دل عليها([2]) القرآن في آيات عديدة، وهي من أعظم ما يدلّ على حكمة الله، ومن أعظم ما يرقّي العاملين إلى كل خير ديني ودنيوي، فإنَّ العامل إذا اشتغل بعمله الذي هو وظيفة وقته، فإنْ قصر فِكره وظاهره وباطنه عليه نجح، وتم له الأمر بحسب حاله.
وإن نظر وتشوقت نفسه إلى أعمال أخرى لم يحن وقتها بعدُ فترت عزيمته، وانحلّت همته، وصار نظره إلى الأعمال الأخرى ينقص من إتقان عمله الحاضر وجمع الهمة عليه.
ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت همته وقلّ نشاطه، وربما كان الثاني متوقفاً على الأول في حصوله أو تكميله، فيفوت الأول والثاني، بخلاف من جمع قلبه وقالبه، وصار أكبر همه([3]) القيام بعمله الذي هو وظيفة وقته؛ فإنه إذا جاء العمل الثاني فإذا هو قد استعد له بقوة ونشاط، ويتلقاه بشوق، وصار قيامه بالأول معونة على قيامه بالثاني.
ومن هذا: قوله تعالىٰ مصرحاً بهذا المعنى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾.([4])
فانظر كيف حالهم الأولى وأمنيتهم وهم مأمورون بكفِّ الأيدي، فلما جاء العمل الثاني ضعفوا كل الضعف عنه.([5])
ونظير هذا ما عاتب الله به أهل أُحد في قوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾،([6]) وقد كشف هذا المعنى كل الكشف قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾،([7]) لأن فيه تكميلاً للعمل الأول، وتثبيتاً من الله، وتمرُّناً على العمل الثاني.
ونظيره قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِم﴾([8]). فالله أرشد العباد أن يكونوا أبناء وقتهم، وأن يقوموا بالعمل الحاضر ووظيفته، ثم إذا جاء العمل الآخر صار وظيفة ذلك الوقت، فاجتمعت الهمة والعزيمة الصادقة عليه، وصار القيام بالعمل الأول معيناً على الثاني، وهذا المعنى في القرآن كثير).
هـٰذا الكلام مهم جدّاً، ويحتاجه كثير من الناس، لا سيما في هذه الأوقات التي تتعلّق فيها قلوب كثير من الناس بالأماني، فيمني نفسه بأمور كثيرة، ويشتغل بهذه الأماني التي يربط بها قلبه ويعلق بها فؤاده على العمل النافع في الوقت الحاضر، والله جل وعلا قد ملأ وقت العبد بما شرعه من الشرائع، فكل وقت من الأوقات فيه من الوظيفة والعبادة ما يشغل الإنسان، فإذا اشتغل الإنسان بهذه الوظيفة إتقاناً وفعلاً، فإنه قام بما وجب عليه، وأعانه ذلك على استقبال العمل الآخر بهمة ونشاط، أما إذا غفل عن ذلك بالتطلّع للمستقبل المقعِد عن العمل الحاضر فإن ذلك من أعظم أسباب فساد الحاضر وضعف المستقبل، فإن الإنسان قلبه لا يمكن أن يمتلئ بشيئين على درجة واحدة، ولذلك قال الله جل وعلا في ذلك: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾([9]). فلا يمكن أن يشتغل اشتغالاً تامّاً بالعمل الحاضر مع اشتغاله بالعمل المستقبَل؛ بل لابد أن يفرغ فؤاده ويملأ قلبه بالعمل الحاضر، ثم إذا جاء العمل المستقبل اشتغل به.
و هذه مسألة مهمة للغاية، وقد ذكر المؤلف رحمه الله لذلك أمثلة في من خالف العمل ب هذه القاعدة فقال: (ومن هذا: قوله تعالى مصرحاً بهذا المعنى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾) ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ هذه الصيغة من صيغ التعجيب، والاستفهام هنا للتعجيب، يعجِّب النص من حال هٰؤلاء: ﴿قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ والأمر بكف اليد أي الامتناع من القتال، كما قال تعالىٰ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾([10]) المقصود أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منعهم القتال. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أمرهم بأمرين أن يشتغلوا بهما، وهما: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وذلك أن أقواماً كانوا قد تشوفت نفوسهم لقتال الكفار قبل أن يفرضه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وطلبوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأذن لهم في قتال المشركين، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمنعهم من ذلك؛ لأنه لم يُؤذن له بعد ولم يفرض عليهم القتال، ووجّههم النص إلىٰ القيام بعملين عظيمين مهمين لهما أثر بالغ في صلاح القلب واستقامة الحال وثبات الإيمان، وهما: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ هٰؤلاء الذين تشوّفت نفوسهم وتعلّقت بالجهاد لما كتب عليهم القتال؛ لما فُرض في وقته ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ﴾. ﴿إِذَا﴾ هنا الفجائية، وكأنّ الأمر وقع على خلاف ما هو متوقع، فإن المتوقع أن يبادر هٰؤلاء إلى ما طلبوه؛ لكن كان الأمر كما قال: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ أي إنهم جَبُنوا عن القتال؛ بل اقترحوا على الله عز وجل وعلى رسوله تأخير القتال، فقالوا في بقية الآية: ﴿لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾([11]). فطلبوا التأخير -تأخير فرض القتال- بعد أن كانوا قد استعجلوه، وهـٰذا من ثمرة الاستعجال -استعجال ما لم يفرض-.
