قوله: (لا إله إلا الله تقتضي أن لا يحب سواه، فإن الإله هو الذي يطاع فلا يعصي محبة وخوفاً ورجاء، ومن تمام محبته محبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، فمن أحب شيئاً مما يكرهه الله أو كره شيئاً مما يحبه الله لم يكمل توحيده وصدقه في قول: لا إله إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه الله، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾([1]).
قال الليث عن مجاهد في قوله: ﴿لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾([2]) قال: لا يحبون غيري.
وفي صحيح الحاكم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه: أن تحب على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض)).
قال الله عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾([3])، وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى وموالاة على ذلك، والمعاداة فيه من الشرك الخفي.
وقال الحسن: اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته. وسئل ذو النون: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر.
وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك.
وقال أبو يعقوب: النهر جوري كل من ادعى محبة الله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة.
وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده.
وقال رويم البغدادي: المحبة الموافقة في جميع الأحوال وأنشد:
ولو قلت لي مت قلت سمعاً وطاعة وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحباً
ويشهد لهذا المعنى أيضاً قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾([4])).
طيب هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله هو بيان أن هذه الكلمة لمعرفة معناها لابد أن نعرف أنها تدور على إفراد المحبة لله تعالى، فمن أراد تحقيق لا إله إلا الله فإنه لا يتأتى له ذلك إلا بإفراد الله تعالى بالمحبة بألا يحب سواه، وأن يكون الله جل وعلا محبوبه الأعلى الذي لا يماثله في المحبة شيء.
يقول رحمه الله: (لا إله إلا الله تقتضي أن لا يحب سواه)والمقصود: أن لا يحب سواه محبة عبادية، وإلا فمعلوماً أننا نحب الرسول، ونحب أولياء الله تعالى، ونحب الملائكة، ونحب ما يحبه الله من الأعمال، ونحب محبة طبيعية محبة الوالد لولده، والمولود لوالده، ومحبة الزوج لزوجته هذه المحاب ليست هي المقصودة في قوله رحمه الله: (تقتضي أن لا يحب سواه)إنما المقصود: أن لا يحب محبة عبادية سوى الله تعالى، وسائر المحاب التي ذكرتها المحاب العبادية كلها فرع عن محبة الله تعالى، كل المحبات العبادية محبة الرسول، محبة الملائكة، محبة الأولياء، محبة الرسل، محبة الصالحين، محبة الطاعة والأعمال الصالحة كلها فروع لماذا؟ لمحبة الله تعالى، فلا تعارض بينها وبين محبة الله تعالى، القسم الثاني من المحاب الذي ليس محبة عبادية وهي المحبة الطبيعية فهذه إذا استحضر الإنسان فيها طاعة الله تعالى قد يؤجر عليها كمحبة الوالد لولده والمولود لوالده فإن هذه إذا ترتب عليها طاعة الله تعالى فإنه يؤجر عليها لكن هي مما لا يؤجر عليه في الأصل ولا يأثم به كمحبة الإنسان مثلاً محبة الجائع للطعام هذه محبة طبيعية، محبة العطشان للماء البارد هذه محبة طبيعية ليست محل ثواب ولا محل عقاب ولا يؤاخذ بها الإنسان، فهذه المحاب محاب طبيعية، لكن المحبة الطبيعية إذا تقدمت على محبة الله ورسوله ومنعت من واجب عند ذلك يأثم بها الإنسان، إذا جعلها الإنسان مقدمة على محبة الله تعالى فإنه يلام بها قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾([5])، فحكم الله على هؤلاء بالفسق وأمرهم بالتربص وهو الانتظار والاستمهال للعقوبة وذلك لأنهم قدموا هذه المحاب على محبة الله ورسوله ومحبة العمل الصالح وهو المذكور في قوله: ﴿وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ﴾([6])، فهذه المحاب أصلها محبة الوالد لولده أخيه عشيرته زوجه أرضه ماله إذا كانت لا تحمله على ترك واجب أو ارتكاب محرم فإنه لا يلام عليها بل هي من الجائزات، ولكن إذا كانت هذه تحول بينها وبين طاعة الله ورسوله فعند ذلك هي من المحاب المذمومة التي يعاقب عليها وقد توعد الله تعالى من كان على هذه الحال بالإمهال والانتظار للعقوبة وحكم عليه بالفسق في قوله: ﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾([7])، وهذا فيه الحكم عليه بالفسق.
