(وهي تجدد ما درس من الإيمان في القلب.
وفي المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((جددوا إيمانكم. قالوا: كيف نجدد إيماننا؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله وهي لا يعدلها شيء في الوزن، فلو وزنت بالسموات والأرض رجحت بهن)).
كما في المسند: عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن نوحاً قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن في حلقة مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله)).
وفيه أيضاً عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن موسى عليه السلام قال: يا رب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به قال: يا موسى! قل: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: قل: لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا أنت يا رب إنما أريد شيئاً تخصني به. قال: يا موسى! لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله)). وكذلك ((ترجح بصحائف الذنوب)) كما في حديث السجلات والبطاقة وقد خرجه أحمد والنسائي والترمذي أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم).
المؤلف رحمه الله ذكر في هذه الفضيلة جملة من الأحاديث التي تبين عظيم فضل قول هذه الكلمة وما رتب الله تعالى لها من الأجور، قال رحمه الله: (وهي تجدد ما درس من الإيمان في القلب). الإيمان أصله: إقرار القلب وطمأنينته، وقد تقدم أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومما يزيد الإيمان زيادة بينة ما يكون من الذكر الذي يصدق فيه الإنسان ويكون ذكراً بالقلب واللسان، ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾([1])، وأنا في هذه الساعة ما يحضرني بيان أثر عمل من الأعمال في القرآن على القلب إلا الذكر فإن الله جل وعلا بين أثر ذلك على الذكر بياناً واضحاً وصريحاً فقال جل وعلا: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾([2])، وكذلك قال: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾([3])فبين أثر الذكر على القلب، فالذكر له أثر بالغ على قلب العبد في قوته وثباته وصلاحه وزيادة إيمانه ورسوخ يقينه ما لا يعرف له نظير في العمل كله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بيان سبق الذاكرين ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((سبق المفردون. قالوا: ما هي المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات))، فالذكر له أثر بالغ في تجديد الإيمان وتزكيته وإصلاحه وتلافي ما حصل من النقص، ولذلك جاء الأمر في كتاب الله تعالى بالذكر كثيراً من حيث مواضع الأمر به وجاء به أيضاً لم يأت به مطلقاً في ذكره يعني الأمر بالذكر هكذا اذكر الله إنما أمر الله تعالى بالذكر خصوصاً أن يكون كثيراً لشدة حاجة القلب إليه، قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([4])، وقال في صلاة الجمعة: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(10)﴾([5])، وقال جل وعلا في الصلاة: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾([6])، فالأمر بالذكر يتميز عن غيره بأن الله تعالى أمر به كثيراً لشدة الحاجة إليه ولعظيم أثره، فقول هذه الكلمة: (يجدد ما درس في قلب العبد من الإيمان)ولذلك لما قل نصيب الناس من الذكر سواء كان الذكر الذي في أدبار الصلوات أو الذكر الذي في الصباح والمساء أو سائر ما يكون من الأذكار قل نصيبه من الإيمان ضعف نصيبه من الإيمان، وبقدر ما يكون مع الإنسان من الذكر بقدر ما يكون معه من الصلاح والإيمان وهذا مضطرب ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: كل عبادة فيها ذكر هي خير من العبادة الخالية من الذكر أو التي يقل فيها الذكر. فأي عبادة سواء كانت صلاة أو زكاة أو حج أو صيام أو جهاد يكون الإنسان فيها ذاكراً يكون نصيبه من الفضل وجني ثمار هذه العبادة أعلى وأكبر من غيره. فقول: لا إله إلا الله يجدد ما درس يعني: ما نقص وعفا عليه الوقت من الإيمان في قلوب العباد، ولا شك أن طول العهد سبب لضعف الإيمان إذا لم يجدد الإنسان إيمانه وتقواه قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾([7])، فطول العهد سبب لقسوة القلب، علاج هذا بكثرة الذكر، وتجديد الإيمان بسائر أنواع الصالحات والطاعات التي ندب الله تعالى إليها.
