واعلم أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾([1]).
وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾([2]).
إذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلمٍ وحُجج، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقابل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾([3]). ولكن إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حججه وبيناته، فلا تخف ولا تحزن ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾([4]).
ثم قال رحمه الله: واعلم أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾([5]): وهذا من سُنّة الله سبحانه وتعالى في رسله وفي أتباعه أنه لا بد للرسل ولأتباع الرسل من أعداء، هؤلاء الأعداء يضلون عن سبيل الله يحاربون الرسل ويحاربون أتباعهم يريدون إطفاء نور الله الذي جاءت به الرسل وحمله أتباعهم ولذلك قال الله سبحانه وتعالى مسلياً نبيه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأن ما يلقاه من اعتداء وأذى من قومه لم يكن أمراً خُصّ به دون سائر الرسل بل هو أمر درج عليه الرسل وهي سُنّة الله سبحانه وتعالى في أوليائه ليتميز حزبه من حربه والله سبحانه وتعالى قد تكفل بإبطال كيد هؤلاء فقد قال جل ذكره في الآية التي أخبر أنه لابد للأنبياء من أعداء في سورة الفرقان من أنه سبحانه وتعالى سيبطل كيدهم فقال جل ذكره: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾([6])فبعد أن أخبر بوجود العداوة من المجرمين للأنبياء بيّن سبحانه وتعالى أن هذه العداوة مبطلة بنصر الله سبحانه وتعالى وبهدايته والنصر والهداية هما اللذان يحتاجهما العبد في مواجهة هؤلاء فإن ما يغزو به هؤلاء أهل الحق أو ما يشغّبون به على أهل الحق أو أسلوبهم في محاربة أهل الحق لا يخرج عن طريقين:
الأول:التشكيك والتضليل.
الثاني:المحاربة والمقاتلة.
وقد تعهد الله سبحانه وتعالى بإبطال هذين النوعين من الكيد فتعهد بالهداية التي تقابل التشكيك والتضليل وتعهد بالنصر الذي يقابل المقاتلة والمحاربة وبهذا يعلم أنه مهما استطال الباطل وارتفعت أعلامه وانتشرت راياته وكثر أهله فإنه مدحور فإن العاقبة للمتقين كما أخبر سبحانه وتعالى وقد تكون العاقبة بعد ممات الداعية أو المصلح أو العالم أو المجدد فإن الله سبحانه وتعالى لم يضمن ظهور ثمار الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته بل وعده بالنصر مطلقاً ولم يتعهد بإظهار هذا النصر في حياته صلى الله عليه وسلم لكنما العقبى لأهل الحق إن فاتت هنا يعني في الدنيا كانت لدى الديان فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل الحق.
ثم قال رحمه الله: وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج: ولكن هذه العلوم والكتب والحجج هي مما يصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى وهي في الحقيقة شبه وليست حججاً ولذلك قال عنها الأول:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
فما يأتي به المبطلون يتخيله بعض الناس حججاً وهي في الحقيقة شبه ولذلك اغتروا بما عندهم من علم وبما عندهم من حجج وظنوا أن هذا سيقيهم عذاب الله سبحانه وتعالى وتكون لهم به العاقبة فأبطل الله سبحانه وتعالى ذلك وبين أن هذا لن يغنيهم عند الله شيئاً فهم لما جاءتهم الرسل بالحق من الله فرحوا بما عندهم من العلم كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾([7]). وانظر إلى قوله: البينات فإنهم أتوا بشيء ظاهر بيّن لكن هؤلاء لما مردت قلوبهم على الكفر والفسق وأشربت قلوبهم حب الكفر والشرك لم يستطيعوا أن ينفكوا من هذا البلاء ففرحوا بما عندهم من العلم والذي عندهم من العلم هو حقيقة الجهل والعلم الذي عندهم وقد فرحوا به هو علم الدنيا كما أخبر سبحانه وتعالى عنهم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾([8]).
ثم قال رحمه الله: وإذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله تعالى لا بد له من أعداءٍ قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقاتل به هؤلاء الشياطين: ولا شك أنه يجب على العبد أن يتعلم من دين الله ما يقيم به دينه فالذي يعيش في أوساط المبتدعة وفي أجواء الشرك يجب عليه من العلم ما لا يجب على ذلك الذي يعيش في بلاد التوحيد والذي يعيش في بلاد السنة ولذلك يُخطئ من يُفرّط في تعلم ما يجب عليه تعلمه ثم ينكسر أمام شبه المشبهين وتضليل المضللين فينبغي على العبد أن يأخذ من العلوم ما يحتاج.