وقد قال أهل العلم: إنه في الغالب أن الذي يسلك هـٰذا المسلك وهو استعجال الأمور قبل وقوعها وقبل أوانها يُحْرَم الخير ولا يوفق إلى الصواب، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تمنوا لقاء العدو؛ ولكن إذا لقيتموه فاثبتوا))؛ لأن التمني هو اشتغال بمستقبل، وهـٰذا الاشتغال قد يشغله عن فرض الوقت، كما أنه لا يعلم عن حاله إذا جد الجد هل يثبت أو لا.
وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظير هـٰذا أيضاً: ((يا عبد الرحمـٰن لا تبتغي الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها)).([12])
فينبغي للمؤمن أن لا يعرض نفسه لمواطن الفتن؛ بل يستعين الله عز وجل على العمل الحاضر، ثم إذا جاء الأمر وتعيّن عليه ما يكره فليستعن الله عز وجل، والغالب أنه يُعان؛ لأنه لم يشتغل إلا بفرض الوقت، ثم بعد ذلك لما أتاه ما يشقّ عليه كان اشتغاله بالعمل الماضي عوناً له على مقابلة العمل الحاضر.
وهـٰذا أمر يغفل عنه كثير من الناس.
ثم مثل أيضاً بمثال آخر فقال: (ونظير هذا ما عاتب الله به أهل أُحد في قوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾([13])). هٰؤلاء جماعة من الصحابة لم يُدركوا بدراً، فاتهم القتال مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وقعة بدر، تحسَّروا وندموا وقالوا: لئن شهدنا مشهداً ليرين الله ما نصنع. ثم كان الأمر أن جاء الله عز وجل بالمشركين في غزوة أحد، وانكسر أهل الإسلام بعد ظهورهم، وقُتل منهم من قتل، حتى أشيع أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مات، فما كان من بعض الصحابة إلا أن ترك القتال، فقال الله جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ أي رأيتم الموت وأنتم تنظرون، وذلك بما حصل في أحد من القتل والهزيمة.
فينبغي للمؤمن أن يعزم على الخير؛ لكن لا يشتغل بالعزائم عن الأعمال، يصدق الله في الواقع وفي الحاضر، فإذا صدق الله في الواقع والحاضر يصدقه الله في المستقبل؛ لكن أن يعلق قلبه بالمستقبل أو بالعمل الذي لم يبتح له، ويترك اشتغاله بالعمل الحاضر، هـٰذا من أسباب الخذلان في كثير من الأحيان.
ثم قال: (وقد كشف هذا المعنى كل الكشف قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾) ثم قال -وهـٰذا موضع الشاهد-: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ﴾ أي ما يذكرون به من ترك المنكرات وفعل الواجبات ﴿لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ أي ﴿لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ﴾ لأنه أداء لما افترض عليهم، ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ أي سبباً من أسباب الثبات في العمل المستقبلي؛ لأن الطاعات تكسب الإنسان ثباتاً على الحق ورسوخاً فيه.
كل نافلة أو واجب من قول أو عمل من أسباب الثبات على الحق، وهـٰذا ينبغي للمؤمن أن يشغل نفسه به، وهو أن يشتغل بالأمر الحاضر ويترك التعلق بالمستقبل، فقد يأتي المستقبل وأنت غير موجود، فلا تعلق نفسك بالأماني، فالأماني رؤوس أموال المفاليس؛ بل علق نفسك بفريضة الوقت الذي أنت فيه.
ولا يعني هـٰذا أن لا يخطط المؤمن ولا ينظر للمستقبل، لا، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدخر طعام أهله لسنة، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر في أمر المؤمنين وأهل الإسلام في الوقت الحاضر وفي الوقت المستقبل؛ لكن لا يشتغل بالنظر في المستقبل عن العمل الحاضر، هـٰذا هو الذي يرشد إليه كتاب الله عز وجل كما مر معنا في الآيات السابقة.
إذاً انتهى القسم الأول وهو: (إرشاد الله عباده في كتابه من جهة العمل إلىٰ قصر عملهم علىٰ الحالة الحاضرة التي هم فيها). نعم.
(وأما الأمور المتأخرة فإن الله يرشد العاملين إلى ملاحظتها؛ لتقوى هممهم على العمل المثمر للمصالح والخيرات. وهذا كالترغيب المتنوع من الله على أعمال الخير، والترهيب من أفعال الشر، بذكر عقوباتها، وثمراتها الذميمة.