إذاً قول المؤلف رحمه الله: (لا يحب سواه)المقصود بذلك: معنى لا إله إلا الله أن لا يحب سوى الله تعالى أي: لا يحب محبة عبادية، ثم إن المؤلف رحمه الله بين هذا قال: (فإن الإله هو الذي يطاع فلا يعصى محبة وخوفاً ورجاء ومن تمام محبته محبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه)وأتى المؤلف رحمه الله بالتفصيل في ذلك وبيان أن من تمام المحبة أن يحب العبد ما يحبه الله، ومن تمام المحبة أن يكره ما يكرهه الله تعالى، واستدل لذلك بقول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾([8])، فلما اتبعوا ما يكرهه الله جل وعلا وأحبوه وكرهوا رضوانه أي: ما يحب ما يأمر به أحبط الله تعالى أعمالهم، وذكر الحديث الذي عن عائشة رضي الله عنها وهذا الحديث لا يصح إلا صدره وأما بقيته فإنها لا تصح أما حديث ((الشرك في الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء))فهذا قد جاء في أحاديث عديدة عن عائشة وغيرها وأما بقية الحديث فإنها ضعيفة.
قال: (وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله ويبغضه وبغض ما يحبه متابعة للهوى والموالاة على ذلك والمعاداة فيه من الشرك الخفي)ثم ذكر طائفة من كلام أهل العلم في أنه لا تتم محبة الله تعالى إلا بمحبة ما يحبه الله تعالى، وكراهية ما يبغضه الله جل وعلا. ثم ذكر بعد ذلك البيت:
ولو قلت لي مت قلت سمعاً وطاعة وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحباً
وهذا فيه أن من تمام المحبة أن يخرج الإنسان عن ما يحب إلى ما يحب حبيبه ... تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... إن المحب لمن يحب مطيع
فإذا كنت صادقاً في المحبة فأطع الله تعالى، وإذا حقق العبد هذا فلم يقع في معصية ولن يترك واجباً؛ لأنه سيكون مسابقاً مسارعاً إلى ما يحبه المولى ويرضاه.
يقول: (ويشهد لهذا المعنى)معنى ماذا؟ أي معنى؟ معنى أن لا إله إلا الله هو أن لا يحب سوى الله تعالى، (ويشهد لهذا المعنى أيضاً قوله تعالى)، أيضاً وأن يحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله (ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى).
(ويشهد لهذا المعنى أيضاً قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾([9]).
قال الحسن: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نحب ربنا حباً شديداً فأحب الله أن يجعل لحبه علماً، فأنزل الله تعالى هذه الآية).
الظاهر كلام الحسن أن هذا سبب نزول هذه الآية، والحسن رحمه الله لم يذكر ذلك على أحد من الصحابة فهذا من مراسيل الحسن، والله أعلم هل هذا هو سبب النزول أو لا لكن لا شك أن هذه الآية هي العلامة الفارقة بين المحبة الصادقة والمحبة المدعاة الكاذبة وهي معيار صدق يميز به العبد بين من يصدق في محبته ومن يدعي محبته؛ لأن المدعين كثيرون، الآن لو قلت لكل أحد: هل تحب الله؟ قال: طبعاً كيف ما أحب الله؟ ولكن المميز بين هذا وذاك في صدق ما يدعيه هو ما ذكره الله تعالى في هذه الآية: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾([10])، نعم.
(ومن هاهنا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، فإنه إذا علم أنه لا تتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه فلا طريق إلى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا من جهة محمد المبلغ عن الله ما يحبه وما يكرهه باتباع ما أمر به واجتناب ما نهي عنه، فصارت محبة الله مستلزمة لمحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ومتابعته، ولهذا قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ﴾([11]) إلى قوله: ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾([12])).