ذكر المؤلف رحمه الله حديثاً في الباب قال: (وفي المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((جددوا إيمانكم. قالوا: كيف نجدد إيماننا؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله وهي لا يعدلها شيء في الوزن فلو وزنت بالسموات والأرض رجحت بهن)) ). وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وغيره من طريق شتير بن نهار عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد صححه الحاكم لكن هذا الحديث ضعيف لضعف الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه ولذلك ضعفه الذهبي وتعقب الحاكم في تصحيحه، لكن من حيث المعنى الحديث صحيح، نعم.
(كما في المسند عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أن نوحاً قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن في حلقة مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله)).
وفيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن موسى عليه السلام قال: يا رب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: يا موسى! قل: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: قل: لا إله إلا أنت. فقال: لا إله إلا أنت إنما أريد شيئاً تخصني به. قال: يا موسى! لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله)). وكذلك ((ترجح في صحائف الذنوب)) كما في حديث السجلات والبطاقة وقد خرجه أحمد والنسائي والترمذي أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم).
فهذه الأحاديث الثلاثة كلها في فضل هذه الكلمة العظيمة كلمة لا إله إلا الله التي نسأل الله أن يحيينا عليها، وأن يتوفانا عليها، وأن يحشرنا في زمرة أهلها.
يقول رحمه الله في أول مساق في الفضائل فضائل هذه الكلمة: (كما في المسند عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن نوحاً قال لابنه عند موته)) )، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده وهو حديث صحيح فيه عظيم فضل هذه الكلمة، وأن الأنبياء كانوا يوصون بهذه الكلمة أهلهم وأتباعهم، وأن الوصية بها عند الموت مشروعة، ((فإن نوحاً عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله))، والذي يظهر أن هذا عند موت نوح عليه السلام فإنه أمره بهذه الكلمة وصية كما قال الله تعالى في إبراهيم: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾([8])، الكلمة التي جعلها إبراهيم عليه السلام في عقبه هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله المتضمنة إفراد الله تعالى بالعبادة وتوحيده بها. ((آمرك بلا إله إلا الله))أي: بقولها ولزومها، فالأمر بها هنا أمر بالقول اللساني والعقد القلبي فإنه لا يأمره بكلمة مجرد عنعنة، ثم بين له فضيلة هذه الكلمة وأنها كلمة عظيمة قال: ((فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة))والكفة هي إحدى جهة الميزان التي يوزن بها، ((فلو وضعت السموات السبع والأرضون السبع في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة –أي في الكفة الأخرى- رجحت بهن لا إله إلا الله))، وهذا لا يكون إلا لمن قالها وقد أتى بمعناها، أما من خف بها لسانه ولم يوثق بها قلبه فإنه لا تنفعه ولا تكون على هذا الحال، فالمنافقون يقولون: لا إله إلا الله لكنهم لا ينتفعون منها وليس لها وزن ولذلك هم في الدرك الأسفل من النار، ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾([9])مع أنهم يقولونها ويظهرونها لكنها كلمة تخرج من أفواههم لا تتجاوز حناجرهم فليس لها في قلوبهم رصيد ولا لهم فيها اعتقاد، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذه الموازنة إنما هو في لا إله إلا الله التي يصدق فيها القلب اللسان ويصدق فيها قائلها فيقولها موقناً بها منشرح الصدر بها، موقناً بمعناها، عالماً بها، قد استكمل حقوقها وشروطها، فإن هذه الكلمة إذا قالها العبد صادقاً رجحت بكل ما يكون من التقصير والخطأ كما سيأتي في حديث البطاقة، وهنا الموازنة بين أعظم المخلوقات خلق المشاهدة خلق الأرض وخلق السموات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما قصه عن نوح: ((فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله))، وتأمل أعد النظر في هذا تجد أن ذلك إنما يكون لمن صدق في قولها، ويبين عظيم فضل التوحيد وأن التوحيد عمل جليل كبير يرجح بالسموات والأرض. