قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة التاسعة والأربعون: إذا منع الله عباده المؤمنين شيئاً تتعلق به إرادتهم، فتح لهم باباً أنفع لهم منه وأسهل وأولى.
وهذا من لطفه، قال تعالى: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾،([1]) فنهاهم عن التمني الذي ليس([2]) بنافع، وفتح لهم أبواب الفضل والإحسان، وأمرهم أن يسألوه([3]) بلسان المقال وبلسان الحال.
ولما سأل موسى عليه السلام ربَّه الرؤية حين سمع كلامه، ومنعه الله منها، (وبلسان المقال) سلاه بما أعطاه من الخير العظيم، فقال: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾،([4]) وقوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾،([5]) وقوله: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ﴾،([6]) وفي هذا المعنى آيات كثيرة".
هذه القاعدة مفيدة جدّاً، وهي قاعدة في الحقيقة لتربية النفوس وإشغالها بما ينفع، يقول رحمه الله: (إذا منع الله عباده المؤمنين شيئاً) والمنع هنا إما أن يكون منعاً قدريّاً أو شرعيّاً: فيشمل المنع القدري بأن يمنع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقوع ذلك قدراً، والمنع الشرعي بأن يحرمه عليهم ويمنعه منهم، وذلك مما تتعلق به نفوسهم وإراداتهم، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (فتح لهم باباً أنفع لهم منه وأسهل وأولى) فجمع الباب المفتوح إزاء الباب المغلق النفع والسهولة والأولوية، ومثّل لذلك بعدة آيات منها قوله تعالىٰ: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ فنهى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هنا عن تمني ما حصل به فضل بعضنا على بعض بما لا يمكن تحصيله من المفضول، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فضل الرجال على النساء بأشياء، فلو أن النساء جلسن يتمنين ما فضل به الرجال لاشتغلن بما لا يمكن إدراكه وفاتهن خير كثير؛ لذلك قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ ثم وجّه قال: ﴿وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ﴾([7]) وهـٰذا اجعله منك على بال في كل أمر يصعب عليك إدراكه: أن الفضل بيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فاسأله منه، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بيده الخير، وإذا لجأ إليه العبد صادقاً في تحصيل الفضل والخير فإنه لا يرده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ بل يعطيه ما سأل أو يعطيه خيراً مما سأل. كذلك في قصة سؤال موسىٰ عليه السلام رؤية الله عز وجل: فإنه لما سأل رؤية ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقال له الله جل وعلا: ﴿انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾([8]). بعد ذلك أخبره الله جل وعلا، بعد أن أفاق وتاب وأخبر بأنه مؤمن، أقر بأنه أول من آمن به ولو لم يره، قال له الله جل وعلا مسلياً على الطلب السابق: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ﴾ هـٰذا بيان المنن التي اختصه بها ﴿اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي﴾ فذكر وجه الاصطفاء بأن جعله من المرسلين، وهـٰذا يشاركه فيه غيره من الرسل، ﴿وَبِكَلامِي﴾ هـٰذا اختص به دون غيره من الرسل، ولذلك كان موسىٰ عليه السلام من وصفه الخاص به أنه كليم الله، وذلك أن الله ابتدأ الرسالة إليه بتكليمه، بخلاف غيره من الرسل، فإن ابتداء الرسالة كان بطريق الرسول الملكي جبريل، أما موسىٰ عليه السلام فخاصيته من هذه الجهة أن الله ابتدأ إليه الإرسال بالتكليم مباشرة دون واسطة؛ ولذلك يسمى كليم الله، وإن كان بقية الرسل بعضهم من حصل له الفضل بتكليم الله، كنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الإسراء؛ لكن الذي اختص به موسىٰ أن تكليمه لربه كان في ابتداء الرسالة.
﴿فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ﴾ من الوحي ومن الفضل، ﴿وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لهذه النعم التي مننت بها عليك؛ يعني ولا تشغل نفسك بما لا يمكن تحصيله وإدراكه، وهو طلب الرؤية في الدنيا.