قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الثالثة والخمسون: من قواعد القرآن: أنه يبين أن الأجر والثواب على قدر المشقة في طريق العبادة، ويبيّن مع ذلك أن تسهيله لطريق العبادة من مننه وإحسانه، وأنها لا تنقص من الأجر شيئاً".
هذه قاعدة مهمة، وهي مسألة المشقة في العبادة.
المشقة نوعان:
مشقة نفاها الشارع عن التشريع، وذلك في مثل قوله تعالىٰ: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾،([1]) وهـٰذا وصف لكل ما جاء في هذه الشريعة المطهرة أنه يسر، ولا يلزم من اليسر أن لا يكون فيه تكليف للنفس؛ لأنه إذا لم يكن تكليف للنفس، فالحقيقة ينتفي التعبد؛ لأن مقتضى العبادة تكليف ما فيه مشقة.
فما هي المشقة المنفية عن الشريعة؟ المشقة المنفية عن الشريعة هي تكليف ما يعسر، أو ما لا تعلم عاقبته الحميدة، أما أن يكلف الإنسان ما يشق عليه من العبادات، فهـٰذا كثير، فالصوم مثلاً فيه مشقة، لا سيما في أيام الصيف وشدة الحر؛ لكن هذه المشقة ليست من أصل العبادة؛ يعني لم يشرع الصيام لأجل هذه المشقة، لتحصيل هذه المشقة.
ولذلك لو أن إنساناً قال: أنا سأخرج وأقف في الشمس حتى يعظم أجري في صيامي، هل نقول له: أنت الآن زاد أجرك بهذه المشقة؟ الجواب: لا، لم يزد أجره بهذه المشقة.
المشقة التي يجري عليها الثواب ويحصَّل بها الأجر هي المشقة المترتبة على العبادة ذاتها، لا على أمر خارج عنها. و هذه مسألة مهمة تنفي ظنون بعض الصوفية الجهال الذين يظنون أنه كلما تكلف الإنسان أمراً زائداً من المشقة كان ذلك أعظم لأجره، ويقولون: قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أجرك على قدر نفقتك ونصَبك))([2]) لعائشة في الحج. فنقول: لا؛ إنما الأجر في المشقة هو في المشقة التي تكون من ذات العبادة، لا بأمر يطلبه الإنسان.
ولذلك لو أن شخصاً فتح المكيِّف في نهار صيام يتبرد ويخفف من وطأة الحر عليه، هل ينقص أجره بذلك؟ الجواب: لا، لا ينقص أجره، لكن إذا لم يكن عنده وسائل تكييف وجاء الصوم في يوم حار، وكلفه ذلك وشق عليه هل يؤجر على هذه المشقة؟ نعم يؤجر؛ لكن لو قال: أنا سأغلق المكيفات وأغلق المراوح في يوم شديد الحر حتى يعظم أجري، هل يحصل له الأجر؟ الجواب: لا ، لم تأت الشريعة بمثل هـٰذا.
إذاً المشقة التي يترتب عليها الثواب هي المشقة الناتجة عن ذات العبادة بلا طلب من الإنسان وتكلف، هـٰذا واضح.
يقول المؤلف رحمه الله: (من قواعد القرآن: أنه يبين أن الأجر والثواب على قدر المشقة في طريق العبادة، ويبيّن مع ذلك أن تسهيله لطريق العبادة من مننه وإحسانه، وأنها لا تنقص من الأجر شيئاً). والكلام على أنه لا تعارض بين الأمرين: إثبات أن الأجر على قدر المشقة لا ينافي ما أخبر به من الإحسان إلى عباده بالتخفيف والإشفاق عليهم، وكون الشريعة يسراً، يبين هذا في كلامه في هذه القاعدة رحمه الله، نعم.
(وهذه القاعدة تبين من لطف الله وإحسانه بالعباد، وحكمته الواسعة ما هو أثر عظيم من آثار تعريفاته ونفحة عظيمة من نفحاته، وأنه أرحم الراحمين، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾([3]). فبيّن تعالى أن هذه العبادة العظيمة لعظم مصلحتها وكثرة فوائدها العامة والخاصة أنّه فرضها على العباد، وإن شقت عليهم وكرهتها نفوسهم؛ لما فيها من التعرّض للأخطار وتلف النفوس والأموال، لكن هذه المشقات بالنسبة إلى ما تُفضي إليه من الكرامات ليست بشيء([4])، بل هي خير محض وإحسان صرف من الله على عباده، حيث قيض لهم هذه العبادات التي توصلهم إلى منازل لولاها لم يكونوا واصليها، وقال تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾،([5]) وقال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾.([6])
وقال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.([7])
فكلما عظمت مشقة الصبر في فعل الطاعات، وفي ترك المحرمات لقوة الداعي إليها، وفي الصبر على المصيبات لشدة وقعها، كان الأجر أعظم والثواب أكثر([8]). وقال تعالى في بيان لطفه في تسهيل العبادة الشاقة: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ﴾.([9])
فذكر منته على المؤمنين بتيسيره وتقديره لهذه الأمور التي جعلها الله تعالىٰ مسهلة للعبادة([10])، مزيلة لمشقتها، محصلة لثمراتها).
المؤلف رحمه الله بيّن أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد فرض ما فيه مشقة وما فيه نوع تعب وما تكرهه النفوس؛ لكن هذه المشقات تعقبها سعادات وتعقبها فضائل، وأجور تُذهب وتضمحل معها تلك العناءات التي لقيها الإنسان، وهـٰذا الأمر يدركه في الدنيا قبل الآخرة، وهـٰذا من نعمة العبد لربه ومنته ولطفه به، فإن إدراك العبد هذه النعمة في الدنيا قبل الآخرة مما ينشطه على مزيد عمل، وتحمل ما يلقاه في سبيل الطاعة من مشقة وضيق.
