قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة الرابعة والأربعون: علاج ميل النفوس إلى ما لا ينبغي".
عند ميلان النفوس أو خوف ميلانها إلى ما لا ينبغي، يذكرها الله ما يفوتها من الخير، وما يـحصل لها من الضرر بهذا الميل.
وهذا في القرآن كثير، وهو من أنفع الأشياء في حصول الاستقامة؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي المجرد لا يكفي أكثر الخلق في كفهم عما لا ينبغي، حتى يُقرن بذلك ما يفوت من المحبوبات التي تزيد أضعافاً مضاعفة على المحبوب الذي يكرهه الله، وتميل إليه النفس، وما يحصل من المكروه المرتب عليه.
كذلك قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾،([1]) فهنا لما ذكر فتنة الأموال والأولاد التي مالت بأكثر الخلق عن (طريق) الاستقامة، قال مذكراً لهم ما يفوتهم إن افتتنوا بها، وما يحصل لهم إن سلموا من فتنتها: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.([2])
وقال تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾.([3])
وقال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾.([4])
وقال تعالىٰ: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾.([5])
والآيات في هذا المعنى الجليل كثيرة جداًّ. فإذا بان للناظر أصلها وقاعدتها سهل عليه تنزيل كل ما يرد منها على الأصل المتقرر، والله أعلم".
هذه القاعدة واضحة، وهي من حكمة التشريع: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أمر بأمر تميل إليه النفوس باعتبار الجبلّة والخِلقة مما عاقبته الضرر عليها في الدنيا والآخرة يذكر ذلك ويبين ما يفوت الإنسان من الخير بسببه، فيكون الزاجر عن هـٰذا أمرين:
الأمر الأول: نهي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والأمر الثاني: ما يفوته من الخير؛ لأن الإنسان إنما يفعل ما يفعل رغبة في تحصيل الخير، فيبين له أن ما يحصله من الخير لا يقارن بما فاته من الخير الأبدي الثابت الباقي.
و هذه مسألة إذا صاحبها الإنسان واستحضرها أعانه ذلك على كثير من الخير، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا رأى شيئاً يعجب من الدنيا كان يقول:((اللهم إن العيش عيش الآخرة)).([6])
لماذا يقول هـٰذا؟ يذكر نفسه بأن الدنيا مهما كانت من الجمال والحسن والكمال والتمام من حيث التنعم فهي لا تقارَن بما أعده الله لعباده المؤمنين في الدار الآخرة.
فلا ينبغي للعاقل، ولا يحسن بصاحب الرّشد أن يُقبل على هذه الدنيا؛ بل الواجب لمن نصح نفسه أن يبادر إلىٰ استدراك الهفوات، وإلى الاستكثار مما ينفعه في الدار الباقية، وضرب لذلك أمثلة:
منها قوله تعالىٰ بعد نهيه عن خيانة الله ورسوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ والمراد بالفتنة أي سبب الزلل والخطأ، فإن المال والولد من أعظم ما يحصل به الافتتان لبني آم: المال استكثاراً، والولد مباهاة واستكثاراً أيضاً، فلما ذكر هاتين الفتنتين قال: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾. يعني من كف نفسه عن هذه الفتن في الأموال والأولاد فإنه يكف نفسه عن متاع زائل، ويربط قلبه بما هو خير وأبقى، وأن الله عنده أجر عظيم يفوق ما يحصِّله الإنسان بهاتين الفتنتين فتنة المال والولد، وتدبر هـٰذا في آيات الكتاب يوقف الإنسان على شيء كثير من حكم هـٰذا القرآن وأسراره؛ لكن الأمر مغلق على كثيرين بسبب الغفلة عن التدبر: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾([7]) نعوذ بالله.
وذكر أيضاً مثالاً: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يعني عن المنافقين؛ يعني عن الكفار والمعارضين لشرع الله ﴿فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يعني إذا كان هـٰذا يمكنكم في الدنيا فهو في الآخرة ممتنع، وإنما ذكر مجادلة الله في الآخرة لبيان مدى العقوبة التي تحصل للإنسان؛ لأن الإنسان لا يتمكن من ذلك يوم القيامة.
وهـٰذا نظير قول الله تعالىٰ: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ﴾([8]) فيمن أصرّ على أكل الربا ولم يتركه، فذكر الحرب بيان لعظم الذنب.
ومنه أيضاً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الإلهي: ((من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب أو بالمحاربة))([9]). فذاك دليل على عظم الجرم؛ لأنه لا يقوم شيء لرب العالمين الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، ألا إلىٰ الله تصير الأمور.
وضرب مثالاً أيضاً بقوله: ﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا﴾ يعني ما فيها من النعيم والزهرة ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ﴾ يعني وما يصيبه من هذه مهما كان فإنه يفوِّت عليه ما في الآخرة؛ ولذلك قال: ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ هـٰذا نفي لكل حظ يكون في الآخرة، ما وجه نفي أي حظ في الآخرة من هذه الآية؟ وجه ذلك نكرة في سياق النفي فتعم؛ لأن ﴿نَصِيبٍ﴾ نكرة وجاء في سياق النفي، النفي هنا ظاهر أو نص؟ نص؛ لأنه سبق بمن التي تفيد التنصيص على العموم. طيب.
أيضاً قال الله تعالىٰ: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ﴾ أي المكذبين للرسل، والمتاع يذكر في القرآن غالباً في مواضع التنعم المذموم، فالمتاع هنا هو التنعم المذموم بفعل المحرمات وترك الواجبات. ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ سنين مديدة متوالية، ﴿ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ إما بالموت أو بالعقوبة ﴿ما أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ يعني ما الذي ينفعهم، وما الذي يحصل لهم بسبب ذلك التنعم؟ لا يحصل لهم شيء ولا يغني عنهم شيء، وهـٰذا يوجب عدم الاغترار بما مكن الله عز وجل العبد منه في هذه الدنيا، فإنه يأتي في يوم القيامة فرداً، ويترك كل ما خوله الله عز وجل من المناصب والأموال والأنساب والجاه خلف ظهره، ولا يقدم على الله إلا بعمله.
نسأل الله عز وجل حسن العمل.
وجه ذلك أن ما كانوا قد حصلوه في الدنيا لم يكن سبباً لفوزهم بالآخرة؛ بل كان سبباً لفوات الخير الأعظم في الآخرة.