وتتمة الآية: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ﴾([13])فهذا في محبة ما يحبه الله تعالى في قوله: ﴿وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾([14])، نعم.
(كما قرن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) ).
وهذا الحديث في الصحيحين من حديث قتادة عن أنس رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان))أي: حصل بهن حلاوة التي تنتج وتظهر وتترتب على الإيمان ((أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما))هذه الخلة الأولى أو الصفة الأولى: ((الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))، وإذا تأملت في هذه الخلال الثلاثة ماذا تجد؟ تجد أنها دائرة على محبة الله تعالى ومحبة ما يحب وبغض ما يبغض، هذا المعنى الأول: محبة الله ورسوله، محبة الله تعالى هي الأصل ومحبة رسوله تابعة، الثاني: ((أن يحب الرجل لا يحبه إلا لله))ما يحبه لمال ولا لقرابة ولا لنسب ولا لجمال ولا لحسن منطق ولا لغير ذلك من الأسباب إنما يحبه لله، والثالثة: ((أن يكره أن يعود في الكفر))وهو أبغض ما يكون من الأعمال لله تعالى إن الله ﴿لا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾([15])فيكره ما يكرهه الله تعالى ويسخطه، فكانت هذه الخلال الثلاثة كلها دائرة على تحقيق المحبة لله تعالى بمحبته ومحبة ما يحبه وبغض ما يكرهه ويسخطه، طيب.
(هذه حال السحرة لما سكنت المحبة قلوبهم سمحوا ببذل النفوس وقالوا لفرعون: (اقض ما أنت قاض)، ومتى تمكنت المحبة في القلب لم تنبعث الجوارح إلا إلى طاعة الرب، وهذا هو معنى الحديث الإلهي الذي خرجه البخاري في صحيحه وفيه: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها))، وقد قيل: إن في بعض الروايات: ((فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي))، والمعنى: أن محبة الله إذا استغرق بها القلب واستولت عليه لم تنبعث الجوارح إلا إلى مراضي الرب وصارت النفس حينئذ مطمئنة بإرادة مولاها عن مرادها وهواها).
هذا من أعظم الأحاديث وأشرفها وهو حديث الولاية قد رواه الإمام البخاري رحمه الله من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث شريف فاضل عظيم بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله الله تعالى في شرف الولاية وطريق تحصيلها، في شرف الولاية في قوله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب))، وطريق تحصيلها في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها..))إلى آخر الحديث، هذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما بينه الله جل وعلا في قوله في الحديث الإلهي القدسي منزلة الولاية وشرفها وبين بعد ذلك طريق تحصيل هذه الولاية وفيه: أن من تمت محبته لله تعالى كان منبعثاً إلى ما يحبه الله تعالى ورسوله لا ينصرف إلى غير ذلك، ولذلك قال: (والمعنى)معنى الحديث في قوله: ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها))ما معنى هذا؟ هل معنى هذا أن الله تعالى يحل في العبد؟ لا تعالى عما يقول أهل الحلول علواً كبيراً فالله تعالى بائن من خلقه ليس حالاً في شيء من خلقه ولا فيه شيء من خلقه سبحانه وبحمده بل هو العلي الأعلى جل وعلا إنما المقصود ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن محبة الله إذا استغرق بها القلب يعني: امتلأ وملأت قلب العبد فإنها لا يمكن أن يكون بعد ذلك من التصرفات إلا ما يحبه الله ويرضاه.
وهذا معنى ما جاء في الصحيحين من حديث زكريا عن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))، فإذا امتلأ القلب بمحبة الله تعالى فليس فيه لغيره جل وعلا محبة ولا إلى سواه نظر ولا إلى غيره أمل وتعلق كان ذلك مالئاً للقلب بمحبة الله الذي يثمر تمام العبودية والانقياد لله جل وعلا، هذه المعاني يا إخواني معاني كبار يحتاج للعبد أن يتأملها ويفتش هل هو ممن تحققت فيه هذه الصفات فإذا كانت قد تحققت فيه هذه الصفات فليحمد الله وليعلم أنه على خير ويسأل الله الثبات والزيادة، وإن كان قد قصر فليبادر ما دام في العمر مهلة العمر ليس ممتداً ولا باقياً والأيام تمضي والليالي تنقضي فإذا لم نبادر إلى إصلاح قلوبنا وعلى أقل الأحوال إن لم نبلغ هذه المنازل نقصدها بالنية الصالحة ونسير إلى تحقيقها والإنسان يبلغ بنيته الصادقة ما لا يبلغ به عمله ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾([16])، فضل الله واسع، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على بلوغ هذه المنازل.
