قال المؤلف رحمه الله:" القاعدة الثامنة والخمسون: الكمال إنما يظهر إذا قُرن بضده.
إذا أراد الله إظهار شرف أنبيائه وأصفيائه بالصفات الكاملة أراهم نقصها في غيرهم من المستعدين للكمال.
وذلك في أمور كثيرة وردت في القرآن.
منها: لما أراد الله إظهار شرف آدم على الملائكة بالعلم، وعلمه أسماء كل شيء ثم امتحن الملائكة فعجزوا عن معرفتها، فحينئذ نبأهم آدم عنها([1])، فخضعوا لعلمه، وعرفوا فضله وشرفه.
ولما أراد الله تعالىٰ إظهار شرف يوسف في سعة العلم والتعبير رأى المَلِك تلك الرؤيا، وعرضها على كل من له علم بها ومعرفة فعجزوا عن معرفتها، ثم بعد ذلك عَبَّرها يوسف ذلك التعبير العجيب، الذي ظهر به من فضله وشرفه وتعظيم الخلق له شيء لا يمكن التعبير عنه.
ولما عارض فرعون الآيات التي أُرسل بها موسى، وزعم أنه سيأتي بسحر يغلبه، فجمع كل سحار عليم من جميع أنحاء المملكة، واجتمع الناس في يوم عيدهم وألقى السحرة عصيهم وحبالهم في ذلك المجمع العظيم، وأظهروا للناس من عجائب السحر فـ ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾،([2]) فحينئذ ألقى موسى عصاه، فإذا هي تلقف وتبتلع بمرأى الناس جميع حبالهم وعصيهم، فظهرت هذه الآية الكبرى، وكان السحرة أهل الصنعة أول من خضع لها ظاهراً وباطناً".
ظاهراً بالسجود، وباطناً بأن ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾.([3])
والمقصود بهذه القاعدة أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُجري بلطيف حكمته وناتج قدرته ما يبين به فضل أوليائه، وذلك ببيان النقص في أعدائه، وهـٰذا أمر يدركه كل أحد، أنك لا تعرف الحسن إلا إذا عرفت القبيح، ولذلك قال الشاعر:
الضد يعرف حسنه الضد *** وبضدها تتميز الأشياء([4])
فإذا أرت أن تعرف حسن وجميل فضيلة الكرم فانظر إلىٰ سوء وشؤم خصلة البخل، وكذلك في كل خُلُق، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يظهر شرف أنبيائه وأصفيائه بالصفات الكاملة بأن يُري الناس النقص في مقابلهم، وإذا تبين الكمال انجذبت له النفوس بلا منازعة، ولذلك ما كان من سحرة فرعون -لما عرفوا السحر حقيقة وجربوه ومارسوه، ورأوا الآية والبرهان الذي جاء به موسىٰ عليه السلام- إلا أن أذعنوا له وانقادوا ظاهراً وباطناً، وكانوا أول من آمن به. نعم.
(ولما نكص أهل الأرض عن نصرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتمالأ عليه أعداؤه، ومكروا مكرتهم الكبرى للإيقاع به، نصره الله ذلك النصر العجيب، فإن نصر المنفرد الذي أحاط به عدوه الشديد حَرَدُه([5])، القوي مكره، الذي جمع كل كيده ليوقع به أشد الأخذات وأعظم النكايات([6])، وتخلصه وانفراج الأمر له، من أعظم أنواع النصر.
كما ذكر الله هذه الحال التي عاتب بها أهل الأرض، فقال:﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾. ([7])
وقريب من هذا نصره إياه([8]) يوم حنين، حيث أعجبت المسلمين كثرتهم، فلم تغن عنهم شيئاً وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ثم ولوا مدبرين، وثبت([9]) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل عليه سكينته ونصره في هذه الحالة الحرجة، فكان لهذا النصر من الموقع الكبير ما لا يعبر عنه).
