قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة الحادية والخمسون: كلّ ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الدّاعين يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
وهذه قاعدة نافعة، فإنّ أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة: دعاء المسألة فقط، ولا يظنّون دخول جميع العبادات في الدعاء.
ويدل على عموم ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾،([1]) أي أستجب طلبكم وأتقبل عملكم، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾،([2]) فسمّى ذلك عبادة؛ وذلك لأنّ الدّاعي دعاء المسألة يطلب مسؤوله بلسان المقال، والعابد يطلب من ربه القَبول والثواب ومغفرة ذنوبه بلسان الحال.
فلو سألته([3]): ما قصدك بصلاتك وصيامك وحجك وقيامك بحق([4]) الله وحق الخلق؟ لكان قلب المؤمن ناطقاً([5]): بأن قصدي من ذلك رضا ربي ونيل ثوابه والسلامة من عقابه، ولهذا كانت هذه النية شرطاً لصحة الأعمال وكمالها([6]).
وقال تعالى: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين﴾،([7]) أي:([8]) أخلصوا له إذا طلبتم حوائجكم، وأخلصوا له أعمال البر والطاعة".
هـٰذا الكلام واضح إن شاء الله تعالىٰ، يقول: (كلّ ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الداعين) يعني هذه الكلمة حيثما تصرفت فإنها تتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة.
دعاء المسألة: هو السؤال والطلب: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، هـٰذا دعاء المسألة، هـٰذا دعاء الله عز وجل حوائجك الدنيوية والأخروية، من خير الدنيا وخير الآخرة.
دعاء العبادة: المراد به كل ما تعبدت به ربك: من صلاة أو زكاة أو حج أو صدقة أو تسبيح أو تحميد أو تهليل أو تكبير أو إحسان، كل هـٰذا من دعاء العبادة.
لأن حقيقته -كما قال الشيخ رحمه الله- أن الفاعل لذلك يرجو ثواب الله ويخشى عقابه؛ يرجو الله والفوز بالجنة ويرجو النجاة من النار والسلامة منها، وهـٰذا هو حقيقة الداعي بلسانه، يقول: (ولهذا كانت النية شرطاً لصحة الأعمال وكمالها) وهي مشابهة لما ينطق به السائل، يقول: (وقال تعالى: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين﴾،([9]) أي: أخلصوا له إذا طلبتم حوائجكم، وأخلصوا له أعمال البر والطاعة) فيشمل الأمر هنا ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين﴾ يشمل إخلاص العمل وإخلاص الدعاء والطلب.
(وقد يقيد أحياناً بدعاء الطلب، كقوله: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾([10])).
هذه ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ أي سأل ربه: ﴿رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)﴾([11]) هـٰذا من دعاء نوح عليه السلام على قومه، فهـٰذا دعاء مسألة.
لكن اعلم أن دعاء المسألة يتضمن دعاء العبادة، الذي يقول: يا رب اغفر لي. هو سائل عابد؛ ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الدعاء هو العبادة))([12]). فالذي يسأل من فضل الله عز وجل من خير الدنيا والآخرة فحقيقته أنه عابد؛ لأنه يؤجر على الدعاء، الدعاء نفسه أجر ولو لم تحصل به طلبتك وسؤالك.
ولذلك في الحقيقة أنه وإن كانت الآية هنا ظاهرة في دعاء المسألة؛ لكن أيضاً تتضمن دعاء العبادة، وبه تطرد القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله: أنه حيثما ذكر الدعاء والدعوة في كلام الله عز وجل فإنها تتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ لأن كل داعٍ دعاءَ مسألة فإنه عابد لله بدعائه، واضح هـٰذا؟
(وأما قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً﴾ الآية،([13]) فيدخل فيه دعاء الطلب: فإنه لا يزال ملحّاً بلسانه، سائلاً دفع ضرورته، ويدخل فيه دعاء العبادة: فإن قلبه في هذه الحال (يكون) راجياً طامعاً، منقطعاً عن غير الله، عالماً أنه لا يكشف([14]) السوء إلا الله، وهذا دعاء عبادة).