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن في حلقة مبهمة))مبهمة أي: حلقة ليس فيها فتح إنما هي مصمتة مغلقة من كل وجه ((فصمتهن لا إله إلا الله))أي: قسمتهن لا إله إلا الله، والحلقة المبهمة هي التي ليس فيها فتح إنما هي مسبوكة من كل وجه على قوة واحدة، خلاف بعض الحلق التي تكون فيها فتح لإدخال الحلقة بالحلقة التي تليها، فلو كانت السموات والأرضين في حلقة مصبوبة من كل وجه ليس فيها منفذ ولا مفتاح (فصمتهن) أي: قسمتهن لا إله إلا الله، وهذا فيه عظيم تأثيرها، فيه عظيم تأثير هذه الكلمة، وأن هذه الكلمة تؤثر تأثيراً بالغاً فهي من حيث الثقل ترجح بالسموات والأرض، ومن حيث القوة والتأثير والنفاذ تقسم الحلقة المبهمة التي.. تصور حلقة تكون فيها السموات والأرض كيف ستكون هذه الحلقة؟ إنها ستكون من الكبر والعظم والقوة والصلابة ما هو مناسب لما تضمنته وكان في داخلها؛ لأن لا إله إلا الله كلمة ثقيلة في الميزان وهي عظيمة في التأثير في كل ما تقال عليه، وفي كل ما ترد عليه، وهذا يبين أن هذه الكلمة إذا كملها العبد كانت في الأثر والثقل كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عما ذكره نوح عليه السلام لابنه في ثقلها وتأثيرها، المقصود: أن هذا الحديث بين لنا ثقل هذه الكلمة وتأثيرها وعظيم نفاذها، وأنها تؤثر هذا التأثير الكبير.
يقول رحمه الله: (وفيه)أي: في المسند (عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن موسى عليه السلام قال: يا رب علمني شيئاً أذكرك..)) )إلى آخر ما ذكر هذا الحديث ليس في المسند الذي بين أيدينا، وليس من رواية عبد الله بن عمرو في المصادر الموجودة بين أيدينا، فلعل المؤلف رحمه الله وقف على شيء لم يصلنا أو أن يكون هذا من قبيل الوهم الذي لا يسلم منه أحد فالحديث في السنن سنن النسائي الكبرى من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه: ((أن موسى عليه السلام قال: يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به))، فطلب شيئاً يذكر الله تعالى به ويدعوه به، والذكر معروف هو ذكر اللسان وذكر القلب، والدعاء هو السؤال والطلب، فطلب كلاماً يجمع هذين الأمرين: الذكر لله تعالى وسؤال الله تعالى وطلبه. ((قال: يا موسى قل: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا))أي: ليس ذلك مما اختص به ولذلك يأتي بيان وتوضيح ما أراده عليه السلام قال: ((قل: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا أنت يا رب إنما أريد شيئاً تخصني به))، فموسى عليه السلام إنما أراد شيئاً يختص به دون غيره، وليس في هذا أنه لم يعرف قدر هذه الكلمة إنما أراد كلاماً يخصه دون غيره. ((قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري))يعني المقصود: لو أن السموات السبع ومن فيهن فقوله: ((وعامرهم))أي: ساكنهن ((غيري))غيري هنا المقصود به: سواك، وهذا إما أن يكون استثناء منقطعاً فالله جل وعلا على السماء وليس في السماء، وإما أن يكون كقوله جل وعلا: ﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾([10])أي: على السماء، وليس فيه أن الله تعالى تحويه السماء أو أن السماء ظرف له جل وعلا فإن هذا دلت النصوص على أنه غير مراد وأن الله جل وعلا وأنه ليس في شيء من خلقه بل هو سبحانه وتعالى بائن من خلقه مستوٍ عن عرشه كما أجمع على ذلك أهل السنة والجماعة، فقوله: ((عامرهن غيري))معناه: لو أن السموات والأرض ومن فيهن ((لو أن السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع في كفة))، وقوله: ((ومن فيهن))يشمل كل ما في السموات وكل ما في الأرض فمن ذلك القمر والكواكب وسائر ما فيها من عظيم المخلوقات لو كان ذلك كله في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله. وهذا الحديث فيه ما في الحديث السابق من عظيم ثقل هذه الكلمة أنها كلمة في الثقل والمكانة عند الله تعالى ترجح السموات العظام السبع وترجح بالأرضين وهذا يبين ثقل هذه الكلمة، هذا الحديث حديث أبي سعيد من حيث الإسناد فيه ضعف لكنه مع الحديث السابق يصلح أن يكون حديثاً ثابتاً من حيث المعنى، أما من حيث الإسناد فإن هذا الحديث من رواية دراج أبي السمح عن أبي الهيثم وعن أبي سعيد وفي هؤلاء من الضعف ما هو معروف فإن دراج عن أبي الهيثم في روايته عنه ضعف ولذلك ضعف الحديث جماعة من أهل العلم، لكن من حيث المعنى يشهد له ما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه في وصية نوح لابنه.