ثم قال رحمه الله: الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾([9]): وهذا فيه إحاطة الشيطان بالعبد وأنه يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وما ذلك إلا لإحكام القبضة عليه فهو يأتيه من أمامه وعن يمينه فيزهده في الطاعات والصالحات والقربات ويأتيه من خلفه وعن شماله فيحثه على المعاصي والسيئات وقال بعضهم: يأتيه عن يمينه فيزهده في الطاعات ويأتيه عن شماله فيرغبه في السيئات ويأتيه من أمامه فيقعده عن طلب الآخرة لأن الآخرة أمامه ويأتيه عن خلفه ويجذبه إلى الدنيا لأن الدنيا خلفه وعلى كل فالمراد من هذه الإحاطة هو تسلط الشيطان على العبد وأنه لا نجاة لك من هذا الشيطان الذي أحاط بك من كل جانب إلا بالإقبال على العلم النافع والعمل الصالح الذي ينجيك من تسلطه وإحاطته.
ثم قال رحمه الله: ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾([10]): وهذه من منة الله علينا أن الله سبحانه وتعالى وعدنا بأن الذي يُقبل عليه ويُقبل على حججه سيهديه إلى السبيل والصراط المستقيم ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاَ﴾([11]). فالواجب على العبد أن يقدم العربون وأن يُقبل على الله سبحانه وتعالى مجاهداً في طلب العلم النافع مجاهداً في تحقيق الإخلاص والعبودية لله سبحانه وتعالى وليعلم أنه سيحصّل الخير وسيكفيه الله سبحانه وتعالى هذا الكيد الكبير وإن كان مع التوحيد الإخلاص والعمل يغدو كيد ضعيفاً كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾.
ثم قال رحمه الله: والعامِّيُّ من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾([12]): وكل من تمسك بكتاب الله وسُنّة رسوله ودعا إلى الله وإلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من جند الله وكل من أعرض عن كتاب الله وسُنّة رسوله وأقبل على الشهوات والشبهات فإنه من جند الشيطان فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسِّنان.
ثم قال رحمه الله: فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما أنهم الغالبون بالسيف والسِّنان وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح وقد مَنَّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله ﴿تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾([13]): فكل هدى في كتابه سبحانه وتعالى وكل ما يقربك إلى الله ويدلك على طريقه ويبعدك عن الشيطان ويحذرك من سبله وأساليبه موجود في كتاب الله وفي سُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ثم يقول رحمه الله: ﴿تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى: ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾([14]): وهذا من بديع إعجاز القرآن الكريم أنه لا يستدل به صاحب باطل على باطله إلا وفي كتاب الله بل في ذلك الدليل الذي استدل به إن كان دليلاً ثابتاً سواء كان من السنة أو كان من القرآن فإنه في هذا الدليل ما يُبطل حجته وما يرد شبهته كما قال تعالى: ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ وانظر كيف سمّى ما يأتي به المبطلون مثلاً وكيف سمّى ما في كتاب الله سبحانه وتعالى من الحجج حقاً وهذا لا شك فيه فإن ما يأتي به المبطلون هو شُبه تُدحض بالحق الذي في كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ قال المفسرون: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
ثم قال رحمه الله: وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جواباً لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا: هنا شرع الشيخ رحمه الله في الكلام على الشبهات وردها وكل ما تقدم هو توطئة وتقدمة لهذه الشبهات وفهمنا من كلامه أن هذه الشبهات ليست من نسج الخيال ولا من صنع الأفكار وإنما هي حصاد ما ورد على الشيخ من إيرادات ولذلك كان هذا الكتاب بالمنزلة التي سمعتم من كلام الشيخ سليمان فيها رحمه الله.
ثم قال رحمه الله: فنقول: جواب أهل الباطل من طريقتين مجمل ومفصل: وهذه الطريقة طريقة جيدة بديعة وذلك أن الجواب على بدع المبطلين وشبهات المشبهين يُسلك فيها جواب مجمل وجواب مفصل. فالجواب المجمل ينفع في الإجابة على كل شُبهة يوردونها. وأما الجواب المفصل فتدفع به كل شبهة بعينها فإن أورد عليك المبطل شبهاً مفصلة فيكفيك في الرد عليه أن ترد عليه جواباً مجملاً فإن عجزت عن إجابة تفاصيل ما أورد عليك من الشبه كفاك ما أجبت به إجمالاً فالشيخ ذكر جواباً مجملاً يصلح في الإجابة على كل ما أورد من شبه تفصيلية.
