×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

/ / الدرس(1) من شرح المنظومة الفقهية للسعدي

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الدرس(1) من شرح المنظومة الفقهية للسعدي
00:00:01

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلٰه الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فنحمد الله سبحانه وتعالى على ما يسر من هذا اللقاء في هذه الدروس التي تعقد في مسجد الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ في المدينة النبوية. ونسأل الله عز وجل أن تكون دروسا نافعة، يحصل بها العلم النافع، ويتبعها العمل الصالح الذي به تثبت القدم على الصراط المستقيم، فإنه لا تثبت قدم أحد على الصراط المستقيم إلا بهذين الوصفين: • العلم النافع. • والعمل الصالح. فهما الصراط المستقيم الذي أمر المسلمون أن يسألوه في كل ركعة من صلواتهم: ﴿اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)﴾( ). فالصراط المستقيم قوامه العلم النافع والعمل الصالح، وخير ما تبذل فيه الأوقات، وتمضى فيه الساعات طلب العلم؛ لأنه به تزكو الأخلاق وتصلح الأعمال وبه يتحقق المقصود والغاية من الوجود، التي هي عبادة الله سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾.( ) فكل من سعى في هذا الأمر فهو ساع إلى الخير، وشهادة خير الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كافية في ذلك فقد قال: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) ( ). والفقه في الدين يشمل كل عمل تحفظ به الشريعة من حفظ أصولها وفروعها، من حفظ نصوصها وحفظ فهمها. فنسأل الله عز وجل أن يستعملنا وإياكم في العلم النافع والعمل الصالح، وأن يسلك بنا صراطه المستقيم، وأن يثبتنا على هذا الطريق القويم. وفي هذه الليلة نبدأ القراءة في القواعد الفقهية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله رحمة واسعة، وهي أبيات نظمها رحمه الله في أول سني تأليفه، فإنه كتبها في العقد الثالث من عمره -وعمره ثلاث وعشرون أو ما قارب ذلك-، وقد اعتذر رحمه الله في النسخة الخطية التي كتبها بيده عن بعض الخلل الواقع في النظم، ولعله أصلح أكثر ما وقع من كسر في النظم، ولم يبق إلا شيء يسير، لعله ينبه عليه في أثناء القراءة. وقد شرح الشيخ رحمه الله هذه المنظومة، وهي مجموعة قواعد، شرحها رحمه الله شرحا وافيا واضحا سهلا كسائر كتبه، فإن من ما تميز به هذا العالم الجليل سهولة العبارة ووضوحها وجلاء ما فيها من المعاني، وهذا يلحظه الإنسان إذا طالع كتب هذا العالم الجليل، سواء كانت في الفقه أو في أصول الدين أو في التفسير أو في غير ذلك من العلوم. وأنصح بقراءة كتبه رحمه الله، فإنه يجمع خيرا كثيرا في كلام قليل، وهٰذا على خلاف حال كثير من المتأخرين؛ فإن أكثر كلام المتأخرين فيه حشو لا فائدة منه، ويصدق عليهم ما ذكره ابن القيم رحمه الله في وصف كلام المتأخرين حيث قال: " كلامهم كثير قليل البركة". بخلاف كلام السلف ومن سلك سبيلهم فإنه قليل كثير البركة، والشيخ رحمه الله تميز بهذه الميزة، ولعل ذلك من أسباب القبول التي يلمسها كثير من الناس في مؤلفات الشيخ رحمه الله. نقرأ هذه القواعد، وهي قواعد يسيرة ليست بكثيرة: منها ما هو قواعد فقهية. ومنها ما هو قواعد أصولية. وسيأتينا إن شاء الله تعالى الفرق بين هذين النوعين من القواعد، صدرها رحمه الله بمقدمة، ثم شرع بذكر القواعد تباعا على حسب أهمية هٰذه القواعد. بسم الله الرحمٰن الرحيم الحمد لله العلي الأرفق *** وجامع الأشياء والمفرق ذي النعم الواسعة الغزيرة*** والحكم الباهرة الكثيرة ثم الصلاة مع سلام دائم*** على الرسول القرشي الخاتم وآله وصحبه الأبرار *** الحائزي مراتب الفخار اعلم هديت أن أفضل المنن*** علم يزيل الشك عنك والدرن ويكشف الحق لذي القلوب *** ويوصل العبد إلى المطلوب فاحرص على فهمك للقواعد*** جامعة المسائل الشوارد فترتقي في العلم خير مرتقى*** وتقتفي سبل الذي قد وفقا وهٰذه قواعد نظمتها *** من كتب أهل العلم قد حصلتها جزاهم المولى عظيم الأجر *** والعفو مع غفرانه والبر بسم الله الرحمن الرحيم من المناسب في ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند افتتاح القراءة أن يذكر باسمه، وهذه ملاحظة أحب أن أنبه إليها؛ لكثرة من يغفل عنها، فإن كثيرا من الذين يقدمون حديثهم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يذكرونه بوصفه غير المميز، والسنة دلت على أنه ينبغي في الصلاة أن يذكر ما يتميز به صلى الله عليه وسلم: إما باسمه وهذا أبرز ما يتميز به، أو بوصفه الذي لا يشاركه فيه غيره، كخاتم النبيين، وما أشبه ذلك من الأوصاف التي اختص بها دون سائر النبيين. فإذا قلت في افتتاح قراءتك لكتاب بعد الحمد والثناء على الله فقل: (وصلى الله على نبينا محمد) ولا تقل فقط: (وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه الصلاة لما سألوه فقال لهم: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد))( ) وكذلك في الدعاء له بالبركة. وهذه مسألة التنبه لها مهم، وإن كان الجميع يعلم أن المصلى عليه هو النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه إشكال؛ لكن التنصيص على اسمه هو الموافق لهديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فإن قصر الإنسان عن الاسم فلا أقل من أن يأتي بوصف مميز يميزه عن غيره، كخاتم النبيين، كما فعل المؤلف رحمه الله في مقدمة هذا النظم. قال رحمه الله: (بسم الله الرحمن الرحيم) فافتتح هذه المنظومة بالبسملة كسائر مؤلفات أهل العلم. والسر في البداءة بالبسملة أن ذلك هو الهدي في كتاب الله جل وعلا، فإنه سبحانه وتعالى افتتح كلامه بالبسملة؛ فأم الكتاب مفتتحة بالبسملة، وكذا كل سورة في الكتاب المبين مفتتحة بالبسملة، عدا سورة براءة فإنها لم تكتب فيها البسملة. ثم إن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه كان يفتتح كتبه ورسائله وخطاباته بالبسملة، فهدي النبي صلى الله عليه وسلم الافتتاح بالبسملة في أول كتبه ورسائله. وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح، فإنهم رحمهم الله كانوا يفتتحون كتبهم بالبسملة. فالافتتاح بالبسملة سنة قرآنية نبوية سلفية؛ فينبغي للإنسان أن يحرص على هذه السنة وألا يفرط فيها. ثم الكلام على البسملة من حيث هي كلام مشهور معروف، ومتكرر، ولذلك أنصح طالب العلم أن يضبط الكلام في البسملة؛ لأن كل عالم يتكلم بشرح كتاب يقدم بذكر شيء عن البسملة، فمن المناسب أن تكون مستحضرا ما هو أصل في هذه البسملة. فأول ما نذكره ونذكر شيئا يسيرا والكلام على البسملة مطول ولكن نذكر شيئا يسيرا. أولا: هل البسملة جملة أو لا؟ هي جملة، وتعرفون أن الجملة تنقسم إلى جملة اسمية وجملة فعلية. هل البسملة جملة اسمية أو جملة فعلية؟ عندنا في البسملة قولان، وهما قولان مشهوران لأهل العلم: القول الأول: أنها جملة اسمية، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. والقول الثاني: أنها جملة فعلية. وما الذي يحدد هل هي اسمية أو فعلية؟ الذي يحدد ذلك هو متعلق الجار والمجرور، فإن قوله: (بسم) يتكون من أمرين: • الباء وهي حرف جر. • وكلمة (اسم) وهو اسم مجرور. واعلم أن كل جار ومجرور لا بد له من متعلق، فما هو متعلق هذه البسملة؟ من قدره باسم قال: إن الجملة اسمية. ومن قدره بفعل قال: إن الجملة فعلية. والصحيح أنه جملة فعلية، وهو الذي عليه أكثر أهل النحو، أن متعلق البسملة فعل. فإذا قلنا: إن متعلق البسملة اسم صارت جملة اسمية، وإذا قلنا: إن المتعلق فعل صارت جملة فعلية. ما هو الفعل المقدر؟ الفعل المقدر قدره بعض أهل العلم بقوله: أبدأ، بسم الله أبدأ، في كل مورد جاءت فيه البسملة. فإذا دخلت المسجد تقول: بسم الله أبدأ. إذا أكلت تقول: بسم الله – المتعلق (أبدأ). إذا قرأت نحن نقرأ الآن، بسم الله الرحمن الرحيم، ما هو المتعلق؟ أبدأ... و هلم جرا. جعلوا المتعلق في جميع الأحوال واحدا وهو الفعل (أبدأ). والصحيح أن الفعل المقدر لا بد أن يكون مناسبا؟ بمعنى أنه يناسب حال القائل. فالذي يدخل المسجد ما الأنسب في التقدير؟ أبدأ أو أدخل؟ أدخل. الذي يقرأ ما الأنسب في التقدير؟ أقرأ. الذي يكتب ما الأنسب في التقدير؟ أكتب. الذي يأكل ما الأنسب في التقدير؟ بسم الله آكل، وكذلك أشرب. حيث ما وردت فينظر إلى فعل مناسب. إذا عرفنا أن المتعلق فعل، وأنه مناسب، وخذ ثالثة، وهي أن يكون مؤخرا؛ يعني ما نقدره مقدما على البسملة، تقدره مؤخرا فتقول: بسم الله أقرأ، ما نقول: أقرأ بسم الله. لماذا؟ للتيمن وطلب البركة بالبداءة بسم الله تعالىٰ،واضح؟ هذا هو السر في جعل الفعل المقدر المناسب مؤخرا. هذه البسملة تضمنت ثلاثة أسماء من أسماء الله عز وجل: الاسم الأول (الله)، والثاني (الرحمٰن)، والثالث (الرحيم)، وهذه الثلاثة الأسماء أسماء عظيمة للرب جل وعلا، أعظمها اسم (الله) الذي قيل إنه الاسم الأعظم، والذي ترجع إليه جميع الأسماء، فهو متضمن لجميع معاني الأسماء، فكل اسم من أسماء الله عز وجل يدل على هذا الاسم إما بالتضمن أو بالالتزام. ماذا نقصد بالدلالات في القواعد المثلى؟ كم دلالات الألفاظ؟ ثلاث، ترى العلم مرتبط، قواعد فقهية، عقيدة، العلم حيثما طالعته ما فيه حدود فاصلة تمنع التداخل، العلم متداخل. إذا نقول: إن كل اسم من أسماء الله عز وجل يدل على أي شيء؟ يدل على هذا الاسم العظيم وهو (الله) إما بالتضمن أو بالالتزام، والأغلب دلالته عليه بالالتزام. طيب وما معنى هذا الاسم؟ هذا الاسم مشتق، ومن أين اشتقاقه؟ من (إلٰه)، فالأصل في اسم الله هو (الإلٰه).