قول المؤلف رحمه الله: (فإن نصر المنفرد الذي أحاط به عدوه الشديد حَرَدُه) أي غضبه، ولا شك أن مثل هذه الحال يتبين بها عظيم نصر الله لأوليائه؛ لأن نصر المنفرد من أبعد ما يُظن ويُتوقع، فإذا وقع دل ذلك على عظيم قدرة الناصر ونافذ إرادته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
(وكذلك ما ذكره الله من الشدائد التي جرت على أنبيائه وأصفيائه، وأنه إذا اشتد البأس، وكاد أن يستولي على النفوس اليأس، أنزل الله فرجه ونصره؛ ليصير لذلك موقع في القلوب، وليعرف العباد ألطاف علام الغيوب.
ويقارب هذا المعنى: إنزاله الغيث على العباد، بعد أن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين، فيحصل من آثار رحمة([10]) الله والاستبشار بفضله، ما يملأ القلوب حمداً وشكراً وثناء على الباري تعالى.
وكذلك يذكرهم نعمه بلفت أنظارهم إلى تأمل ضدها، كقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾،([11]) ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾.([12])
وتلمح مثل هذا المعنى في قصة يعقوب وبنيه: حين اشتدت بهم الأزمة ودخلوا على يوسف، وقالوا: ﴿مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ﴾،([13]) ثم بعد قليل قال: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾،([14]) في تلك النعمة الواسعة والعيش الرغيد، والعز المكين والجاه العريض، فتبارك من لا يدرك العباد من ألطافه ودقيق بره أقل القليل.
ويناسب هذا من ألطاف الباري: أن الله يذكر عباده بأثناء المصائب ما يقابلها من النعم؛ لئلا تسترسل النفوس في الجزع ، فإنها إذا قابلت بين المصائب والنعم خفت عليها المصائب، وهان عليها حملها، كما ذكّر الله المؤمنين حين أصيبوا بأُحُد ما أصابوا من المشركين ببدر، فقـال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾([15]) وأدخل هذه الآية في أثناء قصة أُحُد ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.([16]) وكذلك يبشر الله عبده بالمخرج منها حين تباشره المصائب؛ ليكون هذا الرجاء مخففاً لما نزل (به) من البلاء، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾.([17])
وكذلك رؤيا يوسف إذا ذكرها يعقوب رجا([18]) الفرج وهب على قلبه نسيم الرجاء، ولهذا قال: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾.([19])
وكذلك قوله لأم موسى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.([20])
وأعظم من ذلك([21]) كله: أن وعد الله لرسله بالنصر و(ب) تمام الأمر هون عليهم المشقات، وسهل عليهم الكريهات، فتلقوها بقلوب مطمئنة وصدور منشرحة([22])، وألطاف الباري فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال([23])).
هذه كلها أمثلة واضحة لهذه القاعدة.
وخلاصتها: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يظهر عظيم فضله وإحسانه وبره بعباده، وما خصهم به بإظهار ما يكون في مقابلهم من النقص وفوات الكمال، وبهذا يظهر عظيم ما اختصهم الله به، سواء كان ذلك في الأعداء أو في الأحوال: في الأعداء كما جرى في التمثيل الأول في أول هذه القاعدة، وأما في الأحوال فذلك عند الشدائد والمصائب، فتارة يذكر في المصيبة ما أصاب غيرهم، وتارة يذكر في المصيبة ما حصل لهم من الفضل، ولو لم يذكر مصيبة غيرهم، وكل ذلك يظهر به عظيم المن، ولطف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعباده.
و هذه أسرار إنما يهتدي إليها من استصحبها عند تلاوته لكتاب الله عز وجل ونظره في سنته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في عباده الصالحين؛ بل في عباده كلهم؛ لأن سنة الله لا تختلف، فهي مطردة جارية.
([4]) الأصل أنمهما عجزين لبيتين مختلفين:
أحدهما عجز بيت للمنبجي أحد الشعراء المعروفين يقول في وصف شخص:
فالوجه مثل الصُّبح مبيضٌّ والشَّعر مثل الليل مسودُّ
صنفان لما استجمعا حَسُنا والضد يظهر حسنَه الضدُّ
والثاني فهذا من الشعر السائر المعروف لأبي الطيب المتنبي قال:
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله وبضدها تتبين الأشياء
([22]) في نسخة: وحسن العاقبة يهون عليهم به المشقات، ويسهل عليهم الكريهات، فيتلقوها بقلوب مطمئنة وصدور منشرحة.