قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة الثالثة والستون: العبرة بصدق الإيمان وصلاح الأعمال.
يرشد القرآن إلى أن العبرة بحسن حال الإنسان وإيمانه الصحيح وعمله الصالح، وأن الاستدلال على ذلك بالدعاوى المجردة أو بإعطاء الله للعبد من الدنيا أو بالرياسات([1]): كل ذلك من طرق المنحرفين".
هذه القاعدة معناها: أن دليل حسن حال الإنسان هو استقامته وعمله الصالح ومسابقته للخيرات، ليس ما يعطاه من مال ولا ما يدّعيه من مناقب وفضائل.
فالمرجع في معرفة حسن حال الناس النظر إلى أعمالهم، فمن كان على الطاعة والاستقامة والملازمة للكتاب والسنة كانت حاله حسنة، ومن كان خلاف ذلك فإنه على حال سيئة، مهما ادعى ومهما قال.
(والقرآن يكاد أن يكون أكثره تفصيلاً([2]) لهذه القاعدة، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا﴾،([3]) وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (89) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.([4]) وقد أكثر الله من هذا المعنى في عدة آيات([5]).
وأما حكاية المعنى الآخر عن المنحرفين فقال عن اليهود والنصارى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾([6])، ثم ذكر البرهان الذي من([7]) أتى به فهو المستحق للجنة فقال: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾،([8]) وقال تعالىٰ: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾،([9]) الآيات، وقال تعالىٰ: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾،([10]) ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾،([11]) ونحوها من الآيات التي يستدل بها الكفار على حسن حالهم، بتفوقهم في الأمور الدنيوية، والرياسات، ويذمون المؤمنين ويستدلون على بطلان دينهم([12]) بنقصهم في هذه الأمور (الدنيوية الزائفة) ، وهذا من أكبر مواضع الفتن([13])).
لأن من الناس من يرى إعطاء الله عز وحل للمنحرفين عن سبيله، إعطاءهم من الدنيا وتوسيع الله عليهم فيها، من دلائل محبتهم وقربهم، وهـٰذا ليس بصحيح؛ بل الذي يقرب هو الطاعة، كما قال جل وعلا: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى﴾ أي منزلة ودرجة وقربى ﴿إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا﴾([14]) أي بسبب عملهم، نسأل الله أن نكون منهم.
ولو كانت الدنيا تعطى للصلاح والتقوى لكان أعظم المعطَيْن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي كان على ما كان عليه من قلة اليد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إن عمر دخل عليه مرة -كما في صحيح مسلم- ووجده متكئاً قد أثر في جنبه الحصير صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبكى عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ لأنه قلب عينه في خزانة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يعني غرفته- لم يجد فيها إلا شيئاً يسيراً، فقال: يا رسول الله هـٰذا كسرى وقيصر على ما هم عليه، وأنت على هذه الحال. فرد عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين له أن الدنيا إنما يعطاها من يرغب فيها، وأما الآخرة فلا يعطاها إلا المتقون، وقال: ((إن الدنيا لهم والآخرة لنا)).([15])
فالمؤمن ينبغي له أن يكون ميزان معرفته لحال الشخص من الاستقامة وعدمها؛ أي من استقامة الحال وحسن العاقبة، لا بالنظر إلىٰ ما يعطاه في الدنيا، إنما بالنظر إلىٰ استقامته على الشريعة، سواء كان ممن وسع الله عليهم بالعطاء أو ممن قُدِر عليه رزقه، المرجع إلىٰ استقامة العقيدة والعمل وصلاح الحال، لا إلىٰ كثرة ما في اليد.