يعني الأصل: باسم الإله، طيب أين راحت الهمزة؟ سقطت، ما الذي أسقطها؟ كثرة الاستعمال. هل لهذا نظير في لغة العرب؟ الجواب: نعم له نظير، ما نظيره؟ وصفنا إيش أو اسمنا إيش؟ الناس أصلها إيش؟ أناس، هل منا أحد يقول: الأناس جاؤوا، الأناس فعلوا؟ أو يقول: الناس قالوا، الناس فعلوا، الناس جاؤوا؟ أين ذهبت الهمزة؟ أين ذهبت؟ ذهبت، سقطت لكثرة الاستعمال، كذلك لفظ الجلالة الله أصله الإله وسقطت همزته لأجل كثرة الاستعمال. وما معنى هذا الاسم؟ (الله ). لفظ نقوله في اليوم مرات عديدة فما معناه؟ معناه المألوه، وما معنى المألوه؟ أي المعبود محبة وتعظيما. فإذا قلت: (بسم الله) أي باسم المعبود محبة وتعظيما. إذا قلت: الحمد لله حمدت المعبود محبة وتعظيما، وهو الله جل وعلا، ولا بد يا أخي أن يكون لك انتباه إلى معاني الألفاظ المتكررة التي تلهج بها وتقولها دائما؛ لأن الغفلة عن هذه المعاني تذهب ثمرتها. فالذي يقول: سبحان الله ولا يدري ما معنى التسبيح، أو يقول: الحمد لله ولا يدري ما معنى الحمد لله، أو يقول: الله أكبر ولا يدرك معنى هذا. هل يحصل له ثمرة هذه الأذكار، وهل يحصل له نفعها؟ الجواب: لا. ولذلك عاب الله سبحانه وتعالى على الذين يقرؤون القرآن ولا يتدبرونه؛ لأنهم لم يحصلوا مقصوده؛ ليس المقصود أن نقرأ: ﴿الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) مٰلك يوم الدين (4)﴾،( )ولا ندري ما مضامين هذه الجمل العظيمة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24)﴾، ( ) وقال جل وعلا: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك﴾ لماذا؟ هل ليقرؤوه؟ لا؛ ﴿ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب (29)﴾،( ) وعاب الله سبحانه وتعالى أولئك الذين قصروا أفهامهم وعقولهم واهتمامهم على القراءة اللفظية دون القراءة المعنوية، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون﴾( ) ما معنى ﴿إلا أماني﴾ يعني إلا قراءة، فوصفهم الله عز وجل بهذا الوصف وهو أنهم ﴿أميون﴾ ومن هو الأمي؟ الذي لا يقرأ ولا يكتب، المنسوب إلى أمه؛ يعني الذي حاله كيوم ولدته أمه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ﴾،( ) فالأمي هو الذي يقرأ القرآن ولا يدرك معناه، وإن كان أجود الناس في مخارج الحروف، وأجودهم في إتقان القراءة، هذا إذا كان لا يدرك المعنى فهو يصدق عليه قوله تعالى: ﴿ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب﴾ ثم استثنى فقال: ﴿إلا أماني﴾ إلا القراءة، وهل هذا على وجه المدح له أو على وجه الذم؟ سيق هذا الخبر على وجه الذم لا على وجه المدح. فعلم بذلك أن من لم يعتن بإدراك المعاني فإنه لم يحصل المقصود، وهذه مهمة يا إخواني، مهمة لنا في قراءتنا في كتاب الله، وفي قراءتنا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قراءتنا للأذكار التي نرددها صباح مساء، ونحن لا ندري ولا ندرك معاني هذه الأذكار. الآن لفظ الجلالة (الله) هذا الاسم العظيم من متى نسمعه؟ نسمعه ونحن صغار قبل التمييز ونردده كثيرا؛ لكننا لا نعلم أو كثير منا لا يعلم معنى هذا الاسم العظيم. فإدراك معاني الأسماء يحصل بها كمال العبودية لله عز وجل، ويحصل بها ما أمر الله به في قوله: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾.( ) كيف تدعوه بها؟ يعني تتعبد له بها، وكيف تتعبد له بها وأنت لا تدرك معناها ولا تعرف محتواها. هذا أمر مهم يجب التنبه له. ثم قال: (الرحمٰن الرحيم) هذان اسمان عظيمان من أسماء الله عز وجل، وهما مشتقان من الرحمة، كلا الاسمين يدل على صفة الرحمة؛ لكن اعلم أن (الرحمٰن) أخص من وجه، و(الرحيم) أخص من وجه، ف(الرحمٰن) يدل على الرحمة؛ لكنه يدل على الصفة القائمة بالرب جل وعلا. واضح؟ وأما (الرحيم) فهو يدل على الفعل. وهذا أجود ما قيل في التفريق بين هذين الاسمين العظيمين: أن (الرحمٰن) دال على أي شيء؟ دال على الصفة، وأن (الرحيم) دال على الفعل. وخذ دليل ذلك: فإنه جل وعلا لما أراد الإخبار عن صفة تقوم به ماذا قال؟ قال: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾.( ) ولما أراد بيان إيصال هذه الرحمة لعباده قال جل وعلا: ﴿وكان بالمؤمنين رحيما﴾.( ) وإن كان الوصفان كلاهما يدل على صفة الرحمة. وقد جاء الاسم (الرحمٰن) على صيغة فعلان التي تدل على أي شيء؟ تدل على الامتلاء والسعة في هذه الصفة. وجاء (الرحيم) على صيغة فعيل بمعنى فاعل، فالرحيم على وزن فعيل وهو بمعنى فاعل، أي الذي يوصل الرحمة إلى عباده. وبهذا نكون قد أشرنا إلى بعض ما تضمنته البسملة من مسائل، ومن أراد الزيادة فكلام أهل العلم كثير في هذا البحث. ننتقل إلى ما اجتمعنا لأجله من القراءة والتعليق على كتاب القواعد الفقهية. قال رحمه الله: الحمد لله العلي الأرفق*** وجامع الأشياء والمفرق ابتدأ المؤلف رحمه الله هذه المنظومة بعد البسملة بحمد الله جل وعلا، وهو أحق من حمد. و(الحمد) هو ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيما. هذا تعريف الحمد: ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيما. وهو أكمل من تعريف من عرف الحمد بأنه: الوصف والثناء بالجميل. فإن ذلك قاصر، والحمد أعظم من هذا، فهو ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيما، وهو حق لله جل وعلا. ولذلك لا أحد أحب إليه المدح من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه المستحق للحمد، فله الحمد كله: أوله وآخره، ظاهره وباطنه جل وعلا. وحمده على كل ما يكون منه، فهو المحمود على أسمائه الحسنى، وهو المحمود على صفاته العلا، وهو المحمود على أفعاله الجميلة، وهو المحمود في كل ما يكون منه جل وعلا. ولذلك استدل ابن القيم رحمه الله من هذه اللفظة على إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلا والأفعال الجميلة للرب جل وعلا، من كلمة (الحمد لله) فقط؛ لأنه من الذي يحمد؟ من الذي يستحق الحمد؟ من كانت أسمائه حسنى، ومن كانت صفاته عليا، ومن كان فعله جميلا، ولا أحد أوفى بهذه الصفات وأحق بها من الله جل وعلا: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)﴾،( ) ﴿له الأسماء الحسنى﴾،( ) ﴿وله المثل الأعلى﴾( ) جل وعلا أي وله الصفة العليا سبحانه وتعالى. و(الحمد) أتى بالألف واللام في أوله لاستغراق جميع المحامد، فكل الحمد لله عز وجل، كل الحمد له سبحانه وتعالى، فالألف واللام في قوله: (الحمد) لاستغراق جميع المحامد، فهي له حق، وهو لها مستحق سبحانه وتعالى. (لله) تقدم الكلام عليه. (العلي الأرفق) هذان وصفان لله سبحانه وتعالى، و(العلي) من أوصافه وأسمائه سبحانه وتعالى، وبه نثبت لله عز وجل: • علو الذات. • وعلو القهر. • وعلو القدر. كل هذه الأنواع الثلاثة نثبتها له من قوله: (العلي). واضح؟ أما علو الذات، فأدلته كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة. قال الله جل وعلا: ﴿أأمنتم من في السماء﴾( ). أي من في العلو أو من على السماء، هذا وهذا كلاهما يؤدي نفس المعنى. وأما علو القدر فدليله: ﴿وله المثل الأعلى﴾،( ) هذا علو القدر، له الصفة العليا. وعلو القهر دليله: ﴿وهو القاهر فوق عباده﴾( ) سبحانه وتعالى. ثم قال: (الأرفق) هذا فيه هذا الوصف للرب جل وعلا، فإن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله سبحانه وتعالى. والرفق صفة له، ومن علامات ودلائل هذه الصفة ما قضاه سبحانه وتعالى وقدره من خلق الأشياء بالتدريج، فإن هذا من رفقه سبحانه وتعالى في خلقه وأمره. ثم قال رحمه الله: (وجامع الأشياء والمفرق) وهذا من بديع ما استهل به المؤلف رحمه الله هذه المنظومة، حيث أشار إلى مضمونها في قوله: (وجامع الأشياء والمفرق)، فإن القواعد تجمع متشابهات ونظائر وأشباها، وتفرق بينها وبين ما يخالفها في الأوصاف، فلا يدخل فيها. فهو إشارة إلى ما تضمنته هذه المنظومة من القواعد، فإنه أشار بقوله: (وجامع الأشياء والمفرق) إلى صفة القواعد، فإن القواعد يحصل بها هذا. والله سبحانه وتعالى يجمع بين أمور فيسوي بينها، ويفرق بين أمور فلا يسوي بينها، فالواجب في هذا أن نسوي بين ما سوى الله عز وجل بينه، وأن نفرق بين ما فرق الله جل وعلا بينه من الأمور. ثم قال: (ذي النعم الواسعة الغزيرة)؛ (ذي) بمعنى صاحب، فهو صاحب النعم جل وعلا. ونعمه متصفة بوصفين: واسعة وغزيرة: الواسعة هذا وصف كمي أو كيفي؟ كيفي واسعة، ولو كانت نعمة واحدة. والغزيرة كمي أو كيفي؟ كمي، فهي كثيرة. وهذان الوصفان من أوصاف نعمته سبحانه وتعالى: فهي واسعة شملت خلقه، فما من مخلوق إلا ونعمة الله سبحانه وتعالى تدركه، هذا من جهة السعة. وأما من جهة الكثرة فما أكثر نعم الله سبحانه وتعالى على عباده، كما قال جل وعلا: ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾( ). فنعمه سبحانه وتعالى كثيرة، يعجز الذهن عن حصرها وعدها وإدراكها؛ بل هي متنوعة كثيرة في الأجناس والأنواع والأصناف والأفراد، وليس للعبد إلا أن يسلم للرب وأن يثني عليه بهذه النعم، وأن يشكره عليها. أما عدها وحصرها فإنه لا سبيل إلى ذلك، كما قال الله جلا وعلا: ﴿وإن تعدوا نعمة الله﴾ فما هي الحال؟ ﴿لا تحصوها﴾، يمكن أن تعد، تقول: نعمة البصر، نعمة السمع، نعمة العقل، نعمة الإسلام، نعمة الحركة، نعمة الشم، و هلم جرا؛ لكن هل نحصيها؟ لا نحصيها، فالعد ممكن؛ لكن الإحصاء متعذر ومستحيل، ولذلك نفى الله عز وجل الإحصاء وأثبت العد. ثم قال: (والحكم الباهرة الكثيرة) فهو المنعم، وهو في نعمته سبحانه وتعالى حكيم، وأنت انظر يا أخي إلى هذه الصفة العظيمة للرب جل وعلا لتدرك أن الله سبحانه وتعالى لا يفعل شيئا ولا يأمر بشيء إلا لحكمة، فله الحكمة البالغة في خلقه، وله الحكمة البالغة في أمره. له الحكمة البالغة في جميع ما خلق، كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى، كل ما أوجده الله سبحانه وتعالى من خير أو شر فله فيه حكمة؛ وكذلك كل ما شرعه سبحانه وتعالى له فيه حكمة. لكن -اعلم بارك الله فيك- أن الحكمة لا تستقل عقولنا بإدراكها على وجه التحقيق، وهذه مسألة مهمة ضرورية أن نفهمها وأن ندركها، وأن ننقلها إلى غيرنا؛ أن الحكم في خلق الله -يعني في مخلوقاته- والحكم في شرعه -يعني في مشروعاته- ندرك بعضها، ويخفى علينا كثير منها، فلا نحيط بحكمة الله عز وجل في خلقه وأمره على وجه التفصيل. وهذا يسلمك من كثير مما يسأل عنه السائلون: ما الحكمة من كذا؟ فنقول: هناك حكمة، ما من شيء في هذا الكون إلا له حكمة، ما من شيء أمر الله به إلا له حكمة؛ لكن عقولنا تقصر عن إدراك الحكمة، عقولنا لا تستقل بمعرفة تفاصيل ما قضاه الله جل وعلا وقدره، ولا بما أمر به وحكم جل وعلا في شرعه. وهذه المسألة مهمة للغاية، لا سيما في هذا العصر الذي أصبح الإنسان يقدس العقل في كثير من الأحيان، حتى إن بعض الناس بلي فجعل الشرع تابعا للعقل، فلا يعمل بشيء ولا يقبل خبرا إلا ويسأل: ما الحكمة؟ نقول: يا أخي هل عقلك أدرك الحكمة من كل شيء؟ في أمور الدنيا، أمورنا نحن التي نفعلها في أفعالنا، هل ندرك الحكمة في كل ما يكون منا؟ لا. فما بالكم بالله جل وعلا العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية. فيجب على المؤمن أن يسلم بالقاعدة الأصلية، وهي: أنه ما من شيء من الخلق ولا من الشرع إلا وفيه حكمة لله جل وعلا؛ لكن ما هي الحكمة؟ نجتهد في التوصل إليها، فما وفقنا إليه فالحمد لله، مع أننا نقول: إننا لم ندرك الحكمة على وجه النهاية، فقد يكون من الحكم ما لا ندركه، ولا نقف عليه، وهو من الحكم المقصودة للشارع. فالمؤلف رحمه الله يقول: (والحكم الباهرة) التي تبهر العقول وتتعجب منها العقول، هذا فيما أدركناه، (الكثيرة) في العدد فالباهرة هذا في وصفها، والكثيرة في عددها، فهي كثيرة. ثم قال رحمه الله بعد أن أثنى على الله عز وجل بما تقدم، وقوله: (الحكم) هذا فيه إشارة إلى أن القواعد يستفاد منها معرفة الحكم، وهذا أمر تتميز به القواعد الفقهية عن القواعد الأصولية. القواعد الفقهية تعرف بها الحكم الشرعية، أما القواعد الأصولية فإنها لا تفيدك معرفة الحكم الشرعية، كما سيأتي إن شاء الله تعالىٰ بيانه في التفريق؛ عند ذكر الفرق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية. ثم قال رحمه الله: ثم الصلاة مع سلام دائم*** على الرسول القرشي الخاتم (ثم الصلاة) بدأ بالصلاة قبل السلام؛ لأن الله أمر بالصلاة قبل فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾.( ) فبدأ بالصلاة لبداءة الله بها ثم أتى بالسلام، لكون الله جل وعلا أمر بالأمرين: بالصلاة والسلام. والصلاة ما معناها؟ كلنا نقول: اللهم صل على محمد، عند ذكره صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فما معنى هذه الصلاة؟ الصلاة معناها أننا نسأل الله عز وجل أن يثني على رسوله في الملأ الأعلى، هكذا قال أبو العالية في صحيح البخاري، ( ) نسأل الله عز وجل أن يثني على رسوله في الملأ الأعلى؛ يعني عند الملائكة. وقيل: إن الصلاة هي دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بخير كثير، ما هو؟ الله أعلم ما نحدده. وعلى كل هو دعاء خير للنبي صلى الله عليه وسلم، سواء كان الثناء أو كان ما هو أعم وأوسع من ذلك. وأما السلام فهو سؤال الله عز وجل أن يسلم رسوله صلى الله عليه وسلم، وكيف يسلمه وقد مات؟ يسلمه صلى الله عليه وسلم من أن يؤذى في قبره، أو أن يؤذى شرعه وسنته صلى الله عليه وسلم، فإن الدعاء بالسلامة له يكون له في ذاته ولما جاء به داعيا إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال: (دائم) أي مستمر لا انقطاع فيه. ثم قال: (على الرسول القرشي)، (على الرسول) الألف واللام هنا للعهد الذهني، ومن المراد بذلك؟ رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأتى بالوصف المميز له عن سائر النبيين فقال: (القرشي) هل هناك رسول قرشي غير النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا، فهذا وصف مميز. وقوله :(الخاتم) هذا وصف مميز ثان، فإنه خاتم النبيين، كما قال الله جل وعلا: ﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ﴾.( ) ثم قال: وآله وصحبه الأبرار*** الحائزي مراتب الفخار (وآله) يعني وعلى آله. وآله هم أتباعه من أقاربه، وقيل: هم أتباعه من أقاربه وغيرهم. طيب.إذا كان على المعنى الثاني، ما هو المعنى الثاني؟ أتباعه مطلقا من أقاربه وغيرهم؛ يشمل الأقارب ويشمل أيضا أصحابه رضي الله عنهم، أليس كذلك؟ فقوله: (وصحبه) كيف يكون الكلام؟ يكون من باب عطف الخاص على العام. طيب.أيهما أحسن؟ أن نحمل قوله: (وآله) على أتباعه، على ملته من أقاربه وغيرهم، أيهما أحسن؟ هٰذا حمل معنى أوسع كلما كان أكمل. الآن إذا قلنا: (على آله) أقاربه، آله هم أتباعه من أقاربه، المعنى ضيق، أليس كذلك؟ فإذا قلنا: هم أتباعه على ملته، كان المعنى أوسع ودخل فيه المعنى الأول، أليس كذلك؟ فكان الأولى حمله على ما هو أوسع. ثم قال: (الأبرار) هذا يعود على الآل ويعود على الأصحاب، والأبرار جمع بر، ومن هو البر؟ البر هو المحسن الكثير الخيرات، وهذا وصف مطابق لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أهل إحسان وكثر خيرهم رضي الله عنهم، فما نعيش فيه من الخير إنما كان سبب وصوله إلينا جهادهم رضي الله عنهم. ثم قال: (الحائزي مراتب الفخار) أي مراتب الفضل والسبق، فقوله: (الفخار) من الفخر. الفخر ما هو؟ الفخر هو السبق بالفضيلة؛ ولكن هل هٰذا يدعو إلى العلو على الناس؟ لا، فإنه لا يجوز للمؤمن أن يعلو على الناس، وأن يستطيل عليهم بحق أو بغير حق. الاستطالة على الناس بحق هي أن يكون الإنسان موصوفا بوصف يوجب تقدمه، فيعلو على الناس بسبب هذا الوصف؛ ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبقه الناس يوم القيامة وعظيم نفعه إياهم في الموقف العظيم قال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر))( ). يعني هذا حق أنه سيد ولد آدم، فهو خيرهم وأفضلهم؛ ولكن هذا لا يحمله على المباهاة، فقوله: ((ولا فخر)) أي لا مباهاة بهذه الخصلة التي اتصفت بها. ولذلك أهل السنة والجماعة كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية: يمنعون الاستطالة على الناس بحق أو بغير حق. فالاستطالة بحق هي أن تكون موصوفا بما يوجب التقدم، وبغير حق أن يكون الإنسان كلابس ثوبي زور، ليس عنده ما يسبق به الناس ويعلو عليهم، كالفقير المستكبر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((عائل مستكبر)).( ) ثم قال: اعلم هديت أن أفضل المنن*** علم يزيل الشك عنك والدرن ويا له من بيت! بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من الحمد والثناء والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع في المقصود، وبدأه بضابط ذهبي للعلم النافع. هذا البيت ضابط للعلم النافع، الذي ينبغي لنا أن نحرص على الاستكثار منه وتحصيله. وبدأه بالأمر في قوله: (اعلم) حثا وشحذا للهمم أن تقبل عليه: اعلم هديت أن أفضل المنن*** علم يزيل الشك عنك والدرن فأفضل ما يمن الله سبحانه وتعالى به على العبد العلم النافع، وما هو العلم النافع؟ العلم الذي ينفي عن قلبك الشكوك، ويزيل عن قلبك أدران المعاصي والرياء. فإذا اتصف العلم الذي تسعى في تحصيله وإدراكه بهذين الوصفين فافرح واحمد الله، فإنك موفق إلى العلم النافع. وينبغي للمؤمن -يا إخواني- أن ينظر في العلم الذي يطلبه، والسعي الذي يبذله، والجهد الذي يصرفه، هل هو في علم نافع أو لا؟ فإن كثيرا من الناس يشتغل بعلوم هي في الحقيقة ليست من العلم النافع. والنبي صلى الله عليه وسلم مما أثر عنه في حديث أم سلمة أنه كان يقول إذا أصبح -فهو من أذكار الصباح-: ((اللهم إني أسألك علما نافعا))( ). رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الله علما؛ ولكنه ليس كل علم، إنما هو العلم النافع. وضابط العلم النافع هو ما ذكره المؤلف رحمه الله، وهو الذي يصلح به القلب: "علم يزيل الشك عنك والدرن" "ويكشف الحق لذي القلوب" (ذي) هنا اسم إشارة، أي لهذه القلوب "ويوصل العبد إلى المطلوب" أي إلى الله، يوصله إلى المطلوب؛ وما هو المطلوب؟ المطلوب في الدنيا رسوخ الإيمان وحصول اليقين، والمطلوب في الآخرة الفوز بالجنان. فالعلم النافع هو ما أوصلك إلى هذين المطلوبين: إيمان راسخ، ويقين ثابت في هذه الدنيا. وأما في الآخرة فجنة نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. ثم قال: " فاحرص على فهمك للقواعد" بعد أن بين الغاية التي يسعى إليها طالب العلم، وهي زوال الشك والدرن وانكشاف الحق وحصول المطلوب، بين لنا رحمه الله السبيل، الطريق الموصل إلى هذه الغاية، وهذا من بديع تصنيفه رحمه الله: أنه ذكر لنا المنتهى وبين لنا السبيل والطريق الموصل إلىٰ هذه الغاية، فما هو السبيل؟ قال: (فاحرص) يعني لن تحصل على ما ذكر وما تقدم إلا بهذه الوصية: فاحرص على فهمك للقواعد*** جامعة المسائل الشوارد وهذا يا إخواني مهم مهم مهم للغاية في طلب العلم، وهو الذي يميز بين طلبة العلم. تجد أن اثنين يبدأان مشوار الطلب في وقت واحد، ويصرفان من الجهد شيئا متشابها، ثم ما يلبث أن يتقدم أحدهما على الآخر، السبب لا يمكن أن نحصره في أمر واحد، لا شك أن ما يقوم في القلب من الإخلاص، ما يمن الله به من التوفيق، وما يكون عند الشخص من فهم، هذه الأمور كلها أسباب للسبق في طلب العلم. لكن هناك أمر مهم وضروري يحصل به السبق، وهو أن يعتني طالب العلم في طلبه للعلم على ضبط القواعد في كل علم، كل علم يطلبه يحرص على ضبط قواعده. في علم العقائد، في علم الفقه، في علم الحديث، في علم التفسير، في جميع العلوم. العلوم بحور، ومن أراد خوض هذه البحور فليحرص على القواعد الأصول التي تجمع له شتات العلم. فالعلم منتشر، ومسائله كثيرة، ولو أن الإنسان اشتغل بتحصيل مسائل باب من أبواب الفقه وضبط هذه المسائل وحفظها لأعياه، وما استطاع أن يدرك مبتغاه؛ لكنه إذا ضبط هذه الأبواب بالقواعد والأصول اجتمعت له هذه الشوارد، وانتظمت له هذه الفرائد، واتضحت له هذه المسائل. وفوق هذا كله اكتسب ميزة وصفة مهمة، وهي الاطراد في القول، وهذه مسألة يتميز بها بعض العلماء، السبب هو أنه يمشي على قواعد أصول، إذا وجدت الاضطراب في قول العالم أو في قول القائل فاعلم أن مرجع ذلك في الغالب إلى ضعف الاهتمام بالقواعد. ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تميز فقهه بالاطراد، وسبب ذلك أنه يعمل القواعد، ويجمع الشوارد، تحت أصول وضوابط وقواعد، أي مسألة تقابله ينزل القاعدة عليها، فتكون النتيجة مشابهة لقوله في نظيرها أو في شبيهها وفي أشباهها من المسائل، فضبط القواعد يحفظ الإنسان من الاضطراب ويحقق له وصف الاطراد. فاحرص على فهمك للقواعد*** جامعة المسائل الشوارد فترتقي في العلم خير مرتقى*** وتقتفي سبل الذي قد وفقا وصدق، صدق رحمه الله، فإن من اعتنى بالقواعد سبق في العلم، ارتقى -كما ذكرنا لكم- خير مرتقى، سبق سبقا بينا. بخلاف ذاك الذي اشتغل في حفظ فروع المسائل وصورها وشواردها وغرائبها ونوادرها، ثم ترد عليه مسألة يقول: ما مرت علي، ما حفظتها، ما قرأتها في كتاب. الآن يمكن أن نقرأ مثلا في كتاب في المسائل كتاب الطهارة من كتاب من الكتب المطولة أو نقرأها من كتابين أو من ثلاثة ثم يخرج الواحد ويقابله عامي، يقول: يا شيخ أنا فعلت كذا وكذا، إن أراد أن يستعرض هذه المسألة على ما حفظ وقرأ قد لا يجد، لا يجدها بعينها، وهذا متكرر، والذي تصدى لاستفتاءات الناس يجد الكثير من ذلك، فإن كان لا يفتي إلا بما قرأ فإنه لن يفتي، ولن ينفع في المسائل التي ترد عليه. لكن إن كان شخصا حريصا على ضبط هذه الشوارد بقواعد وأصول، وما ورد عليه نزله على هذه القواعد والأصول وفق إلى الجواب، وفق إلى الجواب مهما تنوعت المسائل، وجربوا تجدوا، فإن التجربة خير ما تبرهن به المقدمة. ولذلك الآن يا إخوان لو قلت لكم في النحو مثلا: الفاعل هو من صدر عنه الفعل، ثم جئت إلى أحدكم، وقلت له: أين الفاعل في قولي: (قام زيد)؟ ماذا سيقول؟ من الذي صدر منه الفعل؟ من الذي صدر عنه القيام؟ زيد، فسيجيب بزيد. لكن لو جئنا بعشر جمل: قام خالد، ضرب محمد، أكرم عمر...، وكملنا الجمل. الآن عندنا الفاعل: عمر وخالد وزيد، أليس كذلك؟ في هذه الجمل تمام. جاءه شخص قال: قام المؤمنون بما فرض الله عليهم من صيام رمضان. أين الفاعل؟ ليس خالدا وليس عمر وليس محمدا، أين الجواب؟ هل سيحير جوابا؟ لكن إذا فهم القاعدة، وأن الفاعل هو الذي صدر عنه الفعل سيجيبك مباشرة، من الذي قام بما فرض الله عليه من صيام رمضان؟ إذا الفاعل المؤمنون. فالقواعد مؤثرة جدا في حصول النتائج، وفي الجواب على الحوادث النوازل، والأمور الجديدة التي لم يذكرها أهل العلم. فاحرص على فهمك للقواعد*** جامعة المسائل الشوارد فترتقي في العلم خير مرتقى*** وتقتفي سبل الذي قد وفقا ثم قال: وهٰذه قواعد نظمتها *** من كتب أهل العلم قد حصلتها زيدوا الواو حتى ينتظم النظم في (هٰذه) إذا عمل المؤلف رحمه الله في هذه القواعد هل هو الاستنباط أم الجمع؟ الجمع، ولذلك قال: (وهٰذه) والإشارة هنا إلى القواعد التي ضمنها هٰذه المنظومة، (وهٰذه قواعد نظمتها) أي جعلتها في نظم، وهو النظم الذي نقرؤه. "من كتب أهل العلم قد حصلتها" وهٰذا فيه بيان المصدر، وهٰذا من إنصاف الشيخ رحمه الله وتواضعه وعدله، فإنه لم ينسب الأمر إليه؛ بل نسب الفضل إلى أهله وقال: (من كتب أهل العلم قد حصلتها)، فعمله وما قام به هو جمعه لهذه القواعد وجعلها في هذا النظم. ثم إنه رحمه الله دعا لمن استفاد منه، وهذا من أدب الطالب والمستفيد مع من أخذ منه، فانظر كيف قال: جزاهم المولى عظيم الأجر *** والعفو مع غفرانه والبر اللهم آمين. دعا لهم لما استفاد منهم، وهذا يا أخي إذا عودت نفسك عليه وفقت إلى خير كثير، كل من استفدت منه فائدة، ولو كانت فائدة يسيرة في نظرك، فادع الله له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صنع إليكم معروفا فكافئوه)) أي جازوه وقابلوه على مكافأته بمكافأته بالإحسان ((فإن لم تستطيعوا أن تكافئوه فادعوا له))( ). والدعاء باب عظيم لمكافأة كل محسن. ولذلك من حق من استفدت منه أن تدعو له، إما في حضوره أو في غيبته، وإذا عودت نفسك على ذلك وفقت إلى القيام بالحقوق التي للناس عليك؛ لأنك تقابل الإحسان بالإحسان كما هي الحال في قوله تعالىٰ: ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان (60)﴾.( ) (جزاهم المولى)، المولى هو الله جل وعلا، وهو من أوصافه العظيمة، وهو جل وعلا ولي الصالحين، وولي المؤمنين. والولاية تقتضي المحبة والنصرة، فالمولى مأخوذ من المحبة والنصرة. (عظيم الأجر) أي الأجر العظيم، ف(عظيم الأجر) من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. والأصل: الأجر العظيم. (والعفو مع غفرانه والبر) جزاهم العفو، والعفو إذا قرن بالغفران فالعفو هو التجاوز، والغفران هو الستر، هذا إذا اقترنا، أما إذا وردا غير مقترنين فالعفو هو الغفران؛ أي هو الستر والتجاوز. (والبر) هنا الخير الكثير؛ جزاهم الخير الكثير، وأفضل ما يكون الجنة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهلها. نقف على هذه المقدمة؛ لأن الشيخ رحمه الله سيبدأ ذكر القواعد في قوله: (والنية شرط لسائر العمل). وبهذا نكون قد فرغنا من كم بيتا؟ من عشرة أبيات. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الأسئلة: أحسن الله إليكم وكتب لكم الأجر يا شيخ. آمين.. يقول السائل: هل يصح قول القائل: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وهل يصح تسمية الله عز وجل بالأرفق كما فعل الناظم؟ الجواب: أما (الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه) فهٰذا لم يرد في السنة؛ إنما الذي ورد في السنة أن يقول: ((الحمد لله على كل حال)) فيما يكره، ((والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات)) فيما يحب. فالأولى فيما إذا نزل بالإنسان ما يكره أن يقول: ((الحمد لله على كل حال)) ؛ لأنه جل وعلا المحمود على كل حال. أما قول: (الذي لا يحمد على مكروه سواه) ففيه سوء أدب مع الله عز وجل، كما أنه لم ترد به السنة، وهو عدول عن ما وردت به السنة. السؤال الثاني: هل يجوز تسمية الله بالأرفق؟ لا، هذا يحتاج إلىٰ توقيف، ولا أعلم أن هٰذا الاسم ورد في أسماء الله عز وجل، إنما الذي ورد الرفيق، وأما الأرفق فهو صفة، وباب الصفة أوسع من باب الخبر، فقوله رحمه الله: (الحمد لله العلي الأرفق) ليس من لازم ذلك أن يكون المؤلف رحمه الله يريد به أنه اسم من أسماء الله عز وجل؛ لأنه قال : (وجامع الأشياء والمفرق) فالله يحمد على أسمائه ويحمد على صفاته كما تقدم. سؤال: ماذا يريد بالشوارد في قوله: (جامعة المسائل الشوارد)؟ الجواب: الشوارد جمع شاردة، وهي التي يذهل عنها الناظر وتغيب عنه، هٰذا معنى الشوارد، والمقصود أنها تجمع المتشتت من مسائل العلم، وتنظمه في قالب تجتمع فيه هٰذه الأفراد والجزئيات. فائدة: (هٰذا من الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم رسول الله) هٰذه الوصية التي نسبت إلىٰ أحمد الذي ادعى أنه خادم الحرم النبوي ورأى النبي في المنام وقال له: كذا وكذا... هٰذه وصية مكذوبة ليست بصحيحة، وقد تقدم الكلام عليها من أهل العلم قديما وحديثا، فنبه عليها مرارا شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله وغفر له، وكذلك شيخنا محمد بن صالح العثيمين غفر الله للجميع، ولا صحة لما فيها، فهي من الأكاذيب المشهورة. سؤال: ما هو الدرن؟ الجواب: الدرن مأخوذ من القذر، والمقصود به ما يعلق بالقلب من أوضار المعاصي وآثارها. سؤال: هٰذا يسأل عن الطريقة المثلى لمن أراد حفظ المتون؟ الجواب: الطريقة المثلى أن يستعين الله عز وجل بحفظ ما ينفع من المتون؛ لأن المتون كثيرة، فينتخب الطالب له في كل فن من الفنون أصلا يجعله عمدة له، فمثلا في الفقه إن كان على مذهب الإمام أحمد بن حنبل فيحفظ زاد المستقنع، إن كان مثلا في مذهب الشافعي متن أبي شجاع.. وهلم جرا على حسب المذاهب التي يتعلم عليها الطالب. كذلك في النحو ينتخب له أصلا، وأفضل ما يكون الألفية، ويحرص على حفظه وضبطه وفهمه. كذلك في الحديث، كذلك في سائر العلوم. يعني يصطفي له في كل فن من الفنون متنا يجعله أصلا يبني عليه. أما أن يحفظ عشرة متون في النحو، وثلاثة متون في الفقه، ولم يحفظ شيئا في العقيدة، أو لم يحفظ شيئا في الحديث فهٰذا عندي أنه من القصور. وأولى ما ينبغي أن يصرف فيه الجهد حفظ كتاب الله أولا، فإن كتاب الله مفتاح العلوم وأصلها، كما قال الله جل وعلا: ﴿بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم﴾( ). فشهد الله لمن حفظه بأنه من أهل العلم، وإن كان معنى الآية أنه آيات واضحات في صدور أهل العلم، وأما غيرهم فإنها آيات لكن إما أن يحول دون وضوحها جهل أو عمى، نعوذ بالله من الأمرين. بارك الله فيكم وإلى درس قادم إن شاء الله تعالىٰ.

