قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة الستون: أنواع التعليم القصصي في القرآن.
من قواعد التعليم التي أرشد الله إليها في كتابه، أن القصص المبسوطة يجملها في كلمات يسيرة ثم يبسطها، وأن الأمور المهمة ينتقل في تقريرها نفياً وإثباتاً من درجة إلى أعلى أو أنزل منها.
وهذه قاعدة نافعة، فإنّ هذا الأسلوب العجيب يصير له موقع كبير، وتُقرر([1]) فيه المطالب المهمة، وذلك أنه إذا أجملت القصة([2]) بكلام([3]) كالأصل والقاعدة له، ثم وقع([4]) التفصيل بعد ذلك الإجمال، وقد وقع إيضاح وبيان تام كامل لا يقع([5]) ما يقاربه لو فصلت القصة الطويلة من دون تقدم إجمال([6])،وقد وقع([7]) هذا النوع في القرآن في عدة مَواضع:
منها: في قصة يوسف: في قوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾،([8]) ثم قال:([9]) ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾،([10]) ثم ساق القصة بعدها([11])".
هذه القاعدة تشير إلىٰ أنّ القرآن فيما جاء فيه من القصص يسلك هـٰذا السبيل، وهو أنه يُجمل في موضع ويفصل في موضع، ويركِّز في ذِكره الأمور المهمة، فينتقل في تقريرها نفياً وإثباتاً من درجة إلىٰ أعلى أو أنزل منها؛ يعني في التفصيل والإجمال.
مثّل المؤلف رحمه الله للتفصيل والإجمال في ذكر القصص بما ذكره الله عز وجل في قصة يوسف، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال في أول هذه السورة: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾([12]). ثم جاء تفصيل هذه القصة في قوله: ﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7)﴾،([13]) ثم استوعبت القصة غالب ما في تلك السورة الكريمة.
هـٰذا على القول بأن قوله تعالىٰ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ هي قصة يوسف، وهـٰذا قول لجماعة من أهل العلم، وهو الذي سار عليه الشيخ في هـٰذا الموضع.
القول الثاني أن قوله تعالىٰ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ المراد به قصص القرآن كلها، ليس قصة معينة فيه، فإن قصص القرآن أحسن القصص.
وأما إذا أردنا أحسن ما في القرآن من القصص فإنها قصة موسىٰ وفرعون؛ لأنها القصة التي كرّرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كثيراً وردّدها، فهي أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم، ولما فيها أيضاً من المعاني التي لا توجد في قصة يوسف.
وقد قرّر هـٰذا شيخ الإسلام رحمه الله ابن تيمية تقريراً بيِّناً، وذكر وجه المفاضلة والموازنة بين قصة يوسف وقصة موسىٰ وفرعون، وقال: إن قوله تعالىٰ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ ليس المراد به قصة يوسف فقط؛ بل المراد قصص القرآن.
ثم إذا أردنا أن نعرف أحسن القصص فأحسن القصص قصة موسىٰ عليه السلام مع فرعون، ووجه كونها أفضل؛ لأن قصة موسىٰ قصة واحد من أولي العزم من الرسل، وما ابتلي به وعاناه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم مما ابتلي به يوسف عليه السلام.
لكن نمشي على ما ذكر الشيخ رحمه الله في هـٰذا المثال، فيكون قوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ إجمالاً، تفصيل ذلك في قوله: ﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7)﴾. نعم.
([14])وقال تعالىٰ([15]): ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾،([16]) فأجملها ثم([17]) وقع بعده تفصيل.([18])
وأما التنقل في تقرير الأشياء من أمر إلى ما هو أولى منه، فكثير.
منها([19]): لما أنكر([20]) على من اتخذ([21]) مع الله إلهاً آخر، وزعم أن الله اتخذ ولداً قال في إبطال هـٰذا:([22]) ﴿مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍوَلاَلآبَائِهِمْ﴾،([23]) فأبان أن قولهم هـٰذا قول بلا علم، ومن المعلوم: أنه كل قول بلا علم من الطرق الباطلة. ثم صرح بقبحه قولُه: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾،([24]) ثم ذكر ([25])مرتبة هـٰذا القول من البطلان: ([26]) فقال: ﴿إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً﴾،([27]) وقال في حق المنكرين للبعث: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ﴾،([28]) أيْ علمهم فيها علم ضعيف([29]) لا يعتمد عليه([30]) ثم ذكر ما هو أبلغ منه فقال: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا﴾([31]) ومن المعلوم أن الشك ليس معه من العلم شيء،ثم انتقل منه إلىٰ قوله([32]): ﴿بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾([33])، والعمى آخر مراتب الحيرة والضلال.
وقال([34]) نوح عليه السلام في تقرير رسالته عند([35]) من كذبه، وزعم أنه في ضلال مبين: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾،([36]) فلما نفى الضلالة من كل وجه أثبت بعده الهدى الكامل من كل وجه، فقال: ﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ﴾،([37]) ثم انتقل إلى ما هو أعلى من ذلك([38])، وأن مادة هذا الهدى الذي جئت به من الوحي الذي هو أصل الهدى ومنبعه ومادته، فقال: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّيوَأَنصَحُ لَكُمْوَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.([39])
وكذلك هود عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
وقال في تقرير رسالة أكمل([40]) الرسل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ([41]): ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْوَمَا غَوَى﴾،([42]) فنفى عنه ما ينافي الهدى من كل وجه، ثم قال: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّوَحْيٌ يُوحَى﴾([43]) إلىٰ آخر الآيات.
وهو في القرآن كثير جداًّ، كانتقاله من ذكر هبته الولد لزكريا([44]) إلى ذكر مريم([45])، وأمر القبلة بعد تعظيمه للبيت، وغيرها).
هذه القاعدة واضحة وقد تقدم الكلام عليها في الدرس السابق، ولا مزيد على ما ذكره الشيخ رحمه الله، في الكلام الأخير (كانتقاله من ذكر هبة الولد لزكريا) أي إلىٰ مريم؛ أي إلىٰ هبته الولد لمريم، وأيهما أعظم وأكبر؟ الثاني؛ لأن زكريا أوتي الولد على كبر، والغالب أن لا يكون الولد من مثله، ومريم أوتيت الولد من غير وطء، من غير زوج.
([14]) في نسخة: وكذلك قصة أهل الكهف:قال في تصويرها الإجمالي:﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾[الكهف:9-12] فهذه الكلمات القليلة قد حوت مقصودها وزبدتها، ثم بسطها بقوله:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقّ﴾[الكهف:13] الآيات إلى آخر القصة. وكذلك قصة موسى: قال: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾[القصص:3] إلى قوله: ﴿يَحْذَرُونَ﴾[القصص:6]. ثم أتى بعد ذلك بالتفصيل.
([22]) في نسخة: وإبطال زعمه الكاذب الذي هو أساس الوثنية: أن هؤلاء الأولياء والآلهة أبناء الله؛ لأنهم النور الذي انبثق منه تجسدوا بشراً ثم عادوا إلى النورانية، فيقول.