قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة السابعة والخمسون: في كيفية الاستدلال بخلق السماوات والأرض وما فيها على التوحيد والمطالب العالية.
قد دعا الله عباده إلى التفكير في هذه المخلوقات في آيات كثيرة، وأثنى على المتفكرين فيها، وأخبر أن فيها آياتٍ وعِبَراً،([1]) فينبغي لنا أن نسلك([2]) الطريق المنتج للمطلوب بأيسر ما يكون وأوضح ما يكون.
وحاصل ذلك على وجه الإجمال: أننا إذا تفكرنا في هذا الكون العظيم، عرفنا أنه لم يوجد بغير موجد، ولا أوجد نفسه -هذا أمر بديهي- فتيقنا أن الذي أوجده هو الأول الذي ليس قبله شيء([3])، كامل القدرة عظيم السلطان واسع العلم، وأن إيجاد الآدميين([4]) في النشأة الثانية للجزاء أسهل من هذا بكثير: ﴿لَخَلْقُ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاس﴾،([5]) وعرفنا بذلك أنه الحي القيوم.
وإذا نظرنا ما فيها من الإحكام والإتقان والحسن والإبداع عرفنا بذلك كمال حكمة الله وحسن خلقه وسعة علمه([6]).
وإذا رأينا ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية والكمالية التي لا تعد ولا تحصى، عرفنا بذلك أن الله واسع الرحمة، عظيم الفضل والبر والإحسان، والجود والامتنان، وإذا رأينا ما فيها من التخصيصات، فإن ذلك دال على إرادة الله ونفوذ مشيئته، ونعرف من ذلك([7]) كله أن مَنْ هذه أوصافه وهذا شأنه؛ هو الذي لا يستحق العبادة([8]) إلا هو، وأنه المحبوب المحمود، ذو الجلال والإكرام، والأوصاف العظام، الذي لا تنبغي الرهبة إلا إليه، ولا يـصرف([9]) خالص الدعاء إلا له؛ لأن غيره من المخلوقات المربوبات مفتقرات إلىٰ الله وحده في جميع شؤونها.
ثم إذا نظرنا إليها من جهة أنها كلها خلقت لمصالحنا، وأنها مسخرة لنا، وأن عناصرها وموادها وأرواحها قد مكن الله الآدمي من استخراج أصناف المنافع منها، عرفنا أن هذه الاختراعات الجديدة في الأوقات الأخيرة، من جملة المنافع التي خلقها الله لبني آدم فيها، فسلكنا بذلك كل طريق نقدر عليه لاستخراج ما يصلح أحوالنا منها، بحسب القدرة، ولم نخلد إلى الكسل والبطالة، أو نضيف([10])علم هذه الأمور واستخراجها إلى علوم باطلة، بحجة أن الكفار سبقونا إليها وفاقونا فيها، فإنها كلها -كما نبه الله- داخلة في تسخير الله الكون لنا، وأنه يُعلم الإنسان ما لم يعلم".
هذه القاعدة قاعدة مفيدة تبين منهج القرآن في الانتفاع بالآيات الخلقية الكونية التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دليلاً على وحدانيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وابتدأ المؤلف رحمه الله بقاعدة مهمة يتبين بها تميز طريق القرآن عن غيره من الطرق في معرفة الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول: (فينبغي لنا أن نسلك (هذا) الطريق المنتج للمطلوب بأيسر ما يكون وأوضح ما يكون). ينبغي لنا أن نسلك الطريق الذي يوصل إلىٰ المطلوب بأسهل طريق وبأسهل سبيل، لا يكون فيه عناء، ولا يكون فيه اشتغال بمقدمات لا فائدة فيها، هذه هي طريقة القرآن الكريم، وهي الدلالة على الله عز وجل من آيات واضحات بأسهل سبيل وأسهل طريق، بخلاف غيره من الطرق، وبخلاف غيره من الوسائل التي سلكها أهلها.