(يا هذا اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله على حرف، إن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة).
هذه كلمة نفيسة عالية ذكرها الشيخ عبد الرحمن بن رجب ونقلها الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في بعض الكتب: (يا هذا اعبد الله لمراده منك)يعني: لتكن عبادتك له جل وعلا لتحقيق ما يطلبه منك. (لا لمرادك منه)يعني: لا لتحصل ما تريده منه، بعض الناس يعبد الله تعالى حتى يحصل مكاسبه التي يريدها فمثلاً: يصل رحمه ليس له غرض في صلة الرحم إلا أن ينسى له في أثره ويبسط له في رزقه هذا ما عبد الله لمراده منه لمراد الله من العبد إنما عبد لما يطلبه هو من نتائج العبادة، بعض الناس يعبد الله تعالى لما يدركه من نتائج العبادة في الدنيا ولا شك أن هذا ينقص الأجر نقصاً بيناً إذا لم يكن في قلبه إلا تحصيل هذا الأجر الدنيوي كالذي يجاهد مثلاً لتحصيل الغنيمة فقط هذا ليس له في دنياه ولا في آخرته إلا ما حصل من الغنيمة، أما الذي يجاهد مرضاته لله تعالى لإعلاء كلمته وابتغاء وجهه جل وعلا فهذا الذي يؤجر على عمله وما أتاه من ثمار ذلك في الدنيا لا ينقص من أجره إذا كان صادقاً في رغبته، وفي بعض الأحاديث ما يدل على أنه قد يكون نوع تعجل للأجر لكن لا شك أنه إذا صدق في النية فلن ينقص ذلك من أجره شيئاً.
(اعبد الله لمراده منك)يعني: ما يطلبه منك من تحقيق العبودية والذل له جل وعلا (لا لمرادك منه)يعني: لا لما تقصده أنت من تحصيل المكاسب الدنيوية، (فمن عبده)أي: عبد الله (لمراده)أي: لمراد العبد من الله تعالى (فهو ممن يعبد الله على حرف)يعني: على طرف وعلى جرف، (إن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة. ومتى قويت)أي: تمت المعرفة بالله تعالى والعلم به (والمحبة)له جل وعلا (لم يرد صاحبها إلا ما يريد مولاه)يعني: لم يكن في قصده وعمله إلا ما يقربه ويعلي درجته ويكون مراده ما يريده الله تعالى حتى يصدق عليه، أصبحت منفعلاً لما يختاره مني ففعلي كله طاعات حقيقة، فعلي كله أي: فعله من حيث الطاعة والعبادة لا من حيث ما يذكره أصحاب البدعة من أن كل ما يكون من العبد من طاعة ومعصية فهو طاعة لله عز وجل كما يقوله الجبرية، المقصود: أنه إذا أخلص يعني قد لا يصح الاستشهاد بهذا البيت في هذا المقام؛ لأنه يستشهد به الجبرية على أن كل أفعال العباد مرادة لله تعالى إنما المقصود أنه إذا أراد العبد كمال العبودية فليعبد الله تعالى مخلصاً له في عبوديته، وإذا كان كذلك فسيكون كل فعله داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ((كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)).
(ومتى قويت المعرفة والمحبة لم يرد صاحبها إلا ما يريد مولاه.
وفي بعض الكتب السالفة: من أحب الله لم يكن شيء عنده آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال: ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة الله أو على معصيته، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت).
هذه منزلة كبرى وعالية ونقل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة وهو التفتيش في النية والنظر فيها في كل حركة وسكنة، نسأل الله أن يجعلنا من خالص أوليائه، وأن يرزقنا وإياكم سلوك سبيل عباده المتقين، نعم.
(وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال: ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة الله أو على معصيته، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت. هذا حال خواص المحبين الصادقين، فافهموا رحمكم الله هذا فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة، وإلى هذا المقام أشار النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته لما قدم المدينة حيث قال: ((أحبوا من كل قلوبكم)) وقد ذكرها ابن إسحاق وغيره فإن من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادات النفس والهوى، وإلى ذلك أشار القائل بقوله:
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا
أحبك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يبق حبك لي حراكا
وفي الأحباب مخصوص بوجد وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
فأما من بكى فيذوب وجداً وينطبق بالهوى من قد تشاكا
متى بقي للمحب حظ من نفسه فما بيده من المحبة إلا الدعوى إنما المحب من يفنى عن هوى نفسه كله ويبقى بحبيبه فبي يسمع وبي يبصر، القلب بيت الرب، وفي الإسرائيليات يقول الله: ما وسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن، فمتى كان القلب فيه غير الله فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى، الحق غيور يغار على عبده المؤمن أن يسكن في قلبه سواه أو يكن فيه شيء ما يرضاه).
هذا الكلام النفيس من المؤلف رحمه الله فيه بيان ثمار التوحيد وأن التوحيد الذي يجب على المؤمن أن يسعى في تحقيقه وأن يحاكم نفسه إليه ليس مجرد معلومات نظرية لا أثر لها في سلوك ولا في عمل، إن التوحيد الذي يجب على المؤمن أن يحققه هو ذلك الذي يثمر صدق الرغبة وسلامة النية وصحة القصد فإن التوحيد أصله محبة الله تعالى إذا كمل في قلب العبد محبة الله تعالى صلح وأفلح وأنجح وبلغ من المنازل والدرجات ما لا يمكن أن يبلغه بغير هذا السبيل، فالقلب مضطر إلى محبوبه الأعلى فلا يغنيه حب ثاني وصلاحه وفلاحه ونجاحه تجريد هذا الحب للرحمن، إذا جرد الحب لله تعالى وكمله في قلبه فإنه لابد بأن يأتي ببقية المراتب التي يتم بها توحيده ليس التوحيد الذي يجب على المؤمن أن يحققه هو مجرد معلومات نظرية أو كلمات طائشة ينظم فيها الإنسان الفرق بين كذا وكذا من المعلومات إنما هو قيود يقيد بها طريقه ويثبت بها قلبه على طريق الهدى، ولذلك كان المتقدمون قد تحققوا بالتوحيد مع عدم وجود هذه الضوابط الكثيرة التي ندرسها وندرسها لكنهم قوم ضبطوها ضبطوا هذه العلوم بحقائقها وإن غابت عنهم ترتيباتها وتقسيماتها، وليس عيباً أن يقسم الإنسان ويرتب أو ينظم لكن العيب هو أن نشتغل بهذه التقسيمات وهذه الضوابط وهذه الشروط ثم يغيب عنا معناها ولا ندرك ما فيها من المعاني التي هي المقصودة بأن يحقق العبد التوحيد لله تعالى صدقاً بتمام محبته وتمام الانقياد له.
يقول المؤلف رحمه الله بعد ذكرها الحسن يقول رحمه الله: (هذا حال خواص المحبين الصادقين، فافهموا رحمكم الله هذا فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة، وإلى هذا المقام أشار النبي صلى الله عليه وسلم)ثم ذكر السر في كون الإخلاص يرتبط بالمحبة يقول رحمه الله: (فإن من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادات النفس والهوى)هذا ارتباط الإخلاص بالمحبة، إذا كمل في قلب العبد محبة الله تعالى وامتلأ قلبه بالتعلق به فليس فيه نظر إلى سواه، ولا رغبة إلى غيره فإنه لابد أن يثمر إخلاصاً في عمله فلا يكون له قصد إلا الله جل وعلا، ولذلك متى تمت محبة الله جل وعلا في قلوب عباده فإنه ليس لهم إلى سواه التفات ولا إلى غيره قصد بل قصدهم ربهم الذي يحبونه، قصدهم الله الذي امتلأت قلوبهم بمحبته والإقبال عليه، وبهذا يتبين أن كمال التوحيد إنما يكون بكمال المحبة، وإنما يكون بكمال التعظيم وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان. هذان هما ركنا وساقا التوحيد اللذان يقوموا عليهما عقد العبد وتوحيده فإذا صححهما صح عمله.
