قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الثانية والأربعون: الحقوق لله ولرسوله.
في أن الله قد ميز في كتابه بين حقه الخاص وحق رسوله الخاص والحق المشترك([1]).
(واعلم بذلك أن) الحقوق ثلاثة:
حق لله وحده، لا يكون لغيره:وهو عبادته وحده لا شريك له بجميع أنواع العبادات.
وحق لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاص: وهو التعزير والتوقير، والقيام بحقه اللائق([2])، والاقتداء به.
وحق مشترك: وهو الإيمان بالله ورسوله، وطاعة الله ورسوله، ومحبة الله رسوله.
وقد ذكر الله الحقوق الثلاثة في آيات كثيرة من القرآن، فأما حقه([3]): فكل آية فيها الأمر بعبادته وإخلاص العمل له، والترغيب في ذلك، وهذا شيء لا يحصى.
وقد جمع الله ذلك في قوله: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، وهذا مشترك".
الحقوق الثلاثة في هذه الآية، هـٰذا معنى قوله: (وقد جمع الله ذلك في قوله) أي الحقوق الثلاثة: حقه الخاص، وحق رسوله الخاص، وحق الله ورسوله المشترك ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ هـٰذا حق مشترك؛ لكن هـٰذا الاشتراك في الأصل -في أصل الإيمان-؛ لكن ما يجب في حق الله ليس كما يجب في حق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نعم.
(﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾، فهذا خاص بالرسول).
هـٰذا على أحد قولي أهل العلم في تفسير قوله تعالىٰ: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾؛ فإن من العلماء من قال: إن الضمير في قوله: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ يعود إلىٰ أقرب مذكور، وهو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالمعنى: وتعزروا الرسول وتوقروه.
وتعزيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي نصرته وتأييده.
وتوقيره: إجلاله وتعظيمه.
فمعنى التعزير: النصر والتأييد.
ومعنى التوقير: الإجلال والتقدير.
هل هـٰذا حق للرسول خاص؟ حتى على هـٰذا المعنى، هل هو حق خاص له؟ نصرة الله أليست واجبة؟ قال عز وجل: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾([4]) لكن النصرة التي لله غير التي للرسول، والتوقير حق لله كما هو حق للرسول: ﴿مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)﴾.([5])
فحتى على القول بأن الضمير يعود للرسول فإنه ليس خاصّاً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل حق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حق لله جل وعلا.
ثم اعلم أن حق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق لله في الأصل؛ لأن الله هو الذي فرضه وهو الذي أمر به، ولو لم يأمر به ويفرضه لما كان حقّاً للرسول.
كذلك حق الوالدين، حق الأقارب، حق الجار، إنما تضاف إليهم بسبب أنهم المستحقون لهذه الحقوق؛ لكن هي في الحقيقة حق لله عز وجل، ولذلك التوبة من حق الآدمي تكون:
بالاستغفار، وهـٰذا يكون في حق الله.
وبرد المظالم، هـٰذا يكون في حق الآدمي.
فكل حق للآدمي فيه شائبة حق لله؛ لأن الله هو الذي حقه، يعني هو الذي أثبته وهو الذي فرضه.
والقول الثاني في تفسير هذه الآية: أن الضمائر عائدة إلىٰ الله ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ﴾([6]) كلها عائدة إلىٰ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهذان القولان مشهوران في تفسير الآية.
وقال هٰؤلاء: إن ذكر الرسول في الآية تبع ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾([7]) وذكر رسوله تبعاً، وإلا فالكلام في بيان حق الله، بقرينة أنه قال: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ ولا إشكال عند أهل العلم بأن التسبيح لا يكون للرسول، إنما التسبيح حق له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
(﴿وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾([8]) فهذا حق لله وحده.
وقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ في آيات كثيرة.
وكذلك: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
وكذلك قوله: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه﴾،([9]) وقال تعالىٰ: ﴿سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾ فهذا مشترك، ﴿إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾([10]) وهذا مختص بالله تعالى).
لأن الرغبة لا تكون إلا لله جل وعلا، فلا يجوز صرفها لغيره، ولو صرفت لغيره لكانت شركاً.
أما الإيتاء من الفضل فهـٰذا يكون من الله عز وجل ابتداءً، ويكون من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يعطيهم إياه من الصدقات والغنائم وغير ذلك.
(ولكن ينبغي أن يعرف العبد من كل وجه أن الحق المشترك ليس معناه أن ما لله منه يثبت نظيره من كل وجه لرسوله،([11]) بل المحبة والإيمان بالله والطاعة لله لا بد أن يصحبها التعبد والتعظيم لله والخضوع.([12])
وأما المتعلق بالرسول من ذلك: فإنه حب في الله، وطاعة لأجل أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله([13])؛ بل حق الرسول على أمته من حق الله تعالى،([14]) فيقوم المؤمن به([15]) امتثالاً لأمر الله وعبودية له، وقياماً بحق رسوله وطاعة له.
وإنما قيل له حق الرسول، لتعلقه بالرسول، وإلا فجميع ما أمر الله به وحث عليه من القيام بحقوق رسوله، وحقوق الوالدين([16]) والأقارب([17]) وغيرهم، كله حق لله تعالى، فيقوم به العبد امتثالاً لأمر الله وتعبداً له، وقياماً بحق ذي الحق، وإحساناً إليه، إلا الرسول فإنّ الإحسان منه كله إلى أمته، فما وصل إليهم خير إلا على يديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليماً).
اللهم صل وسلم على رسولك.