فاعرف الفرق بين النظر إلى العمل الآخر الذي لم يجئ وقته، وبين النظر إلى ثواب العمل الحاضر الذي كلما فترت همة صاحبه زاد وهناً، وكلما اتسع أمله فيما يترتب عليه([14]) من الخيرات استجد نشاطه، وقوي عليه، وهانت عليه مشقته، كما قال تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ ([15])).
وإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكّر المؤمنين في هذه الآية بعد أن أمرهم بعدم الوهن فقال: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ﴾([16]) أي في طلب أعداء الله ورسوله، لا تهنوا بقلوبكم ولا بأعمالكم، أمرهم بهذا الأمر ثم ذكّرهم بأمر مهم يشحذ هممهم على العمل الحاضر والأمر القائم، وهو أنه قال: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ أي يصيبكم الألم ﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ يعني يصيبهم الألم كما يصيبكم؛ لكنْ هناك فارق بين الألَمَيْن، وهو قوله تعالىٰ: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾. وهـٰذا من فضل الله عز وجل على أهل الإسلام: أنهم يرجون ما لا يرجو خصومهم، فإن خصومهم إنما يرجون عزّاً في الدنيا وهي لا تستقر: ﴿مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى﴾([17]). حتى لو تحصل وتحقق العز فهو قليل، ولكن أهل الإسلام الذين نهاهم الله عن الوهن في ابتغاء القوم يرجون نصر الدنيا؛ لأن الله قال: ﴿لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾([18]). فهـٰذا ثابت للرسل وأتباعهم، ويرجون جنة عرضها السماوات والأرض، فهم يرقبون إحدى الحسنيين:
إما النصر والظفر في الدنيا.
وإما الشهادة التي يحصل بها عز الآخرة وفوز الآخرة.
فذكر الله عز وجل النظر إلىٰ المستقبل ليحثّهم على أي شيء؟ على القيام بالعمل الحاضر، وهـٰذا يؤكد ما ذكره المؤلف رحمه الله في أول الأمر من أنه ينبغي للمؤمن أن يشغل نفسه بالاشتغال بالعمل الحاضر، وأن لا يكلف نفسه الاشتغال بالمستقبل، المستقبل غيب؛ ما تدري تدركه أو لا تدركه، اشتغل بإصلاح حالك ووقتك وعملك في وقتك الحاضر، أما المستقبل فإذا أصلحت اليوم يصلح لك غداً.
(وأما إرشاده من جهة النعم التي على العبد مِنَ الله بالنظر إلى ضدها ليعرف قدرها، ويزداد شكره لله تعالى عليها، ففي القرآن منه كثير، يُذكِّر عباده نعمته عليهم بالدين والإسلام وما ترتب على ذلك من النعم، كقوله في سورة آل عمران: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً﴾ إلىٰ قوله: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾،([19]) وفي قوله: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾،([20]) أي إلى الزيادة لشكر نعم الله.
وقوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.([21])
وقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة﴾،([22]) إلى آخر الآيات، حيث يذكّرهم أن ينظروا إلى ضد ما هم فيه من النعم والخير؛ ليعرفوا قدر ما هم فيه منها.
وهذا الذي أرشد إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظـروا إلى مـن هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم))([23]). وقوله تعالى: ﴿فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾،([24]) وقوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾،([25]) إلى آخرها).
هذه الفائدة الثالثة واضحة، وهي: أنه في النعم الدينية والدنيوية ليتّضح لك عظم قدر نعمة الله عليك فانظر إلىٰ أي شيء؟ انظر إلىٰ ضدها ليتبين لك عظم قدر هذه النعمة التي أنعم بها عليك، سواء في النعم الدينية أو النعم الدنيوية؛ لتشكر الله عز وجل على هذه النعم.
أما الاستزادة من النعم الأخروية فإنه يكون بالنظر إلىٰ من هو أعلى.
وأما لكمال شكر النعم الدنيوية فإنه يكون بالنظر إلىٰ من هو أدنى.
ولذلك نبّه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلىٰ هـٰذا فقال: ((فإنه أجدَر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)). هـٰذا في أمر الدنيا، أما أمر الآخرة فإن النظر إلىٰ العلو لا إلىٰ السُّفُل؛ لأن الإنسان إذا نظر إلىٰ من هو أسفل منه قد يكون ذلك سبباً لقعوده؛ لكن ينظر إلىٰ من هو أسفل منه؛ ليشكر ما هو عليه ويزداد في العمل الصالح، حتى يرتقي إلىٰ الدرجات العليا من الصلاح والتقى، فعندنا نظران:
في النعم الدنيوية النظر إلىٰ من هو أسفل.
وأما النعم الدينية فالنظر فيها إلىٰ الجانبين:
إلىٰ من هو أسفل لتشكر نعمة الله عليك بالهداية.
وإلى من هو أعلى لتزداد خيراً ورقيّاً في الصلاح.