ثم قال رحمه الله: (متى بقي للمحب حظ من نفسه)بعد أن ذكر الأبيات (متى بقي للمحب حظ من نفسه فما بيده من المحبة إلا الدعوى)، إذا كان يقصد تسكن إليه نفسه وما يرغبه هواه فليس معه من المحبة إلا الدعوى والدعاوى إن لم تقوموا عليها بينات أبناؤها أدعياء (إنما المحب من يفنى عن هوى نفسه كله)المحب الصادق هو الذي يخرج من قلبه كل محبة خارجة عن محبة الله تعالى فليس في قلبه إلا محبة الله ومن محبة الله تعالى أن يحب ما يحبه قال: (ويبقى بحبيبه)ثم يحقق تلك المنزلة العظمى والمرتبة العليا (فبي يسمع وبي يبصر)ذاك الذي تضمنه الحديث الشريف حديث الولاية الذي تقدم الكلام عليه فإن تلك الثمرة لا تكون إلا بعد تكميل المحبة، ثم ذكر ما في الإسرائيليات والإسرائيليات تذكر ويراد بها الاستئناس وليس المقصود بها الاستشهاد: (ما وسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن، فمتى كان القلب فيه غير الله فالله أغنى الأغنياء عن الشرك)، وهذا فيه غاية الترهيب ومنتهى التحذير أن يكون في قلبك سوى الله تعالى من المقاصد فإن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك لا يقبل مكاناً لا يقبل عملاً فيه شركة وفيه مزاحمة فالله سبحانه وتعالى أجل وأغنى من أن يزاحم في شيء من الأشياء، ولذلك جاء في الصحيح من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))، فاحذر أن يكون في قلبك غير الله جل وعلا، وهذا يا أخي ليس بانفعال ساعة وتأثر دقيقة إنما هذا بدوام المراقبة لا يتحقق هذا إلا بأن يكون الإنسان رقيباً على قلبه، دائم النظر في تقلباته وأحواله فالقلب له أحوال له إقبال وإدبار له نشاط وضعف له إخلاص وغفلة فينبغي للمؤمن أن يكون دائم النظر في هذا القلب مديم التأمل في أحوال وتقلباته، وإذا شئت أن تعرف هذا فانظروا في حال النبي صلى الله عليه وسلم فعائشة تقول: ((كانت أكثر أيمان النبي صلى الله عليه وسلم لا ومصرف القلوب))وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دائم الاستحضار لهذه الصفة وهو تصرف القلوب وتغيرها من حال إلى حال.
ثم ذكر رحمه الله قال: (الحق)يعني المقصود به الله جل وعلا (غيور يغار على عبده المؤمن أن يسكن في قلبه سواه أو يكن فيه شيء ما يرضاه)أي: شيء لا يرضاه جل وعلا، نعم.
(أردناكم صرفا فلما مزجتم ... بعدتم بمقدار التفاتكم عنا ... وقلنا لكم لا تسكنوا القلب غيرنا ... فأسكنتم الأغيار ما أنتم منا.
لا ينجو غداً إلا من لقي الله بقلب سليم ليس فيه سواه، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾([17])، القلب السليم هو الطاهر من أدناس المخالفات، فأما المتلطخ بشيء من المكروهات فلا يصلح لمجاورة حضرة القدوس إلا بعد أن يطهر في كير العذاب، فإذا زال عنه الخبث صلح حينئذ للمجاورة.
((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً))، فأما القلوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأمر ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾([18])، ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾([19])، ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾([20])، من لم يحرق اليوم قلبه بنار الأسف على ما سلف أو بنار الشوق إلى لقاء الحبيب فنار جهنم له أشد حراً، ما يحتاج إلى التطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل تحقيق التوحيد والقيام بحقوقه).