ثم قال رحمه الله: (وكذلك ترجح بصحائف الأعمال)، إذا كانت ترجح بالسموات والأرض السموات السبع والأرضين السبع فغيرها من باب أولى؛ لأن أعظم المخلوقات خلق السموات فيما يشاهد الناس قال الله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾([11])فبين الله جل وعلا عظم خلق السماء.
يقول: (وكذلك ترجح بصحائف الذنوب)صحائف جمع صحيفة والذنوب المقصود بها: الأعمال السيئة، والأعمال لها صحائف تحويها قال الله تعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا﴾([12])فهذا الكتاب يحوي عمل الإنسان، ويسجل فيه ما يكون من بني آدم، وهذه الصحائف تتضمن كل ما يكون من الإنسان من عمل صالح أو عمل سيئ. (لا إله ترجح بصحائف الذنوب)أي: بالصحائف التي ملئت ذنوباً ولذلك قال: (بصحائف الذنوب)ولم يقل: بصحائف الأعمال؛ لأنه ليس فيها عمل صالح، فهذه الصحائف كلها صحائف سوء كما في حديث السجلات والبطاقة، وحديث السجلات والبطاقة والحديث المشهور الذي رواه الترمذي وغيره من حديث أبي عبد الرحمن المعافري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله تعالى يخلص رجلاً من هذه الأمة على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر))يعني: من الطول ((فيعرضها عليه فيقول: أتنكر من هذه شيئاً؟ فيقول: لا، فيقول: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا، فيقر بما كان من سيئاته ويقر بما كان من مكتوب فيطلب الله جل وعلا ولا أحد إليه العذر من الله تعالى يقول: أفلك عذر؟ قال: لا يا رب، فيقول الله تعالى: بلى إن لك حسنة فيؤتى بها وهي بطاقة))البطاقة وهي المكتوب الصغير الكتاب الذي فيه الرقعة أو القطعة من الكتاب الذي فيه كتابة صغيرة يؤتى بهذه البطاقة عليها لا إله إلا الله في بعض الروايات: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله))، فيقول هذا صاحب هذه البطاقة: ما تصنع هذه البطاقة في هذه السجلات؟)) فيستبعد أن تنفعه هذه البطاقة أمام هذه السجلات التي كل سجل منها مد البصر، ((فيقول الله تعالى: إنك لا تظلم شيئاً، فتوضع هذه البطاقة في الكفة الأخرى فتطيش تلك السجلات))تطيش أي: تتطاير وتذهب وتضمحل، وهذه البطاقة هي لكل موحد ليست خاصة بهذا الرجل إنما الذي اختص به هذا الرجل عن غيره من أصحاب الذنوب أن معه من التصديق بهذه الكلمة واليقين بها ما تتلاشى معه كل الذنوب والمعاصي وليس في هذا أنه اختص بهذه البطاقة، وقد تقدم في حديث أنس في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: ((وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله))، فكل مسلم له مثل هذه البطاقة لكن الناس يتفاوتون في ثقل هذه البطاقة وعظيم ما فيها من التصديق، ولذلك بعضهم يدخل النار مع وجود هذه البطاقة معه دليل ذلك ما في حديث أنس في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله))فهؤلاء معهم هذه الكلمة لكنها لم ترجح بما معهم من السيئات ولذلك عوقبوا بالنار، أما هذا فإن معه هذه الكلمة ومعه من الإيمان واليقين بها ما تطايرت لأجله سيئاته وهذا يؤكد لنا ما سبق تقريره مراراً أن العمل قد يكون في الصورة متفقاً من كثر لكن يختلف باختلاف ما يقوم في قلوب الأفراد، فالفرد ليس بصور الأعمال لكن بحقائق الإيمان، وتفاضل الأعمال يتبع ما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان، حتى يكون العاملان كلاهما في صورة تبدو لنا بعيان، هذا وبينهما كما بين السماء والأرض في فضل وفي رجحان.