ثم بين هـٰذا الطريق تفصيلاً فقال: إن طريق القرآن يقرر أولاً توحيد الربوبية؛ ولذلك قال: (وحاصل ذلك على وجه الإجمال: أننا إذا تفكرنا في هذا الكون العظيم، عرفنا أنه لم يوجد بغير موجد) فدلنا ذلك على الرب جل وعلا الخالق لهذا الكون، الرازق المدبر المالك، ثم عرفنا من ذلك أنه قادر على الإحياء بعد الموت؛ لأنه من قدر على الإنشاء من العدم فهو أقدر على الإعادة بعد الخلق؛ ولذلك قال الشيخ: (وأن إيجاد الآدميين في النشأة الثانية للجزاء أسهل من هذا بكثير)، وهـٰذا من قضايا توحيد الربوبية، وهو الإقرار بالبعث بعد الموت.
أيضاً يفيدنا النظر في الآيات الخلقية -من الشمس والقمر والنجوم واختلاف الليل والنهار، وغير ذلك من الآيات المشاهدة في الآفاق وفي الأنفس، يفيدنا- المعرفة بصفات الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنها تدل على كمال الإتقان والإحكام والفكر والإبداع، وهـٰذا يعرفنا بكمال حكمة الله عز وجل وحسن خلقه وما ذكره رحمه الله من الأوصاف.
فنستدل بالكون على عظيم صفات الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا استقر في القلب أنه لا خالق إلا الله، واستقر في الفؤاد عظمة هـٰذا الخالق وأنه لا نظير له استوجب ذلك إفراده بالعبادة وإخلاص العمل له، ولذلك قال: (الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه، ولا يصرف خالص الدعاء إلا له لا لغيره) وهـٰذا هو المقصود من لفت الأنظار إلى الآيات الخلقية في السماوات والأرض والأنفس، حتى ينتفع منها الناس في الوصول إلىٰ هذه الحقيقة العظيمة، وهي توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ربوبيته، وتوحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في إلهيته، وتوحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أسمائه وصفاته؛ ولكن لا يمنع هـٰذا أن يكون المقصود من الآيات التي أمر بالله فيها بالنظر إلىٰ هـٰذا الكون أن ننظر فيها لننتفع بما فيها من المنافع التي هي من مقتضى التسخير فيما يتعلق بإقامة أمر الدنيا؛ ولذلك قال الشيخ رحمه الله: (قد مكن الله الآدمي من استخراج أصناف المنافع منها، عرفنا أن هذه الاختراعات الجديدة في الأوقات الأخيرة، من جملة المنافع التي خلقها الله لبني آدم فيها، فسلكنا بذلك كل طريق نقدر عليه لاستخراج ما يصلح أحوالنا منها، بحسب القدرة). وهـٰذا من توابع النظر؛ لكن ليس هو المقصود الأساسي والأولي من الأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض في الآيات الخلقية والأرضية والنفسية.
اتضحت القاعدة؟
إذاً ما المقصود من الأمر بالنظر؟ المقصود بالنظر إخلاص العبادة لله، التوصل إلىٰ وجود توحيد الله عز وجل، هل يستفاد من النظر في آيات القرآن الانتفاع بما أودعه الله في هذه الآيات مما يقوم به أمر الدنيا؟ هل من المقصود بالآيات التي أمر فيها بالنظر في الكون أن في هذه الآيات ما تقوم به حياتنا؟ هل هو مقصود أو لا؟ مقصود لكنه تابع؛ يعني لا بأس أن نستفيد منها فيما يقيم مصالح الدنيا؛ ولذلك ذكر مسألة الاختراعات والانتفاع فيما يتعلق بالنظر في الاستدلال بخلق السماوات والأرض على التوحيد.
واضح يا إخوان أو ليس بواضح؟
المقصود هل قول الله عز وجل: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ﴾([11]) وما إلىٰ ذلك من الآيات التي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ﴾([12]) ما الفائدة من الأمر بالنظر؟
الوصول إلىٰ وجوب إفراد الله بالعبادة.
إثبات الكمال في الربوبية والإلهية والأسماء والصفات للرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
طيب هل يمكن أن يقال: إنها أيضاً تفيد النظر في هذه الآيات للاستفادة منها في إقامة أمر الدنيا؟ الجواب: نعم، فننظر في السماوات وما فيها من آيات وفي الأرض وفي الأنفس لنستفيد من ذلك في إصلاح دنيانا، لكن هـٰذا على وجه التبع لا على وجه القصد الأول.