ثم قال رحمه الله: أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها وذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ﴾([15]). وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)): وهذه تقدمة في الجواب المجمل فإنه قال رحمه الله: ((أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها)) وذكر الآية التي فيها أن كلام الله سبحانه وتعالىوأن آيات الكتاب قسمان: محكمة و متشابهه وبين سبيل المؤمنين المتبعين المقتفين لآثار الرسل وسبيل الزائغين المشبهين أما سبيل المؤمنين فهو الإيمان بما جاء في الكتاب وحمل المتشابه على المحكم وأما الزائغون فهم يتبعون ما تشابه منه وآيات الله سبحانه وتعالى قسمان: القسم الأول: محكمة. الثاني: متشابهه. فالمحكمة: هي التي تكون بينة المعنى ظاهرة المعنى فلا تحتمل إلا معنى واحداً. وأما التشابهه: فهي الآيات التي تحتمل أكثر من معنى بدون مرجح لأحدها. ومثال المحكم والمتشابه قول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾([16])فهذه الآية فيها الخطاب بالجمع ذكر الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾فأتى بضمير الجمع في الخطاب فهذه أخذ منها بعض المشككين من النصارى أن الآلهة ثلاثة وإلا لما كان يسوغ أن يقول: نحن وهو واحد سبحانه وتعالى ولا يسوغ أن يقول إنّا وهو واحد سبحانه وتعالى فالجواب على هذا أن نقول: "إنا" و "نحن" هنا المراد بها التعظيم فإن قالوا: هذا محتمِل فنقول: الله سبحانه وتعالى قد بين لنا في كتابه أنه واحد فقال: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾([17])فتكون هذه الآية من سورة الإخلاص محكمة وهذه الآية من سورة الحجر متشابهة لأنها تحتمل أكثر من معنى بزعمهم وعلى هذا نقول: نحمل المتشابه على المحكم. هذا مثال للمحكم والمتشابه وطريقة حمل المتشابه على المحكم وبيّن الله سبحانه وتعالى أن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ولذلك تمسك النصارى بهذه الآيات التي فيها تعبير الله سبحانه وتعالى عن نفسه بصيغة الجمع على أنه سبحانه وتعالى أكثر من واحد كما يزعمون أنه ثلاثة والمحكم الذي في كتاب الله سبحانه وتعالى أنه واحد كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وكما دلت عليه الآيات والأحاديث الكثيرة.
ثم قال رحمه الله: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) وهذا الحديث في الصحيحين من حديث عائشة وفيه التحذير عن السماع لأهل الشبهات وأهل الأهواء والشبهات أيها الإخوة قد ترد على العبد ويظن أنها نابعة عن سعة علم وعن معرفة واطلاع والغالب أن الشبهات لا ترد إلا على قلب ضعيف، فالشبهات لا تنشأ إلا عن قلة في العلم أو ضعف في البصيرة ولذلك إذا تواردت على قلبك الشبهات فاعلم أن علمك ضعيف وليس ذلك لكثرة علمك. وقد تكلم ابن القيم رحمه الله كلاماً طيباً في الحذر من الشبهات وأهل الشبهات وذكر وصية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مفتاح دار السعادة قال رحمه الله: ((فأيما قلب صغى إليها – أي إلى شبهات الباطل – وركن إليها تشربها وامتلأ بها فينضح لسانه وجوارحه بموجبها فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه – يشير إلى ابن تيمية رحمه الله - وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أشرَبتَ قلبك كل شبهة تمر عليه صار مقراً للشبهات أو كما قال ا. هـ. )) يقول ابن القيم رحمه الله: ((فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك)). وهذه وصية نافعة مباركة في دفع الشبهات ودحضها وهي أن يحذر الإنسان منها وأن لا يجعل قلبه مقراً لها بل يدفعها عن قلبه ما استطاع ومن سبل دفعها دفع أهلها والنأي عنهم.