وهذا كلمات ابن القيم رحمه الله في نونيته وهي تؤكد وتقرر هذا المعنى، فإن هؤلاء جميعاً معهم هذه البطاقة لكنهم اختلفوا باختلاف ما قام في قلوبهم من الإيمان بها والاعتقاد لمعناها والجزم بمقتضاها، وهذا هو الذي فاوت بين الناس، فهذا الحديث لا يشكل على ما تقدم من أن من الناس من يدخل النار مع أن معه لا إله إلا الله بل هو يؤكد أنه كلما حقق الإنسان هذه الكلمة ورسخت في قلبه وثبتت في جنانه فإنها ترتفع بها درجته، وتعلو بها منزلته، ويثبت يقينه، ويحصل له من العلو والرفعة بقدر ما معه من اليقين بهذه الكلمة. نعم.
(وهي التي تخرق الحجب كلها حتى تصل إلى الله عز وجل.
وفي الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه)).
وفيه أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصاً إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر)).
ويروى عن ابن عباس مرفوعاً: ((ما من شيء إلا بينه وبين الله حجاب إلا قول: لا إله إلا الله، كما أن شفتيك لا تحجبها كذلك لا يحجبها شيء حتى تنتهي إلى الله عز وجل)).
وقال أبو أمامة: ((ما من عبد يهلل تهليلة فينهنهها شيء دون العرش)) ).
هذه الفضيلة وهي التي قال فيها المؤلف: (وهي التي تخرق الحجب حتى تصل إلى الله تعالى)يدل لذلك قول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾([13])، وأطيب الكلم هو كلمة لا إله إلا الله فهي تصعد إليه جل وعلا إذا قالها العبد صادقاً من قلبه، ويشهد لنفوذها الحجب وعدم وقوف شيء أمامها ما تقدم في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو في وصية نوح لابنه في قوله: ((لو أن السموات السبع والأرضين السبع كن في حلقة مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله))، وأما ما ذكره من الأحاديث فإنها أحاديث لا تخلو من ضعف لكن المعنى الذي أشار إليه صحيح ولذلك ذكر المؤلف رحمه الله هذه الأحاديث على ضعفتها ونمر عليها إن شاء الله تعالى. نعم.
(وهي التي ينظر الله إلى قائلها ويجيب دعاءه.
خرج النسائي في كتاب اليوم والليلة من حديث رجلين من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مخلصاً بها روحه مصدقاً بها قلبه ولسانه إلا فتق لها السماء فتقاً حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤاله)) وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها.
كما أخرج النسائي والترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال العبد: لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه وقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر. وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال الله: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي. وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد قال الله: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد. وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الله: لا إله أنا ولا حول ولا قوة إلا بي. وكان يقول: من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار)) ).
