قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة التاسعة والخمسون: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
ما أعظمَ هذه القاعدةَ، و([1])الأصلَ العظيمَ الذي نص الله عليه نصّاً صريحاً، وعمم ذلك ولم يقيده بحالة من الأحوال،([2]) فكل حالة هي أقوم، في العقائد والأخلاق والأعمال والسياسات الكبار والصغار والصناعات والأعمال الدينية والدنيوية فإن القرآن يهدي إليها ويرشد إليها، ويأمر بها ويحث عليها.
ومعنى ﴿أَقْوَمُ﴾، أيْ أكمل([3]) وأصلح([4]) وأعظم قياماً وصلاحاً ([5])".
الشيخ رحمه الله يقول: (وعمم ذلك ولم يقيده بحال من الأحوال) من أين استفدنا العموم في الآية؟ ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ فجعل الهداية إلىٰ وصف لا إلىٰ فعل أو إلىٰ أمر، الهداية إلي وصف وهو الاستقامة، يهدي للاستقامة ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ يعني يهدي للأكمل، في أي شيء؟ في كل شيء، لم يقيده بشيء، فجعل الهداية إلىٰ وصف لا إلىٰ أمر معين، وإلىٰ وصف عام لا إلىٰ وصف خاص، وهـٰذا وجه التعميم في هذه الآية.
ولذلك أدخل الشيخ رحمه الله في الآية كل ما يتعلق بحياة الناس وأمورهم الدينية والدنيوية في العقائد والأخلاق والأعمال والسياسات الكبار والصغار والصناعات والأعمال الدينية والدنيوية، كل هـٰذا القرآن يهدي إلىٰ التي هي أقوم فيه.
ثم يبين ذلك على وجه التفصيل يقول:
(فأما العقائد: فإن عقائد القرآن هي العقائد النافعة التي فيها صلاح القلوب وغذاؤها وكمالها، فإنها تملأ القلوب محبة لله وتعظيماً له وألوهية وإنابة،([6]) وهذا المعنى هو الذي أوجد الله الخلق لأجله).
هـٰذا من القواعد النادرة في العقائد النافعة، ما الذي ينبغي أن يشتغل به الإنسان في أمور العقائد؟ ما ملأ قلبه (محبة لله وتعظيماً له وألوهية) أي تعبداً (وإنابة) أي رجوعاً إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ماعدا هـٰذا مما يبحث في مسائل الاعتقاد مما حشاه المتكلمون فإنه لا خير فيه؛ لأنه ليس من العقائد النافعة؛ لأن العقائد النافعة هي التي احتواها القرآن، وانظر إلىٰ كل عقيدة ذكرها الله في كتابه تجدها تصب في هذه القاعدة وترجع إليها، وهي أنها تملأ قلوب العباد محبة لله وتعظيماً له وألوهية وإنابة، أي عبودية ورجوعاً إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكان القرآن يهدي للتي هي أقوم في العقائد.
(وأما أخلاقه التي يدعو إليها: فإنه يدعو إلى التحلي بكل خلق جميل، من الصبر والحلم والعفو وحسن الخلق والأدب وجميع مكارم الأخلاق، ويحث عليها بكل طريق، ويرشد إليها بكل وسيلة).
يأتي بها إجمالاً وتفصيلاً، فمن الإجمال في مجامع الأخلاق وكريم الخصال قول الله تعالىٰ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾([7]). هذه أجمع آية في كريم الخصال وطيب السجايا والأخلاق.... وأتى الأمر بحسن الخلق في آيات كثيرة على وجه التفصيل في العلاقة بين العبد وربه، في العلاقة بين العبد وأقرب الناس إليه والديه، وفي العلاقة مع أقاربه وجيرانه وغير ذلك، حتى مع الكفار بيّن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كيف يتعامل معهم المؤمن وكيف يتخلق معهم، وكل هـٰذا حواه القرآن، فكان كما قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ في الأخلاق.
(وأما الأعمال الدينية التي يهدي إليها: فهي أحسن الأعمال التي فيها القيام بحقوق الله وحقوق العباد، على أكمل الحالات وأجلها وأسهلها وأوصلها إلى المقاصد.
وأما السياسات الدينية والدنيوية:فهو يرشد إلى سلوك الطرق النافعة في تحصيل (المقاصد) والمصالح الكلية، وفي دفع المفاسد، ويأمر بالتشاور على ما لم تتضح مصلحته، والعمل بما تقتضيه المصلحة في كل وقت، بما يناسب ذلك الوقت والحال. حتى في سياسة العبد([8]) مع أولاده وأهله([9]) وخادمه وأصحابه ومعامليه، فلا يمكن أنه وجد أو يوجد حالة يتفق العقلاء أنها أقوم من غيرها وأصلح، إلا والقرآن يرشد إليها نصّاً وظاهراً، أو دخولاً تحت قاعدة من قواعده الكلية.
وتفصيل([10]) هذه القاعدة لا يمكن استيفاؤه([11])).
تفصيل هذه القاعدة أي: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾. وأيضاً يشير إلىٰ القاعدة التي أشار إليها في آخر كلامه قال: (والقرآن يرشد إليها) أي إلى الأقوم (نصّاً أو ظاهراً، أو دخولاً تحت قاعدة من القواعد الكلية). هـٰذا فيه بيان أنواع دلالات القرآن؛ بل أنواع دلالات النصوص من القرآن والسنة ثلاثة:
إما بالنص على الحكم.
وإما أن تكون دلالة اللفظ على الحكم ظاهرة؛ يعني تدل عليه؛ لكن يحتمل أن يكون المراد غيره.
الثالث: أن يدخل تحت قاعدة كلية، ولذلك على سبيل المثال في الشروط في شروط العقود قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل))([12]). استدل بهذا الحديث بعض العلماء على أنه لا يجوز اشتراط ما لم يأت في السنة جواز شرطه، ولذلك ذهبوا إلىٰ أن الأصل في الشروط عدم الصحة واللزوم. وقابلهم جمهور أهل العلم، قابل هٰؤلاء جمهور أهل العلم فقالوا: الأصل في الشروط الصحة واللزوم، وأما قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)) فالمراد كل شرط لم يأت ذكره في كتاب الله لا نصّاً ولا ظاهراً ولا دخولاً تحت قاعدة كلية دل عليها الكتاب والسنة، وقالوا: معنى ((كل شرط ليس في كتاب الله)) أي إنه معارض لما جاء في كتاب الله، أما إذا لم يعارض ما جاء في كتاب الله فإنه مقبول، والأصل فيه الصحة واللزوم؛ لعموم قول الله تعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾([13]). وهـٰذا الأمر يشمل العقد في أصله ووصفه، أصله أي موضوعه الأصلي، ووصفه: شروطه التابعة لا التي اشترطت فيه.
(وبالجملة فالتفاصيل الواردة في الكتاب وفي السنة، من الأوامر والنواهي والإخبارات كلها تفصيل([14]) لهذا الأصل المحيط.
وبهذا وغيره يتبين لك أنه لا يمكن أن يرد علم صحيح أو معنى نافع أو طريق صلاح ينافي القرآن. والله تعالىٰ ولي الإحسان).