ولو لم يكن من الدَّاعي في هذه الحال إلا هـٰذا التعبد القلبي لكان كافياً لوصفه أنه دعاء عبادة ودعاء مسألة، فكيف والإنسان إذا أصابه الضر في الغالب أنه ينكف عن كثير من المعاصي ويسابق إلىٰ كثير من الطاعات والصالحات؟ فقوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضُّرُّ دَعَانَا﴾ أي بلسانه وبقلبه وبجوارحه، فإنه ينكف عن المعاصي غالباً ويُقبل على الطاعات، وهـٰذا من دعاء العبادة؛ لكن الشيخ رحمه الله اقتصر فقط على أقل ما يكون من دعاء العبادة وهو العبادة القلبية؛ وهي الرجاء والخوف والطمع.
(وقال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾،([15]) يدخل فيه الأمران: فكما أن من كمال دعاء الطلب، كثرة التضرع والإلحاح، وإظهار الفقر والمسكنة، وإخفاءه ذلك وإخلاصه، فكذلك دعاء العبادة لا تتم العبادة وتكمل([16]) إلا بالمداومة عليها ومقارنة الخشوع والخضوع لها وإخفائها، وإخلاصها لله تعالى).
طيب، ما معنى قوله تعالىٰ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾؟ تضرعاً تذللاً، وخفية سرّاً، طيب كيف ينطبق هـٰذا على نوعي الدعاء-دعاء المسألة ودعاء العبادة-؟ تذلل وإلحاح وسر؟ طيب، ودعاء العبادة عبادة قلبية؛ يعني كل عبادة يعبدها الإنسان توفر فيها هذان الشرطان كان ذلك من أسباب قبوله، دعاء العبادة في الصلاة إذا كانت سرّاً وإذا كانت مداوماً عليها ملحّاً فيها متذللاً لله بها كان ذلك من أسباب قبولها، يتحقق بها قوله تعالىٰ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾، ففهم من هـٰذا أن هذه الآية لا تختص فقط دعاء المسألة؛ بل تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
(وكذلك قوله عن خلاصة الرسل: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً﴾،([17]) فإن الرغبة والرهبة وصفٌ لهم إذا طلبوا وسألوا، ووصف لهم إذا (كلما) تعبَّدوا وتقربوا بأعمال الخير والقُرَب.
وقوله: ﴿وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ﴾،([18]) ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾،([19]) وقوله: ﴿فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ﴾،([20]) يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
فكما أن من طلب من غير الله حاجة لا يقدر عليها إلا الله فهو مشرك كافر، فكذلك من عبد مع الله غيره فهو مشرك كافر.
ومثله: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ﴾،([21]) كل هذا يدخل فيه الأمران.
وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾،([22]) يشمل([23]) دعاء المسألة ودعاء العبادة.
أما دعاء المسألة: فإنه يسأل الله تعالىٰ في كل مطلوب باسم يناسب ذلك المطلوبَ ويقتضيه، فمن سأل رحمة الله ومغفرته دعاه باسم الرحيم الغفور([24]). وحصول الرزق([25]) باسم الرزاق، وهكذا).
هـٰذا من الأدب الذي يغفل عنه كثير الناس في الدعاء، فإنه يسأل مثلاً يقول: اللهم انصرنا على عدونا برحمتك إنك أنت أرحم الراحمين. هـٰذا غير مناسب؛ لأن النصر يتطلب القوة والعزة والجبروت، وما أشبه ذلك من الصفات المناسبة، فمن التعبد لله عز وجل بالأسماء الحسنى أن تسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتتوسل إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأسمائه المناسبة لسؤالك وطلبك.
(وأما دعاء العبادة: فهو التعبد لله تعالى بأسمائه الحسنى، فيفهم أولاً معنى ذلك الاسم الكريم، ثم يديم استحضاره بقلبه، و([26]) يمتلئ قلبه منه.
فالأسماء الدَّالة على العظمة والجلال والكبرياء تملأ القلب تعظيماً وإجلالاً لله تعالى).
مثل: العظيم، الكبير، الصمد، القيوم، الحي، الحميد، المجيد، كل هذه من الأسماء التي تدل على عظمة الرب جل وعلا، وإذا استحضرها العبد وأدرك معناها امتلأ قلبه إجلالاً لله عز وجل، وهـٰذا من دعائه بأسمائه دعاءً عباديّاً.