قول المؤلف رحمه الله: (ولا ينجو غداً إلا من لقي الله بقلب سليم)كما قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾([21])والسلامة هي النجاة من الآفات وأكبرها وأعظمها وأشدها الشرك، فلابد أن يكون القلب طاهراً من الشرك، ولابد أن يكون القلب طاهراً من النفاق، ولابد أن يكون القلب طاهراً من المعصية، هذه هي الآفات الثلاثة التي إذا سلم منها القلب نجا وكتب له السلامة يوم القيامة، فمن لقي الله تعالى بقلب تولث بأوضار الشرك، أو تلطخ بخلال النفاق، أو رانت عليه المعاصي والسيئات فإنه لا يسلم وشتاناً بين من جاء بقلب مطهر طاهر من أدناس المخالفات كبيرها وصغيرها وبين قلب متلطخ بهذه الآفات، ولذلك يقول المؤلف رحمه الله: (فأما المتلطخ بشيء من المكروهات)فضلاً عن كبائر السيئات وعظائم الموبقات فإنه لا يصلح للمجاورة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم من حديث علقمة عن عبد الله بن مسعود: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))السبب: أن القلب إذا تلطخ بهذه السيئة كان دنساً لا يصلح لدار السلام الدار الطيبة من كل آفة وشر فلابد أن يطهر حتى يلج الجنة ويدخل دار النعيم فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
يقول: (وأما القلوب الطيبة)التي طابت بتقواها، طابت بإخلاص محبتها لله تعالى، طابت بخوفها ورجائها وتعظيمها، طابت بكل معاني الطيب الذي ينبغي أن يكون عليه قلب المؤمن فهؤلاء يتلقون بالتسليم والبشارة بالدخول: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾([22])، ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾([23])، ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾([24])، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا منهم.
(من لم يحرق اليوم قلبه)أي: من لم يتألم مقصود إحراق القلب: تألمه وأسفه، (من لم يحرق اليوم قلبه بنار الأسف على ما سلف)وهو الندم على ما كان من السيئات سواء كان ذلك في التقصير في الواجبات أو الارتكاب للمحرمات (أو بنار الشوق إلى لقاء الحبيب)أي: بلقاء الله جل وعلا نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يشتاق إلى لقائه فيلقاه في أحسن حال وآمن مقام، (فنار جهنم له أشد حراً)نعوذ بالله.
يقول المؤلف رحمه الله: (ما يحتاج إلى التطهير بنار جهنم)هذا الذي تألم في الدنيا على ما فرط من السيئات وملأ قلبه بالشوق إلى لقاء ربه جل وعلا ما يحتاج إلى تطهير يوم القيامة؛ لأنه قد طهر قلبه وسلم (ما يحتاج إلى تطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل تحقيق التوحيد والقيام بحقوقه)من كمل توحيد الله تعالى وقام بحقوق الله جل وعلا وفد يوم القيامة سالماً من كل آفة فكانت له السلامة وكان مبشراً بما ذكر الله تعالى: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾([25]).
ثم ذكر المؤلف رحمه الله أنواع من المخلطين فقال رحمه الله..
(أول من تسعر به النار من الموحدين العباد المراءون بأعمالهم وأولهم العالم والمجاهد والمتصدق للرياء؛ لأن يسير الرياء شرك. ما نظر المرائي إلى الخلق بعلمه إلا لجهله بعظمة الخالق، المرائي يزور التوقيع على اسم الملك ليأخذ البراطيل لنفسه ويوهم أنه من خاصة الملك وهو ما يعرف الملك بالكلية.
نقش المرائي على الدرهم الزائف اسم الملك ليروج والبهرج لا يجوز إلا على غير الناقد).