المشاهدات:4491

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلـٰه الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، فبلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعدُ: فنحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ما يسّر من هذا اللقاء في هذه الدروس التي تعقدُ في مسجد الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ في المدينة النبوية. ونسأل الله عزّ وجل أن تكون دروساً نافعة، يحصل بها العلم النافع، ويتبعها العمل الصالح الذي به تثبت القدم على الصراط المستقيم، فإنه لا تثبت قدم أحد على الصراط المستقيم إلا بهذين الوصفين: • العلم النافع. • والعمل الصالح. فهما الصراط المستقيم الذي أُمِرَ المسلمون أن يسألوه في كل ركعة من صلواتهم: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)﴾( ). فالصراط المستقيم قِوامه العلم النافع والعمل الصالح، وخير ما تبذل فيه الأوقات، وتُمضى فيه الساعات طلب العلم؛ لأنه به تزكو الأخلاق وتصلح الأعمال وبه يتحقق المقصود والغاية من الوجود، التي هي عبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال جلّ وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾.( ) فكلّ من سعى في هذا الأمر فهو ساعٍ إلى الخير، وشهادة خير الخلق نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كافية في ذلك فقد قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) ( ). والفقه في الدين يشمل كل عمل تُحفظ به الشريعة من حفظ أصولها وفروعها، من حفظ نصوصها وحفظ فهمها. فنسأل الله عز وجل أن يستعملنا وإياكم في العلم النافع والعمل الصالح، وأن يسلك بنا صراطه المستقيم، وأن يثبتنا على هذا الطريق القويم. وفي هذه الليلة نبدأ القراءة في القواعد الفقهية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله رحمةً واسعةً، وهي أبيات نظَمها رحمه الله في أول سِنِي تأليفه، فإنه كتبها في العقد الثالث من عمره -وعمره ثلاث وعشرون أو ما قارب ذلك-، وقد اعتذر رحمه الله في النسخة الخطية التي كتبها بيده عن بعض الخلل الواقع في النظم، ولعله أصلح أكثر ما وقع من كسر في النظم، ولم يبق إلا شيء يسير، لعله ينبه عليه في أثناء القراءة. وقد شرح الشيخ رحمه الله هذه المنظومة، وهي مجموعة قواعد، شرحها رحمه الله شرحاً وافياً واضحاً سهلاً كسائر كتبه، فإن من ما تميز به هذا العالم الجليل سهولة العبارة ووضوحها وجلاء ما فيها من المعاني، وهذا يلحظه الإنسان إذا طالع كتب هذا العالم الجليل، سواءً كانت في الفقه أو في أصول الدين أو في التفسير أو في غير ذلك من العلوم. وأنصح بقراءة كتبه رحمه الله، فإنه يجمع خيراً كثيراً في كلام قليل، وهـٰذا على خلاف حال كثير من المتأخرين؛ فإن أكثر كلام المتأخرين فيه حشو لا فائدة منه، ويصدق عليهم ما ذكره ابن القيم رحمه الله في وصف كلام المتأخرين حيث قال: " كلامهم كثير قليل البركة". بخلاف كلام السلف ومن سلك سبيلهم فإنه قليل كثير البركة، والشيخ رحمه الله تميز بهذه الميزة، ولعل ذلك من أسباب القبول التي يلمَسها كثير من الناس في مؤلفات الشيخ رحمه الله. نقرأ هذه القواعد، وهي قواعد يسيرة ليست بكثيرة: منها ما هو قواعد فقهية. ومنها ما هو قواعد أصولية. وسيأتينا إن شاء الله تعالى الفرق بين هذين النوعين من القواعد، صدّرها رحمه الله بمقدمة، ثم شرع بذكر القواعد تباعاً على حسب أهمية هـٰذه القواعد. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ الحمْدُ للهِ العليِّ الأرْفَقِ *** وجامِعِ الأشياء والمفرّق ذي النِّعم الوَاسعةِ الغزِيرَة*** والحكم الباهرة الكثيرة ثُّم الصلاة معْ سلامٍ دائمِ*** على الرسول القرشيِّ الخاتَمِ وآله وصحبه الأبرار *** الحائزي مراتبِ الفخار اعلم هُديت أنّ أفضل المنن*** علم يزيل الشك عنك والدَّرَن ويكشف الحق لذي القلوب *** ويوصل العبد إلى المطلوب فاحرص على فهمك للقواعد*** جامعة المسائل الشوارد فترتقي في العلم خير مرتقى*** وتقتفي سبْل الذي قد وفقا وهـٰذه قواعد نظمتها *** من كتْب أهل العلم قد حصلتها جـزاهم المولى عظيم الأجـر *** والعفو معْ غفرانه والبـر بسم الله الرحمن الرحيم من المناسب في ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند افتتاح القراءة أن يذكر باسمه، وهذه ملاحظة أحب أن أنبه إليها؛ لكثرة من يغفل عنها، فإن كثيراً من الذين يقدمون حديثهم بالصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكرونه بوصفه غير المميز، والسنة دلت على أنه ينبغي في الصلاة أن يذكر ما يتميز به صلى الله عليه وسلم: إما باسمه وهذا أبرز ما يتميز به، أو بوصفه الذي لا يشاركه فيه غيره، كخاتم النبيين، وما أشبه ذلك من الأوصاف التي اختص بها دون سائر النبيين. فإذا قلت في افتتاح قراءتك لكتاب بعد الحمد والثناء على الله فقل: (وصلى الله على نبينا محمد) ولا تقل فقط: (وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه)؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّم أصحابه الصلاة لما سألوه فقال لهم: ((قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد))( ) وكذلك في الدعاء له بالبركة. وهذه مسألة التنبه لها مهم، وإن كان الجميع يعلم أن المصلَّى عليه هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فيه إشكال؛ لكن التنصيص على اسمه هو الموافق لهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ. فإن قصر الإنسان عن الاسم فلا أقل من أن يأتي بوصفٍ مميّز يميزه عن غيره، كخاتم النبيين، كما فعل المؤلف رحمه الله في مقدمة هذا النظم. قال رحمه الله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فافتتح هذه المنظومة بالبسملة كسائر مؤلفات أهل العلم. والسر في البداءة بالبسملة أنّ ذلك هو الهدي في كتاب الله جلّ وعلا، فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى افتتح كلامه بالبسملة؛ فأم الكتاب مفتتحة بالبسملة، وكذا كل سورة في الكتاب المبين مفتتحة بالبسملة، عدا سورة براءة فإنها لم تكتب فيها البسملة. ثم إن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه كان يفتتح كتبه ورسائله وخطاباته بالبسملة، فهدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الافتتاح بالبسملة في أول كتبه ورسائله. وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح، فإنهم رحمهم الله كانوا يفتتحون كتبهم بالبسملة. فالافتتاح بالبسملة سنة قرآنية نبوية سلفية؛ فينبغي للإنسان أن يحرص على هذه السنة وألا يفرّط فيها. ثم الكلام على البسملة من حيث هي كلام مشهور معروف، ومتكرر، ولذلك أنصح طالب العلم أن يضبط الكلام في البسملة؛ لأن كل عالم يتكلم بشرح كتاب يقدّم بذكر شيء عن البسملة، فمن المناسب أن تكون مستحضراً ما هو أصل في هذه البسملة. فأول ما نذكره ونذكر شيئاً يسيراً والكلام على البسملة مطول ولكن نذكر شيئاً يسيراً. أولاً: هل البسملة جملة أو لا؟ هي جملة، وتعرفون أن الجملة تنقسم إلى جملة اسمية وجملة فعلية. هل البسملة جملة اسمية أو جملة فعلية؟ عندنا في البسملة قولان، وهما قولان مشهوران لأهل العلم: القول الأول: أنها جملة اسمية، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. والقول الثاني: أنها جملة فعلية. وما الذي يحدد هل هي اسمية أو فعلية؟ الذي يحدد ذلك هو متعلق الجار والمجرور، فإن قوله: (بِسْمِ) يتكون من أمرين: • الباء وهي حرف جر. • وكلمة (اسم) وهو اسم مجرور. واعلم أن كل جار ومجرور لا بد له من متعلق، فما هو متعلق هذه البسملة؟ من قَدَّرَهُ باسم قال: إن الجملة اسمية. ومن قدره بفعل قال: إن الجملة فعلية. والصحيح أنه جملة فعلية، وهو الذي عليه أكثر أهل النحو، أن متعلق البسملة فعل. فإذا قلنا: إنّ متعلق البسملة اسم صارت جملة اسمية، وإذا قلنا: إن المتعلق فعل صارت جملة فعلية. ما هو الفعل المقدر؟ الفعل المقدر قدّره بعض أهل العلم بقوله: أبدأ، بسم الله أبدأ، في كل مورد جاءت فيه البسملة. فإذا دخلت المسجد تقول: بسم الله أبدأ. إذا أكلت تقول: بسم الله – المتعلق (أبدأ). إذا قرأت نحن نقرأ الآن، بسم الله الرحمن الرحيم، ما هو المتعلق؟ أبدأ... و هلم جرّاً. جعلوا المتعلق في جميع الأحوال واحداً وهو الفعل (أبدأ). والصحيح أنّ الفعل المقدّر لا بد أن يكون مناسباً؟ بمعنى أنّه يناسب حال القائل. فالذي يدخل المسجد ما الأنسب في التقدير؟ أبدأ أو أدخل؟ أدخل. الذي يقرأ ما الأنسب في التقدير؟ أقرأ. الذي يكتب ما الأنسب في التقدير؟ أكتب. الذي يأكل ما الأنسب في التقدير؟ بسم الله آكل، وكذلك أشرب. حيث ما وردت فينظر إلى فعل مناسب. إذاً عرفنا أن المتعلق فعل، وأنه مناسب، وخذ ثالثة، وهي أن يكون مؤخراً؛ يعني ما نقدره مقدّماً على البسملة، تقدره مؤخراً فتقول: بسم الله أقرأ، ما نقول: أقرأ بسم الله. لماذا؟ للتيمّن وطلب البركة بالبداءة بسم الله تعالىٰ،واضح؟ هذا هو السّر في جعل الفعل المقدّر المناسب مؤخراً. هذه البسملة تضمنت ثلاثة أسماء من أسماء الله عزّ وجل: الاسم الأول (الله)، والثاني (الرَّحْمَٰنِ)، والثالث (الرَّحِيمِ)، وهذه الثلاثة الأسماء أسماء عظيمة للرب جلّ وعلا، أعظمها اسم (الله) الذي قيل إنه الاسم الأعظم، والذي ترجع إليه جميع الأسماء، فهو متضمّن لجميع معاني الأسماء، فكل اسم من أسماء الله عزّ وجل يدل على هذا الاسم إما بالتضمن أو بالالتزام. ماذا نقصد بالدلالات في القواعد المثلى؟ كم دلالات الألفاظ؟ ثلاث، ترى العلم مرتبط، قواعد فقهية، عقيدة، العلم حيثما طالعته ما فيه حدود فاصلة تمنع التداخل، العلم متداخل. إذاً نقول: إنّ كل اسم من أسماء الله عز وجل يدل على أي شيء؟ يدل على هذا الاسم العظيم وهو (الله) إما بالتضمن أو بالالتزام، والأغلب دلالته عليه بالالتزام. طيب وما معنى هذا الاسم؟ هذا الاسم مشتق، ومن أين اشتقاقه؟ من (إلـٰه)، فالأصل في اسم الله هو (الإلـٰه).يعني الأصل: باسم الإله، طيب أين راحت الهمزة؟ سقطت، ما الذي أسقطها؟ كثرة الاستعمال. هل لهذا نظير في لغة العرب؟ الجواب: نعم له نظير، ما نظيره؟ وصفنا إيش أو اسمنا إيش؟ النَّاس أصلها إيش؟ أناس، هل منا أحد يقول: الأناس جاؤوا، الأناس فعلوا؟ أو يقول: الناس قالوا، الناس فعلوا، الناس جاؤوا؟ أين ذهبت الهمزة؟ أين ذهبت؟ ذهبت، سقطت لكثرة الاستعمال، كذلك لفظ الجلالة الله أصله الإله وسقطت همزته لأجل كثرة الاستعمال. وما معنى هذا الاسم؟ (الله ). لفظ نقوله في اليوم مرات عديدة فما معناه؟ معناه المألوه، وما معنى المألوه؟ أي المعبود محبةً وتعظيماً. فإذا قلتَ: (بِسْمِ اللَّهِ) أي باسم المعبود محبة وتعظيماً. إذا قلت: الحمد لله حمدت المعبود محبة وتعظيماً، وهو الله جلّ وعلا، ولا بد يا أخي أن يكون لك انتباه إلى معاني الألفاظ المتكررة التي تلهج بها وتقولها دائماً؛ لأن الغفلة عن هذه المعاني تذهب ثمرتها. فالذي يقول: سبحان الله ولا يدري ما معنى التسبيح، أو يقول: الحمد لله ولا يدري ما معنى الحمد لله، أو يقول: الله أكبر ولا يدرك معنى هذا. هل يحصل له ثمرة هذه الأذكار، وهل يحصل له نفعها؟ الجواب: لا. ولذلك عاب الله سبحانه وتعالى على الذين يقرؤون القرآن ولا يتدبرونه؛ لأنهم لم يحصلوا مقصوده؛ ليس المقصود أن نقرأ: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مَٰلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)﴾،( )ولا ندري ما مضامين هذه الجمل العظيمة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾، ( ) وقال جلّ وعلا: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ لماذا؟ هل ليقرؤوه؟ لا؛ ﴿لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ (29)﴾،( ) وعاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولئك الذين قصروا أفهامهم وعقولهم واهتمامهم على القراءة اللفظية دون القراءة المعنوية، فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ﴾( ) ما معنى ﴿إِلا أَمَانِيَّ﴾ يعني إلا قراءة، فوصفهم الله عزّ وجل بهذا الوصف وهو أنهم ﴿أُمِّيُّونَ﴾ ومن هو الأمي؟ الذي لا يقرأ ولا يكتب، المنسوب إلى أمه؛ يعني الذي حاله كيوم ولدته أمه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ﴿ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾،( ) فالأمي هو الذي يقرأ القرآن ولا يدرك معناه، وإن كان أجود الناس في مخارج الحروف، وأجودهم في إتقان القراءة، هذا إذا كان لا يدرك المعنى فهو يصدق عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ ثم استثنى فقال: ﴿إِلا أَمَانِيَّ﴾ إلا القراءة، وهل هذا على وجه المدح له أو على وجه الذم؟ سيق هذا الخبر على وجه الذم لا على وجه المدح. فعلم بذلك أن من لم يعتنِ بإدراك المعاني فإنه لم يحصل المقصود، وهذه مهمة يا إخواني، مهمة لنا في قراءتنا في كتاب الله، وفي قراءتنا في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي قراءتنا للأذكار التي نرددها صباح مساء، ونحن لا ندري ولا ندرك معاني هذه الأذكار. الآن لفظ الجلالة (الله) هذا الاسم العظيم من متى نسمعه؟ نسمعه ونحن صغار قبل التمييز ونردده كثيراً؛ لكننا لا نعلم أو كثير منا لا يعلم معنى هذا الاسم العظيم. فإدراك معاني الأسماء يحصل بها كمال العبودية لله عز وجل، ويحصل بها ما أمر الله به في قوله: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾.( ) كيف تدعوه بها؟ يعني تتعبد له بها، وكيف تتعبد له بها وأنت لا تدرك معناها ولا تعرف محتواها. هذا أمر مهم يجب التنبه له. ثم قال: (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) هذان اسمان عظيمان من أسماء الله عز وجل، وهما مشتقان من الرحمة، كلا الاسمين يدل على صفة الرحمة؛ لكن اعلم أن (الرَّحْمَٰنِ) أخص من وجه، و(الرَّحِيمِ) أخص من وجه، فـ(الرَّحْمَٰنِ) يدلّ على الرحمة؛ لكنه يدل على الصفة القائمة بالرب جلّ وعلا. واضح؟ وأما (الرَّحِيمِ) فهو يدلّ على الفعل. وهذا أجود ما قيل في التفريق بين هذين الاسمين العظيمين: أن (الرَّحْمَٰنِ) دال على أي شيء؟ دال على الصفة، وأنّ (الرَّحِيمِ) دالّ على الفعل. وخذ دليل ذلك: فإنه جلّ وعلا لما أراد الإخبار عن صفة تقوم به ماذا قال؟ قال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾.( ) ولما أراد بيان إيصال هذه الرّحمة لعباده قال جلّ وعلا: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾.( ) وإن كان الوصفان كلاهما يدلّ على صفة الرحمة. وقد جاء الاسم (الرحمـٰن) على صيغة فعلان التي تدل على أي شيء؟ تدل على الامتلاء والسعة في هذه الصفة. وجاء (الرحيم) على صيغة فعيل بمعنى فاعل، فالرحيم على وزن فعيل وهو بمعنى فاعل، أي الذي يوصل الرحمة إلى عباده. وبهذا نكون قد أشرنا إلى بعض ما تضمنته البسملة من مسائل، ومن أراد الزيادة فكلام أهل العلم كثير في هذا البحث. ننتقل إلى ما اجتمعنا لأجله من القراءة والتعليق على كتاب القواعد الفقهية. قال رحمه الله: الحمْدُ للهِ العليِّ الأرْفَقِ*** وجامِعِ الأشياء والمفرّق ابتدأ المؤلف رحمه الله هذه المنظومة بعد البسملة بحمد الله جلّ وعلا، وهو أحق من حُمِدَ. و(الحمْدُ) هو ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيماً. هذا تعريف الحمد: ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيماً. وهو أكمل من تعريف من عرف الحمد بأنه: الوصف والثناء بالجميل. فإن ذلك قاصر، والحمد أعظم من هذا، فهو ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيماً، وهو حق لله جلّ وعلا. ولذلك لا أحد أحب إليه المدح من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه المستحق للحمد، فله الحمد كله: أوله وآخره، ظاهره وباطنه جلّ وعلا. وحمده على كل ما يكون منه، فهو المحمود على أسمائه الحسنى، وهو المحمود على صفاته العلا، وهو المحمود على أفعاله الجميلة، وهو المحمود في كل ما يكون منه جل وعلا. ولذلك استدل ابن القيم رحمه الله من هذه اللفظة على إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلا والأفعال الجميلة للرب جلّ وعلا، من كلمة (الحمد لله) فقط؛ لأنه من الذي يحمد؟ من الذي يستحق الحمد؟ من كانت أسمائه حسنى، ومن كانت صفاته عليا، ومن كان فعله جميلاً، ولا أحد أوفى بهذه الصفات وأحق بها من الله جلّ وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)﴾،( ) ﴿لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾،( ) ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾( ) جلّ وعلا أي وله الصفة العليا سبحانه وتعالى. و(الحمْدُ) أتى بالألف واللام في أوله لاستغراق جميع المحامد، فكل الحمد لله عز وجل، كل الحمد له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالألف واللام في قوله: (الحمْدُ) لاستغراق جميع المحامد، فهي له حق، وهو لها مستحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (للهِ) تقدم الكلام عليه. (العليِّ الأرْفَقِ) هذان وصفان لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، و(العليِّ) من أوصافه وأسمائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبه نثبت لله عز وجل: • علو الذات. • وعلو القهر. • وعلو القدر. كل هذه الأنواع الثلاثة نثبتها له من قوله: (العليِّ). واضح؟ أما علو الذات، فأدلته كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة. قال الله جلّ وعلا: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾( ). أي من في العلو أو من على السماء، هذا وهذا كلاهما يؤدي نفس المعنى. وأما علو القدر فدليله: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾،( ) هذا علو القدر، له الصفة العليا. وعلو القهر دليله: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾( ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ثم قال: (الأرْفَقِ) هذا فيه هذا الوصف للرب جلّ وعلا، فإنّ الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله سبحانه وتعالى. والرفق صفة له، ومن علامات ودلائل هذه الصفة ما قضاه سبحانه وتعالى وقدره من خلق الأشياء بالتدريج، فإن هذا من رفقه سبحانه وتعالى في خلقه وأمره. ثم قال رحمه الله: (وجامِعِ الأشياء والمفرّق) وهذا من بديع ما استهل به المؤلف رحمه الله هذه المنظومة، حيث أشار إلى مضمونها في قوله: (وجامِعِ الأشياء والمفرّق)، فإن القواعد تجمع متشابهات ونظائر وأشباهاً، وتفرق بينها وبين ما يخالفها في الأوصاف، فلا يدخل فيها. فهو إشارة إلى ما تضمنته هذه المنظومة من القواعد، فإنه أشار بقوله: (وجامِعِ الأشياء والمفرّق) إلى صفة القواعد، فإن القواعد يحصل بها هذا. والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجمع بين أمور فيسوّي بينها، ويفرق بين أمور فلا يسوِّي بينها، فالواجب في هذا أن نسوِّي بين ما سوى الله عز وجل بينه، وأن نفرّق بين ما فرق الله جلّ وعلا بينه من الأمور. ثم قال: (ذي النِّعم الوَاسعةِ الغزِيرَة)؛ (ذي) بمعنى صاحب، فهو صاحب النعم جلّ وعلا. ونعمه متصفة بوصفين: واسعة وغزيرة: الواسعة هذا وصف كمي أو كيفي؟ كيفي واسعة، ولو كانت نعمة واحدة. والغزيرة كمي أو كيفي؟ كمي، فهي كثيرة. وهذان الوصفان من أوصاف نعمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فهي واسعة شملت خلقه، فما من مخلوق إلا ونعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تدركه، هذا من جهة السعة. وأما من جهة الكثرة فما أكثر نعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على عباده، كما قال جلّ وعلا: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾( ). فنعمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كثيرة، يعجز الذهن عن حصرها وعدّها وإدراكها؛ بل هي متنوعة كثيرة في الأجناس والأنواع والأصناف والأفراد، وليس للعبد إلا أن يسلّم للرب وأن يثني عليه بهذه النعم، وأن يشكره عليها. أما عدها وحصرها فإنه لا سبيل إلى ذلك، كما قال الله جلاَّ وعلا: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ﴾ فما هي الحال؟ ﴿لاَ تُحْصُوهَا﴾، يمكن أن تعد، تقول: نعمة البصر، نعمة السمع، نعمة العقل، نعمة الإسلام، نعمة الحركة، نعمة الشم، و هلم جرّاً؛ لكن هل نحصيها؟ لا نحصيها، فالعد ممكن؛ لكن الإحصاء متعذر ومستحيل، ولذلك نفى الله عز وجل الإحصاء وأثبت العدّ. ثم قال: (والحكم الباهرة الكثيرة) فهو المنعم، وهو في نعمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكيم، وأنت انظر يا أخي إلى هذه الصفة العظيمة للرب جلّ وعلا لتدرك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يفعل شيئاً ولا يأمر بشيء إلا لحكمة، فله الحكمة البالغة في خلقه، وله الحكمة البالغة في أمره. له الحكمة البالغة في جميع ما خلق، كل ما خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كل ما أوجده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من خير أو شر فله فيه حكمة؛ وكذلك كل ما شرعه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له فيه حكمة. لكن -اعلم بارك الله فيك- أن الحكمة لا تستقل عقولنا بإدراكها على وجه التحقيق، وهذه مسألة مهمة ضرورية أن نفهمها وأن ندركها، وأن ننقلها إلى غيرنا؛ أن الحكم في خلق الله -يعني في مخلوقاته- والحكم في شرعه -يعني في مشروعاته- ندرك بعضها، ويخفى علينا كثير منها، فلا نحيط بحكمة الله عز وجل في خلقه وأمره على وجه التفصيل. وهذا يسلّمك من كثير مما يسأل عنه السائلون: ما الحكمة من كذا؟ فنقول: هناك حكمة، ما من شيء في هذا الكون إلا له حكمة، ما من شيء أمر الله به إلا له حكمة؛ لكن عقولنا تقصر عن إدراك الحكمة، عقولنا لا تستقل بمعرفة تفاصيل ما قضاه الله جلّ وعلا وقدره، ولا بما أمر به وحكم جلّ وعلا في شرعه. وهذه المسألة مهمة للغاية، لا سيما في هذا العصر الذي أصبح الإنسان يقدس العقل في كثير من الأحيان، حتى إن بعض الناس بُلي فجعل الشرع تابعاً للعقل، فلا يعمل بشيء ولا يقبل خبراً إلا ويسأل: ما الحكمة؟ نقول: يا أخي هل عقلك أدرك الحكمة من كل شيء؟ في أمور الدنيا، أمورنا نحن التي نفعلها في أفعالنا، هل ندرك الحكمة في كل ما يكون منا؟ لا. فما بالكم بالله جلّ وعلا العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية. فيجب على المؤمن أن يسلم بالقاعدة الأصلية، وهي: أنه ما من شيء من الخلق ولا من الشرع إلا وفيه حكمة لله جلّ وعلا؛ لكن ما هي الحكمة؟ نجتهد في التوصل إليها، فما وفقنا إليه فالحمد لله، مع أننا نقول: إننا لم ندرك الحكمة على وجه النهاية، فقد يكون من الحِكَمِ ما لا ندركه، ولا نقف عليه، وهو من الحكم المقصودة للشارع. فالمؤلف رحمه الله يقول: (والحكم الباهرة) التي تبهر العقول وتتعجب منها العقول، هذا فيما أدركناه، (الكثيرة) في العدد فالباهرة هذا في وصفها، والكثيرة في عددها، فهي كثيرة. ثم قال رحمه الله بعد أن أثنى على الله عز وجل بما تقدم، وقوله: (الحكم) هذا فيه إشارة إلى أن القواعد يستفاد منها معرفة الحكم، وهذا أمر تتميز به القواعد الفقهية عن القواعد الأصولية. القواعد الفقهية تُعرف بها الحكم الشرعية، أمّا القواعد الأصولية فإنها لا تفيدك معرفة الحكم الشرعية، كما سيأتي إن شاء الله تعالىٰ بيانه في التفريق؛ عند ذكر الفرق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية. ثم قال رحمه الله: ثُّم الصلاة معْ سلامٍ دائمِ*** على الرسول القرشيِّ الخاتَمِ (ثُّم الصلاة) بدأ بالصلاة قبل السلام؛ لأن الله أمر بالصلاة قبل فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.( ) فبدأ بالصلاة لبداءة الله بها ثم أتى بالسلام، لكون الله جل وعلا أمر بالأمرين: بالصلاة والسلام. والصلاة ما معناها؟ كلنا نقول: اللهم صلِّ على محمد، عند ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آَلِهِِ وَسَلَّمَ، فما معنى هذه الصلاة؟ الصلاة معناها أننا نسأل الله عز وجل أن يُثني على رسوله في الملأ الأعلى، هكذا قال أبو العالية في صحيح البخاري، ( ) نسأل الله عز وجل أن يثني على رسوله في الملأ الأعلى؛ يعني عند الملائكة. وقيل: إن الصلاة هي دعاء للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخير كثير، ما هو؟ الله أعلم ما نحدده. وعلى كلٍّ هو دعاء خير للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كان الثناء أو كان ما هو أعم وأوسع من ذلك. وأما السلام فهو سؤال الله عز وجل أن يسلم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف يسلمه وقد مات؟ يسلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن يؤذى في قبره، أو أن يؤذى شرعه وسنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الدعاء بالسلامة له يكون له في ذاته ولما جاء به داعياً إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آَلِهِِ وَسَلَّمَ. قال: (دائمِ) أي مستمر لا انقطاع فيه. ثم قال: (على الرسول القرشيِّ)، (على الرّسول) الألف واللام هنا للعهد الذهني، ومن المراد بذلك؟ رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأتى بالوصف المميز له عن سائر النبيين فقال: (القرشيِّ) هل هناك رسول قرشي غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ الجواب: لا، فهذا وصف مميز. وقوله :(الخاتَمِ) هذا وصف مميز ثان، فإنه خاتم النبيين، كما قال الله جلّ وعلا: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾.( ) ثم قال: وآله وصحبه الأبرار*** الحائزي مراتبِ الفخار (وآله) يعني وعلى آله. وآله هم أتباعه من أقاربه، وقيل: هم أتباعه من أقاربه وغيرهم. طيب.إذا كان على المعنى الثاني، ما هو المعنى الثاني؟ أتباعه مطلقاً من أقاربه وغيرهم؛ يشمل الأقارب ويشمل أيضاً أصحابه رضي الله عنهم، أليس كذلك؟ فقوله: (وصحبه) كيف يكون الكلام؟ يكون من باب عطف الخاص على العام. طيب.أيهما أحسن؟ أن نحمل قوله: (وآله) على أتباعه، على ملته من أقاربه وغيرهم، أيهما أحسن؟ هـٰذا حمل معنى أوسع كلما كان أكمل. الآن إذا قلنا: (على آله) أقاربه، آله هم أتباعه من أقاربه، المعنى ضيق، أليس كذلك؟ فإذا قلنا: هم أتباعه على ملته، كان المعنى أوسع ودخل فيه المعنى الأول، أليس كذلك؟ فكان الأولى حمله على ما هو أوسع. ثم قال: (الأبرار) هذا يعود على الآل ويعود على الأصحاب، والأبرار جمع بَر، ومن هو البر؟ البر هو المحسن الكثير الخيرات، وهذا وصف مطابق لصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم أهل إحسان وكَثُر خيرهم رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، فما نعيش فيه من الخير إنما كان سبب وصوله إلينا جهادهم رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. ثم قال: (الحائزي مراتبِ الفخار) أي مراتب الفضل والسبق، فقوله: (الفخار) من الفخر. الفخر ما هو؟ الفخر هو السّبق بالفضيلة؛ ولكن هل هـٰذا يدعو إلى العلو على الناس؟ لا، فإنه لا يجوز للمؤمن أن يعلو على الناس، وأن يستطيل عليهم بحق أو بغير حق. الاستطالة على الناس بحق هي أن يكون الإنسان موصوفاً بوصف يوجب تقدمه، فيعلو على الناس بسبب هذا الوصف؛ ولذلك لما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبقه الناس يوم القيامة وعظيم نفعه إياهم في الموقف العظيم قال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر))( ). يعني هذا حق أنه سيد ولد آدم، فهو خيرهم وأفضلهم؛ ولكن هذا لا يحمله على المباهاة، فقوله: ((ولا فخر)) أي لا مباهاة بهذه الخصلة التي اتصفت بها. ولذلك أهل السنة والجماعة كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية: يمنعون الاستطالة على الناس بحق أو بغير حق. فالاستطالة بحق هي أن تكون موصوفاً بما يوجب التقدم، وبغير حق أن يكون الإنسان كلابس ثوبي زور، ليس عنده ما يسبق به الناس ويعلو عليهم، كالفقير المستكبر الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عائل مستكبر)).( ) ثم قال: اعلم هُديتَ أنّ أفضل المنن*** علم يزيل الشك عنك والدَّرَن ويا له من بيت! بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من الحمد والثناء والصلاة والسلام على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرع في المقصود، وبدأه بضابط ذهبي للعلم النافع. هذا البيت ضابط للعلم النافع، الذي ينبغي لنا أن نحرص على الاستكثار منه وتحصيله. وبدأه بالأمر في قوله: (اعلم) حثّاً وشحذاً للهمم أن تقبل عليه: اعلم هُديت أنّ أفضل المنن*** علم يزيل الشك عنك والدَّرَن فأفضل ما يمنّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به على العبد العلم النافع، وما هو العلم النافع؟ العلم الذي ينفي عن قلبك الشكوك، ويزيل عن قلبك أدران المعاصي والرياء. فإذا اتصف العلم الذي تسعى في تحصيله وإدراكه بهذين الوصفين فافرح واحمد الله، فإنك موفق إلى العلم النافع. وينبغي للمؤمن -يا إخواني- أن ينظر في العلم الذي يطلبه، والسعي الذي يبذله، والجهد الذي يصرفه، هل هو في علم نافع أو لا؟ فإن كثيراً من الناس يشتغل بعلوم هي في الحقيقة ليست من العلم النافع. والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما أثر عنه في حديث أم سلمة أنه كان يقول إذا أصبح -فهو من أذكار الصباح-: ((اللهم إني أسألك علماً نافعاً))( ). رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل الله علماً؛ ولكنه ليس كلّ علم، إنما هو العلم النافع. وضابط العلم النافع هو ما ذكره المؤلف رحمه الله، وهو الذي يصلح به القلب: "علم يزيل الشك عنك والدَّرَن" "ويكشف الحق لذي القلوب" (ذي) هنا اسم إشارة، أي لهذه القلوب "ويوصل العبد إلى المطلوب" أي إلى الله، يوصله إلى المطلوب؛ وما هو المطلوب؟ المطلوب في الدنيا رسوخ الإيمان وحصول اليقين، والمطلوب في الآخرة الفوز بالجنان. فالعلم النافع هو ما أوصلك إلى هذين المطلوبين: إيمان راسخ، ويقين ثابت في هذه الدنيا. وأما في الآخرة فجنة نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. ثم قال: " فاحرص على فهمك للقواعد" بعد أن بين الغاية التي يسعى إليها طالب العلم، وهي زوال الشك والدّرن وانكشاف الحق وحصول المطلوب، بيّن لنا رحمه الله السبيل، الطريق الموصل إلى هذه الغاية، وهذا من بديع تصنيفه رحمه الله: أنه ذكر لنا المنتهى وبيّن لنا السبيل والطريق الموصل إلىٰ هذه الغاية، فما هو السبيل؟ قال: (فاحرص) يعني لن تحصل على ما ذكر وما تقدم إلا بهذه الوصية: فاحرص على فهمك للقواعد*** جامعة المسائل الشوارد وهذا يا إخواني مهم مهم مهم للغاية في طلب العلم، وهو الذي يميز بين طلبة العلم. تجد أن اثنين يبدأان مشوار الطلب في وقت واحد، ويصرفان من الجهد شيئاً متشابهاً، ثم ما يلبث أن يتقدم أحدهما على الآخر، السبب لا يمكن أن نحصره في أمر واحد، لا شك أن ما يقوم في القلب من الإخلاص، ما يمن الله به من التوفيق، وما يكون عند الشخص من فهم، هذه الأمور كلها أسباب للسبق في طلب العلم. لكن هناك أمر مهم وضروري يحصل به السبق، وهو أن يعتني طالب العلم في طلبه للعلم على ضبط القواعد في كل علم، كل علم يطلبه يحرص على ضبط قواعده. في علم العقائد، في علم الفقه، في علم الحديث، في علم التفسير، في جميع العلوم. العلوم بحور، ومن أراد خوض هذه البحور فليحرص على القواعد الأصول التي تجمع له شتات العلم. فالعلم منتشر، ومسائله كثيرة، ولو أن الإنسان اشتغل بتحصيل مسائل باب من أبواب الفقه وضبط هذه المسائل وحفظها لأعياه، وما استطاع أن يدرك مبتغاه؛ لكنه إذا ضبط هذه الأبواب بالقواعد والأصول اجتمعت له هذه الشوارد، وانتظمت له هذه الفرائد، واتضحت له هذه المسائل. وفوق هذا كله اكتسب ميزة وصفة مهمة، وهي الاطراد في القول، وهذه مسألة يتميز بها بعض العلماء، السبب هو أنه يمشي على قواعد أصول، إذا وجدت الاضطراب في قول العالم أو في قول القائل فاعلم أن مرجع ذلك في الغالب إلى ضعف الاهتمام بالقواعد. ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تميز فقهه بالاطراد، وسبب ذلك أنه يُعْمِل القواعد، ويجمع الشوارد، تحت أصول وضوابط وقواعد، أي مسألة تقابله ينزّل القاعدة عليها، فتكون النتيجة مشابهة لقوله في نظيرها أو في شبيهها وفي أشباهها من المسائل، فضبط القواعد يحفظ الإنسان من الاضطراب ويحقق له وصف الاطراد. فاحرص على فهمك للقواعد*** جامعة المسائل الشوارد فترتقي في العلم خير مرتقى*** وتقتفي سبْل الذي قد وفقا وصدق، صدق رحمه الله، فإنّ من اعتنى بالقواعد سبق في العلم، ارتقى -كما ذكرنا لكم- خير مرتقى، سبق سبقاً بيناً. بخلاف ذاك الذي اشتغل في حفظ فروع المسائل وصورها وشواردها وغرائبها ونوادرها، ثم ترد عليه مسألة يقول: ما مرت علي، ما حفظتها، ما قرأتها في كتاب. الآن يمكن أن نقرأ مثلاً في كتاب في المسائل كتاب الطهارة من كتاب من الكتب المطولة أو نقرأها من كتابين أو من ثلاثة ثم يخرج الواحد ويقابله عامي، يقول: يا شيخ أنا فعلت كذا وكذا، إن أراد أن يستعرض هذه المسألة على ما حفظ وقرأ قد لا يجد، لا يجدها بعينها، وهذا متكرر، والذي تصدى لاستفتاءات الناس يجد الكثير من ذلك، فإن كان لا يفتي إلا بما قرأ فإنه لن يفتي، ولن ينفع في المسائل التي ترد عليه. لكن إن كان شخصاً حريصاً على ضبط هذه الشوارد بقواعد وأصول، وما ورد عليه نزله على هذه القواعد والأصول وفق إلى الجواب، وفق إلى الجواب مهما تنوعت المسائل، وجربوا تجدوا، فإن التجربة خير ما تبرهن به المقدمة. ولذلك الآن يا إخوان لو قلت لكم في النحو مثلاً: الفاعل هو من صدر عنه الفعل، ثم جئت إلى أحدكم، وقلت له: أين الفاعل في قولي: (قام زيد)؟ ماذا سيقول؟ من الذي صدر منه الفعل؟ من الذي صدر عنه القيام؟ زيد، فسيجيب بزيد. لكن لو جئنا بعشر جمل: قام خالد، ضرب محمد، أكرم عمر...، وكملنا الجمل. الآن عندنا الفاعل: عمر وخالد وزيد، أليس كذلك؟ في هذه الجمل تمام. جاءه شخص قال: قام المؤمنون بما فرض الله عليهم من صيام رمضان. أين الفاعل؟ ليس خالداً وليس عمر وليس محمداً، أين الجواب؟ هل سيحير جواباً؟ لكن إذا فهم القاعدة، وأن الفاعل هو الذي صدر عنه الفعل سيجيبك مباشرة، من الذي قام بما فرض الله عليه من صيام رمضان؟ إذاً الفاعل المؤمنون. فالقواعد مؤثرة جدّاً في حصول النتائج، وفي الجواب على الحوادث النوازل، والأمور الجديدة التي لم يذكرها أهل العلم. فاحرص على فهمك للقواعد*** جامعة المسائل الشوارد فترتقي في العلم خير مرتقى*** وتقتفي سبْل الذي قد وفقا ثم قال: وهـٰذه قواعد نظمتها *** من كتْب أهل العلم قد حصلتها زيدوا الواو حتى ينتظم النظم في (هـٰذه) إذاً عمل المؤلف رحمه الله في هذه القواعد هل هو الاستنباط أم الجمع؟ الجمع، ولذلك قال: (وهـٰذه) والإشارة هنا إلى القواعد التي ضمنها هـٰذه المنظومة، (وهـٰذه قواعد نظمتها) أي جعلتها في نظم، وهو النظم الذي نقرؤه. "من كتْب أهل العلم قد حصلتها" وهـٰذا فيه بيان المصدر، وهـٰذا من إنصاف الشيخ رحمه الله وتواضعه وعدله، فإنه لم ينسب الأمر إليه؛ بل نسب الفضل إلى أهله وقال: (من كتْب أهل العلم قد حصلتها)، فعمله وما قام به هو جمعه لهذه القواعد وجعلها في هذا النظم. ثم إنه رحمه الله دعا لمن استفاد منه، وهذا من أدب الطالب والمستفيد مع من أخذ منه، فانظر كيف قال: جـزاهم المولى عظيم الأجـر *** والعفو معْ غفرانه والبـر اللهم آمين. دعا لهم لما استفاد منهم، وهذا يا أخي إذا عودت نفسك عليه وُفِّقت إلى خير كثير، كل من استفدت منه فائدة، ولو كانت فائدة يسيرة في نظرك، فادع الله له؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)) أي جازوه وقابلوه على مكافأته بمكافأته بالإحسان ((فإن لم تستطيعوا أن تكافئوه فادعوا له))( ). والدعاء باب عظيم لمكافأة كل محسن. ولذلك من حق من استفدت منه أن تدعو له، إما في حضوره أو في غيبته، وإذا عودت نفسك على ذلك وُفقت إلى القيام بالحقوق التي للناس عليك؛ لأنك تقابل الإحسان بالإحسان كما هي الحال في قوله تعالىٰ: ﴿هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ (60)﴾.( ) (جزاهم المولى)، المولى هو الله جل وعلا، وهو من أوصافه العظيمة، وهو جل وعلا ولي الصالحين، وولي المؤمنين. والولاية تقتضي المحبة والنصرة، فالمولى مأخوذ من المحبة والنصرة. (عظيم الأجر) أي الأجر العظيم، فـ(عظيم الأجر) من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. والأصل: الأجر العظيم. (والعفو معْ غفرانه والبـر) جزاهم العفو، والعفو إذا قرن بالغفران فالعفو هو التجاوز، والغفران هو الستر، هذا إذا اقترنا، أما إذا وردا غير مقترنين فالعفو هو الغفران؛ أي هو الستر والتجاوز. (والبر) هنا الخير الكثير؛ جزاهم الخير الكثير، وأفضل ما يكون الجنة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهلها. نقف على هذه المقدمة؛ لأن الشيخ رحمه الله سيبدأ ذكر القواعد في قوله: (والنية شرط لسائر العمل). وبهذا نكون قد فرغنا من كم بيتاً؟ من عشرة أبيات. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الأسئلة: أحسن الله إليكم وكتب لكم الأجر يا شيخ. آمـين.. يقول السائل: هل يصح قول القائل: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وهل يصح تسمية الله عز وجل بالأرفق كما فعل الناظم؟ الجواب: أما (الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه) فهـٰذا لم يرد في السنة؛ إنما الذي ورد في السنة أن يقول: ((الحمد لله على كل حال)) فيما يكره، ((والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات)) فيما يحب. فالأولى فيما إذا نزل بالإنسان ما يكره أن يقول: ((الحمد لله على كل حال)) ؛ لأنه جل وعلا المحمود على كل حال. أما قول: (الذي لا يحمد على مكروه سواه) ففيه سوء أدب مع الله عز وجل، كما أنه لم ترد به السنة، وهو عدول عن ما وردت به السنة. السؤال الثاني: هل يجوز تسمية الله بالأرفق؟ لا، هذا يحتاج إلىٰ توقيف، ولا أعلم أن هـٰذا الاسم ورد في أسماء الله عز وجل، إنما الذي ورد الرفيق، وأما الأرفق فهو صفة، وباب الصفة أوسع من باب الخبر، فقوله رحمه الله: (الحمْدُ للهِ العليِّ الأرْفَقِ) ليس من لازم ذلك أن يكون المؤلف رحمه الله يريد به أنه اسم من أسماء الله عز وجل؛ لأنه قال : (وجامِعِ الأشياء والمفرّق) فالله يحمد على أسمائه ويحمد على صفاته كما تقدم. سؤال: ماذا يريد بالشوارد في قوله: (جامعة المسائل الشوارد)؟ الجواب: الشوارد جمع شاردة، وهي التي يذهل عنها الناظر وتغيب عنه، هـٰذا معنى الشوارد، والمقصود أنها تجمع المتشتت من مسائل العلم، وتنظمه في قالب تجتمع فيه هـٰذه الأفراد والجزئيات. فائدة: (هـٰذا من الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم رسول الله) هـٰذه الوصية التي نسبت إلىٰ أحمد الذي ادعى أنه خادم الحرم النبوي ورأى النبي في المنام وقال له: كذا وكذا... هـٰذه وصية مكذوبة ليست بصحيحة، وقد تقدم الكلام عليها من أهل العلم قديماً وحديثاً، فنبه عليها مراراً شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله وغفر له، وكذلك شيخنا محمد بن صالح العثيمين غفر الله للجميع، ولا صحة لما فيها، فهي من الأكاذيب المشهورة. سؤال: ما هو الدرن؟ الجواب: الدرن مأخوذ من القذر، والمقصود به ما يعْلَقُ بالقلب من أوضار المعاصي وآثارها. سؤال: هـٰذا يسأل عن الطريقة المثلى لمن أراد حفظ المتون؟ الجواب: الطريقة المثلى أن يستعين الله عز وجل بحفظ ما ينفع من المتون؛ لأن المتون كثيرة، فينتخب الطالب له في كل فن من الفنون أصلاً يجعله عمدة له، فمثلاً في الفقه إن كان على مذهب الإمام أحمد بن حنبل فيحفظ زاد المستقنع، إن كان مثلاً في مذهب الشافعي متن أبي شجاع.. وهلم جرّاً على حسب المذاهب التي يتعلم عليها الطالب. كذلك في النحو ينتخب له أصلاً، وأفضل ما يكون الألفية، ويحرص على حفظه وضبطه وفهمه. كذلك في الحديث، كذلك في سائر العلوم. يعني يصطفي له في كل فن من الفنون متناً يجعله أصلاً يبني عليه. أما أن يحفظ عشرة متون في النحو، وثلاثة متون في الفقه، ولم يحفظ شيئاً في العقيدة، أو لم يحفظ شيئاً في الحديث فهـٰذا عندي أنه من القصور. وأولى ما ينبغي أن يصرف فيه الجهد حفظ كتاب الله أولاً، فإن كتاب الله مفتاح العلوم وأصلها، كما قال الله جل وعلا: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾( ). فشهد الله لمن حفظه بأنه من أهل العلم، وإن كان معنى الآية أنه آيات واضحات في صدور أهل العلم، وأما غيرهم فإنها آيات لكن إما أن يحول دون وضوحها جهل أو عمى، نعوذ بالله من الأمرين. بارك الله فيكم وإلى درس قادم إن شاء الله تعالىٰ.

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : أهمية الدعاء ( عدد المشاهدات83725 )
3. خطبة: التقوى ( عدد المشاهدات78579 )
4. خطبة: حسن الخلق ( عدد المشاهدات73086 )
6. خطبة: بمناسبة تأخر نزول المطر ( عدد المشاهدات60807 )
7. خطبة: آفات اللسان - الغيبة ( عدد المشاهدات55204 )
9. خطبة: صلاح القلوب ( عدد المشاهدات52363 )
12. خطبة:بر الوالدين ( عدد المشاهدات49647 )
13. فما ظنكم برب العالمين ( عدد المشاهدات48462 )
14. خطبة: حق الجار ( عدد المشاهدات44984 )
15. خطبة : الإسراف والتبذير ( عدد المشاهدات44284 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف