قال المؤلف رحمه الله:" القاعدة السادسة والخمسون: تقام المصالح على قدر الوسع والطاقة.
يرشد القرآن الكريم المسلمين إلى إقامة جميع مصالحهم، وأنه إذا لم يمكن حصولها من الجميع فليشتغل بكل مصلحة من مصالحهم من يقوم بها([1])، وليوفر وقته عليها؛ لتقوم مصالحهم، وتكون وجهتهم جميعاً واحدة.
وهذه من القواعد الجليلة ومن السياسة الشرعية([2])، فإن كثيراً من المصالح العامة الكلية لا يمكن اشتغال الناس كلِّهم بها، ولا يمكن تفويتها، فالطريق إلى حصولها ما أرشد الله عباده إليه، قال تعالى في الجهاد والعلم اللذين هما من أعظم مصالح الدين: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾،([3]) فأمر أن يقوم بالجهاد طائفة كافية وبالعلم طائفة أخرى، وأن (الطائفة) القائمة بالجهاد تستدرك ما فاتها من العلم إذا رجعت".
هذه الآية ختم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها الآيات الحاثة والآمرة بالجهاد والقتال، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر في سورة التوبة من فضائل القتال والجهاد ما لم يذكر في سورة غيرها، بعد ذلك قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ لأنه لما حفزت تلك الآيات نفوس المؤمنين للقتال والجهاد ومقارعة أعداء الله عز وجل، أصبحت النفوس متهيئة للخروج في كل ما يندب إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السرايا، وكانوا يتنافسون في الخروج مع كل سرية، فجاءت هذه الآية لتبين أنه مع فضل ذلك العمل وعظيم قدره إلا أنه لا يجب ولا ينبغي للمؤمنين أن يكونوا على هذه الحال وهي: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ إذا نفر المؤمنون كافة من يبقى يعلِّم الناس؟ من يبقى يقوم ببقية ما يحتاجه المسلمون؟ فلذلك قال: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ هـٰذا نفي هذه الحال عن المؤمنين، ثم قال في بيان الذي ينبغي ويجب: ﴿ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ مجموعة تقوم بالواجب ويحصل بها الكفاية، طيب والباقون؟ ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ هـٰذا تعليل لهذا الأمر، أمر بأن ينفر طائفة وأن يبقى غيرهم لأجل أن يتفقه الباقون في الدين، وهـٰذا يدلك على أن التفقه في الدين أعظم من القتال؛ لأن الله جل وعلا ندب للقتال طائفة، وندب إلىٰ التفقه جميع من بقي، فقال: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ من القوم؟ المجاهدون ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ من أين؟ من الجهاد حتى يتساووا معهم في العلم الشرعي الذي هو المقصود الأصلي في الشريعة؛ لأن جهاد العلم والبيان هو الأصل، وهو الذي أمضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جل حياته فيه، أما جهاد السيف والسنان ومقارعة الكفار فلم تكن إلا عند الحاجة في دفع أو طلب.
وهـٰذا يبين لنا أن هذه الآية من الآيات الدالة على فضيلة العلم، وأنه ينبغي للمؤمن أن لا يحتقر جلوسه في الحلق، ومطالعته للكتب، وتسجيله للفوائد، وحفظه للمتون، فهو مجاهد يجاهد في سبيل الله بهذا العمل، وهو أعظم من جهاد السيف والسنان إذا خلصت النية وصح القصد.
(وقال تعالـى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾،([4]) وقال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾،([5]) وقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾،([6]) وقال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾.([7]) إلى غير ذلك من الآيات الدالات على هذا الأصل الجليل والقاعدة النافعة. وبقيام كل طائفة منهم بمصلحة من المصالح تقوم المصالح كلها؛ لأن كل فرد مأمور أن يراعي المصالح الكلية، ويكون سائراً في جميع أعماله إليها، فلو وفِّق المسلمون لسلوك هذه الطريق لاستقامت أحوالهم وصلحت أمورهم، وانجابت عنهم شرور كثيرة، فالله المستعان).
والشيخ رحمه الله يشير في هـٰذا إلىٰ وجوب العناية بفروض الكفايات، فإن كثيراً من الناس من يفرط في هذا استناداً إلى أن غيره سيقوم بها، فتضيع وتتعطل المصالح، ولو أن المؤمن اتقى الله عز وجل في ذلك وقام بما يستطيع، وحصل ذلك من الأمة بمجموعها لحصل خير كثير، واندفعت شرور عظيمة، هـٰذا ما يريد أن يشير إليه رحمه الله في هذه القاعدة