ذكر المؤلف رحمه الله في هذا أنواع من المخلطين الذين قدموا يوم القيامة وقلوبهم ليست سليمة، وذكر أول ما يكون من الآفات المحيطة بالقلب التي تفقد سلامة القلب الرياء نعوذ بالله من الخسران، والرياء هو أن يظهر الإنسان العمل لغير الله جل وعلا إما لجلب منفعة أو دفع مذمة، فالرياء يكون لجلب المنافع بالمدح والثناء أو لدفع المذمة بأن يسلم من قالت السوء فيه فيرائي بالعمل لأجل هذا، يقول رحمه الله: (أول من تسعر به النار من الموحدين)يعني: ممن جاءوا بأصل التوحيد (من الموحدين العباد المراءون بأعمالهم)الذين عملوا العمل لغير الله جل وعلا، فلم يكن عملهم لله تعالى إنما كان عملهم لمكاسب قريبة يدركون بها ثناء أو مدحاً أو منزلة في الدنيا لكنهم في الآخرة قد خلو من قصدها أو إرادتها أو الرغبة فيها أو صدق الطلب لها، فهؤلاء أول من تسعر بهم النار من أهل التوحيد، وقد جاء هذا فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث سليمان بن يسار في قصة سؤال ...... الشام أبا هريرة رضي الله عنه فإنه سأله فقال: حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تفرق الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فؤتي به -يعني أتى الله تعالى به يوم القيامة- فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ فيقول: يا رب قاتلت فيك حتى استشهدت، فقال له: كذبت إنما قاتلت ليقال: جريء وقد قيل فيؤمر به جل وعلا فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار، ورجل تعلم العلم وقرأ القرآن فؤتي به يوم القيامة فعرفه نعمه فيقول له: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم فيك وعلمته وقرأت القرآن فيك قال: كذبت فيؤمر به فيسحب على وجهه فيلقى في النار))نعوذ بالله من الخسران، ((وثالث وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فيؤتى به فيعرفه نعمه فيقول له: ما عملت فيها؟ يقول: ما تركت من سبيل تحب أن أنفق فيه إلا أنفقت فيه فيقول الله تعالى: كذبت فيؤمر به فيسحب على وجهه فيلقى في النار))، وهذا يدل دلالة واضحة بينة على أن هؤلاء لم يدركوا ما سعوا له، أدركوه في الدنيا بالثناء الذي يزول ويذهب وسرعان ما ينقضي ثم إن هذا المدح والثناء لا يستقر بل لا يقر في الدنيا من الثناء والمدح إلا ما كان لله جل وعلا، أما ما كان لأجل المدح أو للناس فإنه وإن حصل الثناء مؤقتاً لكن لابد أن يزول ويرتفع ويذهب ولا يبقى إلا ما أريد به وجه الله تعالى وابتغي به سبحانه وبحمده، فينبغي للمؤمن أن يكون على حذر من أن يكون واحداً من هؤلاء، يعني ما الذي يعطيني أو يعطيك ضمان ألا نكون من هؤلاء؟ ليس هناك ضمان ألا نكون من هؤلاء، إذاً إذا كان كل واحد منا يمكن أن يكون واحداً من هؤلاء فيجب على كل واحد منا أن يفتش نيته، وأن يصدقه في رغبته، وأن يكون الله جل وعلا هو مراده لا مراد له سواه، إذا كان كذلك فليبشر فإنه سيبارك له في عمله، وسيدرك خير الدنيا وخير الآخرة، سيجعل الله له وداً ومحبة في قلوب الناس كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾([26])محبة وقبول في قلوب الناس، وأما الآخرة فأجر الله تعالى واسع وعظيم لمن صدق في نيته وأخلص في عمله.
يقول رحمه الله: (ما نظر المرائي إلى الخلق بعمله إلا بعظمة الخالق)نعم لا شك أنه لما جهل بعظمة الخالق وعظمة الرب جل وعلا التفت يمناً ويسرة، ولو وحد نظره وتأمل عظمة ربه جل وعلا وأنه لا يكون شيء إلا من قبله لما كان فيه التفات إلى سواه، (المرائي يزور التوقيع)؛ لأنه يعمل العمل كأنه لله تعالى وكأنه لله جل وعلا يريد ثوابه هذا نوع تزوير وخلاف الواقع أخبار بخلاف الواقع (ليأخذ البراطيل)يعني: الرشا والفوائد والعوائد الدنيوية لنفسه (ويوهم أنه من خاصة الملك وهو ما يعرف الملك بالكلية).