ثم إن من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه يمدّ عبده -إذا صدق في غرضه وقصده وطلبه- بعون منه؛ تسهيلاً للعبادة وتيسيراً لها، ومن ذلك ما مثل به رحمه الله في قوله تعالىٰ: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾. فذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منتين في هذه الآية على عباده المؤمنين في تلك الوقعة الشديدة التي خرج المسلمون إليها ولم يكونوا قد استعدوا لها، ولم يكونوا قد أخذوا الأهبة لملاقاة عدوهم، إنما خرجوا لطلب العير، فقدر الله في تلك الغزوة أن التقى أهل الإيمان بأهل الكفر، على كثرة عدد الكفار وعدتهم وقلة المؤمنين وضعف حالهم؛ لكن الله جل وعلا ينصر من ينصره، فمنّ عليهم بمنتين ذكِرتا في هذه الآية: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ﴾ فنزل عليهم النعاس، وهـٰذا النعاس لا يكون في الغالب من الخائف؛ لأن الخائف وجل يترقب فزع القلب، فكيف يدب إليه نوم أو تسكن له عين؟ لا يكون هـٰذا إلا ممن اطمأن قلبه وسكن فؤاده، فقرت عينه فحصل منه النعاس، هذه منة.
الثانية ما ذكره الله جل وعلا في قوله: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾. فذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنزال هـٰذا الماء ليحصل لهم به الطهارة، ولتصلب الأرض التي يقفون عليها في مواجهة العدو، و هذه منة إلهية وتسهيل من رب العالمين .
الثالث وهو أمر لا يدرك بالنظر، إنما يدرك بالخبر ويدرك أثره في الواقع، وهو قوله تعالىٰ: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فجمع الله لهم من المثبتات الحسية والمثبتات المعنوية ما كتب الله لهم به النصر والظفر مع شدة المشقة، وعظم الخطب.
لكن يا إخواني خذوها قاعدة: أن من صدق مع الله صدقه الله وصنع له، وأن من جاءه البلاء بلا تعرض فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعنينه ويؤيده ويثبته، وأن من طلب البلاء وتعرض له يُخذل ويخونه عزمه وتنهار قواه.
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يركن بقلبه وقالبه إلىٰ الله جل وعلا، وليستشعر ما يقوله في دبر كل صلاة: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. إذا سكن قلب العبد إلىٰ هذه الكلمة وقرت فيه فإن ذلك يورثه خيراً كثيراً.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد يسر الأمر لمن سلك الطريق رغبة فيما عنده، ولذلك تكون الصلاة على المؤمنين قرة عين، وأما على المنافق فكالجبال تجده ينقرها نقراً، يريد أن يتخلص منها ويرتاح، أما المؤمن فهو يرتاح فيها، راحته في الصلاة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))، بعد أن ذكر ما تطيب به نفسه في الدنيا: ((حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء))،([11]) و هذه متاع زائل، ثم ذكر ما يحصل به تمام القرار للنفس والاطمئنان لها والسكون للفؤاد قال: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)). فالعبادة تنقلب بالنسبة للمؤمن -على ما فيها من مشقة ظاهرة- لذة لا يذوقها غيره، نسأل الله من فضله.
(وقال تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾.([12])
فالبشرى التي وعد الله بها أولياءه في الحياة الدنيا من أشرفها وأجلها: أنه ييسر لهم العبادات، ويهون عليهم مشقة القربات، وأن ييسرهم للخير، ([13]) ويعصمهم من الشر بأيسر عمل.
وقال: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾([14])
أيْ لكل حالة فيها تيسير أموره وتسهيلها).
من أعجب ما يكون في بيان سبب التسهيل والتيسير لليسرى -وهي كل ما فيه خير في الدنيا والآخرة-، ومن ذلك القيام بما فرض الله سبحانه وتعالىٰ من العبادات والطاعات، يقول: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾، ثم قال: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ والفاء إذا عُقِّب بعدها الحكم علم أن ما تقدمها من وصف له أثر في ذلك الحكم، فالله جل وعلا ذكر العطاء وهو البذل، والتقوى وهي فعل الأمر وترك ما نهى عنه ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ وهو صلاح القلب وقرار الإيمان فيه ثم قال: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ ف هذه أسباب التيسير لليسرى: أن يصدق العبد قولاً وعقداً وعملاً، فيتقي الله عز وجل، ويحسن إلىٰ الخلق بما يستطيع، ويسبق ذلك كله تصديق بالحسنى، وهي ما وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به المؤمنين، فإن من صدق وعد الله عز وجل المؤمنين في الآخرة حمله ذلك على السعي في تحصيل ذلك. نعم ثم قال:
(وقال تعالىٰ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾،([15])
ومن الحياة الطيبة التي يرزقونها:ذوقُ حلاوة الطاعات، واستحلاء([16]) المشقات في رضا الله تعالى، فهذه الأحوال كلها خير للمؤمن: إن سهل الله له طريق العبادة وهونها حَمِدَ اللهَ وشكره، (وإن قامت العقبات صبر في اقتحامها) ، واحتسب الخير في عنائه وجهاده ورجا عظيم الثواب، وهذا المعنى في القرآن في آيات متعددة، والله أعلم).
الحمد لله نسأل الله من فضله.