هذه الأحاديث وهذان الحديثان في سياق فضائل هذه الكلمة المباركة العظيمة التي هي أساس الدين وأصله وهي الكلمة الطيبة. يقول رحمه الله: (وهي التي ينظر الله إلى قائلها ويجيب دعاءه)، الله سبحانه وتعالى ينظر إلى عباده فهو السميع البصير سبحانه وبحمده يبصرهم ويراهم المقصود بالنظر هنا: النظر الخاص وليس عموم النظر الذي يكون لكل من يبصره الله تعالى ويراه، كقول القائل: سمع الله لمن حمده أي: أذن الله جل وعلا في السماع هنا سماع خاص وليس السماع العام الذي هو إدراج المسموعات، كذلك هنا النظر نظر خاص وليس النظر العام الذي يكون لجميع المبصرات والمنظورات، فقوله: (وهي التي ينظر الله إلى قائلها ويجيب دعاءه)، وفيه أيضاً: أن هذا النظر يقتضي إجابة السؤال والدعاء، وهذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي استدل بها المؤلف رحمه الله في فضائل هذه الكلمة وهو حديث في إسناده ضعف فإن في رواته مجهولاً وذلك أنه من رواية وبرة عن محمد بن عبد الله بن ميمون عن يعقوب بن عاصم عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومحمد بن عبد الله بن ميمون معدود في المجاهيل، وعلى كل فإن لا إله إلا الله إذا قالها العبد صادقاً أدرك بها فضلاً عظيماً وصدقاً كبيراً فمن قالها مخلصاً بها قلبه له من الفضل والقبول عند الله تعالى ما ليس عند غيره، فهي أفضل الكلام وأعظمه، ولذلك فضل هذه الكلمة ثابت ولو كان هذا الحديث فيه ضعف، وأما قوله: ((إلا فتق لها السماء فتقاً))فهذا يدل له ويشهد له ما في حديث عبد الله بن عمرو المتقدم: ((لو أن السموات والأرضين في حلقة فصمتهن لا إله إلا الله))، ففيها من النفوذ والقوة والتأثير ما هو معلوم ثابت بالأحاديث السابقة، وقوله رحمه الله بعد ذلك في الفضيلة الثانية التي ذكرها (وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها)، والتصديق هنا هو الشهادة على صدق هذا القول، وهذا ثابت؛ لأنها شهادة الحق التي شهد الله تعالى بها كما قال جل وعلا: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾([14])، فالله جل وعلا شهد بهذه الكلمة وصدق قائليها سبحانه وبحمده، وأما هذا الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله فهو من حديث كما ذكرنا حديث أبي سعيد وأبي هريرة وقد صححه جماعة من أهل العلم على أن فيه أبا إسحاق السبيعي وهو مدلس وقد عنعن لكنه جاء من رواية شعبة عن أبي إسحاق عن الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة، وشعبة يتحرى في أحاديث أبي إسحاق فلا ينقل منها إلا ما كان ثابتاً لكنه في طريق شعبة روي موقوفاً فلغى وليس من قول أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبي سعيد، لكن جاء من طريق أخرى عن الأغر عن أبي سعد وأبي هريرة رضي الله عنه، فالحديث في الجملة يصلح للاستشهاد، وفيه ما ذكر المؤلف رحمه الله (من أن الله يصدق قائلها)أي: يثبت ما قال قائلها، ولا شك أن الكلمة التي يصدقها الله تعالى يعطي عليها من الأجر والثواب ما يعطي، فالتصديق دليل القبول ودليل الإثابة والأجر، فليس التصديق مجرد أنه يقول: صدق فقط إنما إذا صدقه رب العالمين فإنه يعطيه على ذلك من الأجر والمثوبة ما لا يعطي على غيره، ((إذا قال العبد: لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه وقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. –إلى آخره- قال الله جل وعلا: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك له، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال الله تعالى: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد..))إلى آخر ما ذكر ثم قال: ((وكان يقول: من قالها في مرضه ثم مات لم تعمه النار))وهذا يشهد له ما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله))، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين هذه الكلمة المؤمن في سياق الموت، وقوله: ((لقنوا موتاكم))المقصود به: أي الذين في سياق الموت كما جرى من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عمه أبي طالب لما أعاده في مرض موته قال: ((يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله))فقالها في سياق موته، ومن أهل العلم من يقول: إنها تقال بعد الموت يعني: إذا أوى الميت قبره فإنه يذكر بها فيقال له: قل: لا إله إلا الله ولكن هذا المعنى ليس عليه عمل السلف والمعنى المتبادر الذي يظهر هو التلقين في وقت الانتفاع وهو في سياق الموت حتى يكون آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله، ومن وفق إليها في هذه الحال أو في هذه المنزلة وهذا الطبق لا شك أن هذا من توفيق الله تعالى الذي يصرف الله تعالى به على العبد شراً كثيراً، وينال به خيراً عظيماً؛ لأنه لا يوفق إليها إلا موفق، نسأل الله أن يختم لنا ولكم بها ويجعلها آخر كلامنا من الدنيا، وهذا يدل على أن هذه الكلمة هي آخر المطلوبات كما أنها أول الواجبات فإنها أول الواجبات وهي آخر المندوبات حيث إن الله تعالى ندب إلى تذكير الميت هذه الكلمة حتى يختم له بها..