وهـٰذا الجانب يغفل عنه كثير من الناس، ويظن أن إحصاء أسماء الله جل وعلا في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة))([27]) ظن ذلك إحصاء اللفظ فقط، والحقيقة هنا أن الإحصاء يشمل الإحصاء اللفظي والإحصاء المعنوي.
(والأسماء الدالة على الرحمة والفضل والإحسان تملأ القلب طمعاً في فضل الله ورجاءً لرَوْحِه ورحمته).
مثل: الرحمـٰن، الرحيم، البر، الرؤوف، الكريم، وغير ذلك من الأسماء الدالة على هذه المعاني، نعم.
(والأسماء الدالة على الود والحب والكمال تملأ القلب محبة وودّاً وتألهاً وإنابة لله تعالى).
مثل: الودود، الرحيم، ذي الجلال والإكرام، كل هـٰذا مما يوجب محبته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. نعم.
(والأسماء الدالة على سعة علمه ولطيف خبره توجب للعبد مراقبة الله تعالى والحياء منه).
توجب أيضاً الثقة بوعده وصدق خبره، وأنه لا يخلف الميعاد، فإن هـٰذا ناتج عن تمام اليقين بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بكل شيء محيط، فإن من علم أن الله بكل شيء محيط علم أنه لا بد وأن يقع خبره، وأنه لا إخلاف لوعده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والتعبد لله بالأسماء الحسنى من أعظم أبواب الوصول إلىٰ فضل الله ورحمته وإحياء القلوب، والشيخ رحمه الله إمام في هـٰذا الباب، وله مؤلفات عديدة تناول فيها هـٰذا الجانب تناولاً لم أقف على مثله فيه، من ذلك كتابه شرح الأسماء الكافية الشافية، ومن ذلك أيضاً كتاب له اسمه (فضل الرحيم الرحمـٰن) يعني قريب من هـٰذا؛ لكنه من الكتب المفيدة في معرفة معاني أسماء الله عز وجل والتعبد له بها، وهو في تفسيره في كل ما يذكر فيه الأسماء، الغالب أن يعلق تعليقاً مفيداً يحيا به القلب وينجذب به إلىٰ الرب. نعم.
(وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب هي أكمل الأحوال، وأجل وصف يتصف به القلب وينصبغ به، ولا يزال العبد يمرّن نفسه عليها حتى تنجذب دواعيه([28]) منقادة راغبة، وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية.
فنسأل الله تعالى أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته والإنابة إليه، فإنه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين).
قوله: (وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية)؛ لأن العمل البدني الفارغ عن العمل القلبي ما يحصل به مقصود ولا يجني به الإنسان مطلوباً، ولذلك كانت أعمال المنافقين كالخشب المسندة كما قال في وصفهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ﴾([29]) لا نفع فيها ولا فائدة مع تحسين الصورة وكمال المنطق؛ لكن ما هناك ثمرة، إذا كان القلب خالياً من الأعمال القلبية، ولذلك كانت الأعمال القلبية أفضل من الأعمال البدنية، وكذلك المعاصي القلبية أعظم جرماً من المعاصي البدنية؛ لكن الناس تتعلق قلوبهم بالظواهر، ويشتغلون بها عن البواطن.
([8]) في نسخة: فوضع كلمة: ﴿الدِّين﴾، موضع كلمة (العبادة )، وهو في القرآن كثير جدّاً:يدل على أن الدعاء هو لب الدين وروح العبادة. ومعنى الآية هنا.
([12]) سنن أبي داوود: كتاب الصلاة، كتاب الدعاء، حديث رقم (1479).
سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب (ومن سورة البقرة)، حديث رقم (2969).
سنن ابن ماجه: كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، حديث رقم (3828).
قال الشيخ الألباني: صحيح.
([27]) سنن ابن ماجه: كتاب الدعاء، باب أسماء الله عز وجل، حديث رقم (3860).
سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب (83)، حديث رقم (3508).
قال الشيخ الألباني: صحيح.