قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الثالثة والأربعونُ : الأمر بالتثبت.
يأمر الله بالتثبت وعدم العجلة في الأمور التي يخشى من سوء عواقبها، ويأمر ويحث على المبادرة على أمور الخير التي يخشى فواتها.
وهذه القاعدة في القرآن كثير:
قال تعالى في القسم الأول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾،([1]) وفي قراءة: ﴿فتثبتوا﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ﴾.([2])
وقد عاتب([3]) الله المتسرعين إلى إذاعة الأخبار التي يخشى من إذاعتها، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾،([4]) وقال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾،([5]) ومن هذا الباب: الأمر بالمشاورة في الأمور، وأخذ الحذر، وأن لا يقول الإنسان ما لا يعلم ([6])، وفي هذا آيات كثيرة".
في هذه الفائدة التي ذكرها المؤلف رحمه الله، وهي: أمر الله تعالىٰ المؤمنين بالتثبت وعدم العجلة في الأمور التي يخشى من عواقبها؛ أي يخشى مما تؤول إليه.
فالعاقبة هي ما يؤول إليه الأمر وينتهي، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يأمر بالتثبت في كل ما يخاف ويحذر عاقبته.
وضرب لذلك أمثلة: من ذلك في قوله تعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ أي إذا ضربتم في الجهاد و القتال فتبينوا فيمن يلقي عليكم السلام: هل هو مسلم أو لا؟ لأن من الناس من يبادر إلىٰ قتل من يلوح له في أرض القتال دون تبين، والدماء أمرها خطير وخطبها جليل، ولذلك كانت أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة من حقوق العباد، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء))([7]). يعني في الحقوق التي تكون بين الناس، أما في حق الله فأول ما يسأل عنه ويقضى فيه التوحيد، وقد قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، فيضيق عليه الأمر ولا مخرج له))([8]). وقد قال ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن من الورطات أو من ورطات الأمور التي لا مخرج منها الدماء.
والورطة: هي الدخول فيما لا يمكن الانفكاك منه، من عسير الأمر وصعبه.
ولذلك طالب الله جل وعلا وأمر عباده في هذه الآية بالتبين والتثبت.
كذلك في الأخبار قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾ يعني بخبر وهو الخبر الذي يترتب عليه أمر ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ وفي قراءة ﴿فتثبتوا﴾ وعلل الله عز وجل الأمر بقوله: ﴿ أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾.([9])
المثال الثالث الذي ذكره المؤلف هو ما يتعلق بالأخبار وإذاعتها، قال رحمه الله: (وقد عاتب المتسرعين إلىٰ إذاعة الأخبار التي يُخشى من إذاعتها) وهي ما يتعلق بأمر المؤمنين على وجه العموم، أو بأمر من يهم أمره أهل الإسلام؛ فإنه لا يجوز أن يشاع دون تثبت؛ كأن يُنقل عن عالم خبر أو عن حاكم خبر قبل أن يتثبت في هذا الأمر، وهل من المصلحة أن يذاع أو لا، قال الله جل وعلا: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ يعني مما له عاقبة، سواء كان أمراً مما يسرّ به، أو مما تخشى عاقبته ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ أي نشروه وأفشوه بين الناس ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ﴾ هـٰذا في وجوده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ هـٰذا بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك في وقته في غير حضرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ يعني لعلمه أهل الفقه، والفقه هنا ليس فقط إدراك أحكام المسائل التفصيلية من أدلتها الشرعية، إنما الاستنباط هنا معناه النظر في عواقب الأمور، وهو أعلى من الفقه في مسائل الفروع؛ لأن الفقه درجات:
منه ما يتعلق بمعرفة أحكام الشرائع وأفعال العباد، وهـٰذا لا شك أنه من المهمات للمسلم.
أهم منه إدراك عواقب الأمور، ومعرفة سنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في خلقه، فإن هـٰذا من غاية الفقه، وهو أعلى من الفقه في الأحكام التفصيلية.
ولذلك أمر الله عز وجل برد الأمر من الأمن أو الخوف مما يخشى عاقبته وتحذر مآلاته إلى أهل العلم؛ ليعرف هل من المناسب أن يذاع أو لا.
وقال تعالىٰ: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ هـٰذا في وجوب عدم المبادرة إلىٰ رد ما لم تحط به علماً، وهـٰذا يتطلب أي شيء يا إخواني؟ يتطلب النظر فيما يرد عليه: فلا تكذبه ما لم تحط به علماً، ولا تبادر إلىٰ قبول ما لم تحط به علماً؛ بل الواجب إدراك الأمور بنظر ثاقب وعقل راجح؛ ليتوصل الإنسان إلىٰ الهدى فيما يعرض له.
طيب، يقول: (ومن هذا الباب) يعني من هـٰذا الباب الذي ندب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيه عباده المؤمنين في القرآن إلىٰ عدم التعجل (الأمر بالمشاورة في الأمور، وأخذ الحذر، وأن لا يقول الإنسان ما لا يعلم، وفي هذا آيات كثيرة) والمقصود التمثيل ليدرك ما ذكره من قاعدة.
(وأما القسم الثاني:فكقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْض﴾،([10]) ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾،([11]) وقوله: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾،([12]) وقوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾،([13]) أي: السابقون في الدنيا إلى الخيرات: هم السابقون في الآخرة إلى الجنات والكرامات. والآيات كثيرة في هذا المعنى.
وهذا (الكمال) الذي أرشد الله عباده إليه هو الكمال، هو أن يكونوا حازمين لا يفوتون فرص الخيرات، وأن يكونوا متثبتين خشية الوقوع في المكروهات والمضرّات.
ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟).
ومن ذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الندب إلىٰ التعجل بأداء ما فرض الله إلىٰ الحج: ((حجوا قبل أن لا تستطيعوا أن تحجوا)). فإنه أمر بالحج، وعلل المبادرة إليه بعدم تمكن الإنسان من الحج: إما لتغير حاله، أو لمانع خارج عنه: إما بسبب مانع شخصي، أو مانع عام، مانع خاص أو مانع خارجي.
طيب، الفارق بين تعليل المؤلف رحمه الله بين قسمي القاعدة.
قال في الأول: (يأمر بالتثبت وعدم العجلة) والثانية قال: (ويحث على المبادرة إلى أمور الخير). وبهـٰذا نعرف الفرق بين العجلة والسرعة أيهما المحمود؟ السرعة، والعجلة ليست ممدوحة؛ مذمومة، والذي أمر الله جل وعلا به وحث عليه وأثنى على أهله هو المسارعة والمسابقة.
طيب ما الفرق بينهما؟
الاستعجال: هو طلب الشيء قبل أوانه.
وأما المسارعة: فهي طلب الشيء في أول وقته.
وهـٰذا الفرق بينهما؛ ولذلك لا تمدح العجلة بل تذم؛ لأنها مطالبة بفعل الشيء قبل حلول وقته ومجيئه، بخلاف المسارعة فإنه مأمور بها؛ لكون المسارعة مبادرة إلىٰ ما أمر الله به ورسوله.
([7]) البخاري: كتاب الر قاق، باب القصاص يوم القيامة، حديث رقم (6533).
مسلم: كتاب القسامة والمحاربين، باب المجازاة بالدماء في الآخرة وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة، حديث رقم (1678).
([8]) البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالىٰ: ﴿ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم﴾[النساء:93]، حديث رقم (6862).