ثم قال رحمه الله: مثال ذلك، إذا قال لك بعض المشركين: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾([18])أو استدل بالشفاعة أنها حق وأن الأنبياء لهم جاه عند الله أو ذكر كلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك: إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه وما ذكرته لك من أن الله ذكر أن المشركين يُقرون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: ﴿هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾([19])هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه وما ذكرته لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا أعرف معناه: يعني لا أعرف أن معناه هو الذي ذكرت وإلا فمعنى قوله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾بيّن يعرفه الموحد ولكن لا يعرف الموحد من هذه الآية أنه يجوز الاستشفاع بهم ويجوز سؤالهم من دون الله سبحانه وتعالى وصرف العبادات إليهم دون الله سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله: ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله عز وجل وهذا جواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾([20])إذاً أجاب الشيخ رحمه الله على مجموع هذه الشبه التي أوردها المشرك بجواب مجمل وهو التمسك بالمحكم من الآيات ورد كل ما خالف ذلك المحكم. وهذا هو سبيل العلماء الراسخين والمقتفين لآثار النبيين والصالحين من الصحابة ومن بعدهم أنهم يتمسكون بالمحكم ويردون المتشابه إليه، فإذا قال القائل من هؤلاء المشركين: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾هذا يدل على أنه يجوز الاستشفاع بهم: قلنا له: ما وجه دلالة هذه الآية على ما تذكر مع أن الله سبحانه وتعالى قد أنكر على المشركين طلب الشفاعة من الأولياء المزعومين أو ممن طلبوا منهم من الصالحين والمعبودين من الملائكة والأنبياء وغيرهم. فهذا جواب مجمل ترد به على هؤلاء. ومن هذا نفهم أن الآيات المتشابهة ليست آيات محددة العدد بل هي مختلفة فقد يشتبه على شخص ما لا يشتبه على آخر فالتشابه في الآيات أمر نسبي وليس أمراً محدداً. فهذا المشرك اشتبه عليه الأمر وظن أن في قوله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾يدل على ما ذهب إليه من الشرك. وذكر الشيخ رحمه الله أن هذا الجواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله.
ثم قال رحمه الله: فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. وبهذا تعلم أن جميع ما يورده المشركون من الشبه والحجج هي شبه وحجج داحضة يعني باطلة لأن الرسل دعت إلى التوحيد ودعت إلى إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة فأي عبادة صرفها لغير الله شرك فلو جاء بأدلة الدنيا كلها بجواز صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله رددنا هذه الأدلة وأخذنا بالأدلة الظاهرة في أن الرسل جاءت بالدعوة إلى التوحيد وعدم جواز صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى. ثم صدر الشيخ رحمه الله الشبهات المفصلة بثلاث شبه مفصلة قال رحمه الله في وصفها: واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم: فبدأ رحمه الله في الشبهات بثلاث شبه هي كبار الشبه التي يوردوها المشبهون ويتمسك بها المسوغون والواقعون في الشرك.
وأول هذه الشبه قال رحمه الله: وأما الجواب المفصل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه. منها قولهم: نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن عبدالقادر أو غيره: كل هذا فهمنا منه أن المشرك يُقر بتوحيد الربوبية ويظن أن عدم إشراكه هو إقراره بتوحيد الربوبية لأنه صدّر كلامه بقوله: ((نحن لا نشرك بالله)) وما الدليل على عدم شركه بالله؟ قال: ((بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له)) فهذا أخطأ في فهم توحيد الإلهية فظن أن توحيد الإلهية هو أن يعتقد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن عبدالقادر أو غيره.
ثم قال رحمه الله عنهم: ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم: هذه هي الشبهة الكبرى التي وقع بها المشركون في الشرك والدليل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾([21])وقوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾([22])فما ذكره هذا المشرك عين ما احتج به أعداء الرسل على رسلهم وأنهم لم يصرفوا العبادات لأجل هؤلاء إنما صرفوها لأجل تحصيل الشفاعة منهم وأن لهم جاهاً عند الله. ولذلك قال الشيخ رحمه الله: فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بما ذكرت ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئاً وإنما أرادوا الجاه والشفاعة واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه: إذاً فهمنا الجواب على الشبهة الأولى، الجواب على الشبهة الأولى من وجهين:
الوجه الأول:بيان معنى توحيد الإلهية، لأن هذا ظنّ أن توحيد الإلهية هو أن يعتقد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له وإنما الإقرار بهذا هو إقرار بتوحيد الربوبية الذي أقرّ به المشركون كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾([23])فهم مقرون بهذا ولا نقاش.
الوجه الثاني:أن نقول إن ما احتججت به هو الذي احتج به المشركون على رسلهم فإنك ليس تزعم أنك تطلب منهم الشفاعة وأنك ترغب في الجاه الذي عندهم وأنت ليس عندك جاه والله سبحانه وتعالى قد ذكر ذلك عن المشركين وحكم عليهم بالشرك بهذا.