قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الثامنة والأربعون: متى علّق الله علمه بالأمور بعد وجودها، كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء".
تفصيل هذه القاعدة أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر وصف العلم بالنسبة له:
مطلقاً عامّاً.
وذكره أيضاً مقيداً بما سيكون.
وذكره أيضاً متعلقاً بالشيء بعد وجوده.
فالعلم يتعلق بالمعلوم قبل وجوده، وبالمعلوم بعد وجوده.
تعلق علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالأشياء قبل وجودها لا إشكال فيه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم الشيء قبل وجوده، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بكل شيء عليم، يشمل علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل شيء قبل وجوده.
فما فائدة ذكر علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العلم متعلقاً بالشيء بعد وجوده، كقوله تعالىٰ: ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾([1])، وما أشبه ذلك مما ذكر فيه العلم لأشياء بعد الوجود؟
فمن العلماء من قال: إن العلم الذي ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد وقوع الأشياء إنما هو علم الظهور والجزاء؛ يعني العلم الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، وهـٰذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (متى علق الله علمه بالأمور بعد وجودها، كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء) من ثواب وعقاب، واضح؟
هـٰذا هو الوجه الذي يسير عليه أكثر المفسرين، فيحملون تلك الآيات التي فيها الخبر بتعلق علم الله بالأشياء بعد وجودها على أنه علم الظهور؛ يعني ظهور حقيقة ما أخبر الله أو علم كونه، وهو الذي يترتب عليه الجزاء من ثواب وعقاب. نعم.
اقرأ القاعدة وسنذكر قولاً آخر إذا لم يذكره الشيخ رحمه الله.
(وذلك أنه قد تقرر في الكتاب والسنة والإجماع أن الله بكل شيء عليم، وأن علمه محيط بالعالم العلوي والسفلي، والظواهر والبواطن، والجليات والخفيات، والماضي والمستقبل).
بهذا نعلم أن صفة العلم من أوسع الصفات تعلقاً، فهي تتعلق بكل شيء، من أوسع صفات الله عز وجل تعلقاً صفة العلم، تتعلق بكل شيء: بالماضيات والمستقبلات والحاضرات، وتتعلق بالممكنات والممتنعات والواجبات، تتعلق بالظواهر والخوافي، تتعلق بكل شيء، المهم أنها من أوسع الصفات تعلقاً؛ لأنها تتعلق بكل شيء.
وهـٰذا أمر مجمع عليه، دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة، ودل عليه العقل؛ لأنه من صفات الكمال التي تجب له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
(وقد علم ما العباد عاملون قبل أن يعملوا الأعمال.
وقد ورد عدة آيات يخبر بها أنه شرع، أو قدر كذا؛ ليعلم كذا.
فوجه هذا: أن هذا العلم الذي يترتب عليه الجزاء. وأما علمه بأعمال العباد وما هم عاملون قبل أن يعملوا، فذلك علم لا يترتب عليه الجزاء؛ لأنه إنما يجازي على ما وُجد من الأعمال، وعلى هذا الأصل نزِّل ما يرد عليك من الآيات، كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْب﴾ ([2])، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾،([3]) وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾،([4]) وقوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾،([5]) وقوله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾.([6])
وما أشبه هذه الآيات كلها على هذا الأصل) .
القول الثاني في هذه الآيات التي فيها إخبار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعلمه بالأشياء: أن علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتعلق بالشيء قبل وجوده، ويتعلق بالشيء بعد وجوده، وتعلق علمه بالشيء بعد وجوده غير تعلق علمه بالشيء قبل وجوده.
و هذه مسألة قد لا يدركها كثير من الناس .
الآن علمنا بأن غداً الجمعة هـٰذا قبل وقوعه، أليس كذلك؟ إذا جاء يوم الجمعة وعلمناه أنه يوم الجمعة، علمنا به تعلق بعد وجوده، هل هـٰذا العلم الذي بعد الوجود هو العلم السابق؟ لا، علم آخر، وهـٰذا هو معنى هذه الآيات التي فيها إثبات علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو تعليق علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالشيء بعد وجوده، فهو علم آخر متجدد؛ لكنه علم لا يعارض العلم السابق؛ بل يصدِّق العلم السابق.
وهـٰذا القول اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وقال: إنه واضح يدل عليه كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو أن تعلق علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالأشياء على هذين الوجهين، وأن العلم الثاني ليس كالعلم الأول من حيث التعلق، أما من حيث المطابقة فهو هو؛ لأن علم الله جل وعلا لا يختلف، بمعنى أن ما قضاه وعلم كونه فلا بد أن يكون كما علمه.