سورة طه
قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} هذه الآية الكريمة يتوهم منها أنه جل وعلا لم يخفها بالفعل ولكنه قارب أن يخفيها؛ لأن (كاد) فعل مقاربة. وقد جاء في آيات أخر التصريح بأنه أخفاها كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن المراد بمفاتح الخمس المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية. وكقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وقوله: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} إلى غير ذلك من الآيات. والجواب من سبعة أوجه:
الأول: وهو الراجح، أن معنى الآية أكاد أخفيها من نفسي أي لو كان ذلك يمكن وهذا على عادة العرب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم والواحد منهم إذا أراد المبالغة في كتمان أمر قال كتمته من نفسي أي لا أبوح به لأحد، ومنه قول الشاعر:
أيام تصحبني هند وأخبرها *** ما كدت أكتمه عني من الخير
ونظير هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". وهذا القول مروي عن أكثر المفسرين, وممن قال به ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح كما نقله عنهم ابن جرير وجعفر الصادق كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ويؤيد هذا القول أن في مصحف أُبيّ (أكاد أخفيها من نفسي) كما نقله الألوسي وغيره وروى ابن خالويه أنها في مصحف أبي كذلك بزيادة (فكيف أظهركم عليها) وفي بعض القراءات بزيادة (فكيف أظهرها لكم) وفي مصحف عبد الله ابن مسعود بزيادة (فكيف يعلمها مخلوق) كما نقله الألوسي وغيره.
الوجه الثاني: أن معنى الآية أكاد أخفيها أي أخفي الأخبار بأنها آتية والمعنى أقرب أن أترك الأخبار عن إتيانها من أصله لشدة إخفائي لتعيين وقت إتيانها.
الوجه الثالث: أن الهمزة في قوله: (أخفيها) هي همزة السلب لأن العرب كثيرا ما تجعل الهمزة أداة لسلب الفعل كقولهم شكا إلي فلان فأشكيته أي أزلت شكايته وقولهم عقل البعير فأعقلته أي أزلت عقاله وعلى هذا فالمعنى أكاد أخفيها أي أزيل خفاءها بأن أظهرها لقرب وقتها كما قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. الآية. وهذا القول مروي عن أبي علي كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ونقله النيسابوري في تفسيره عن أبي الفتح الموصلي ومنه قول امرئ القيس ابن عابس الكندي:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه *** وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
على رواية ضم النون من لا نخفه وقد نقل ابن جرير في تفسير هذه الآية عن معمر بن المثنى أنه قال: أنشدنيه أبو الخطاب عن أهله في بلده بضم النون من لا نخفه ومعناه لا نظهره أما على الرواية المشهورة بفتح النون من لا نخفه فلا شاهد في البيت إلا على قراءة من قرأ أكاد أخفيها بفتح الهمزة وممن قرأ بذلك أبو الدرداء وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وحميد وروي مثل ذلك عن ابن كثير وعاصم وإطلاق خفاه يخفيه بفتح الياء بمعنى أظهره إطلاق مشهور صحيح إلا أن القراءة به لا تخلو من شذوذ ومنه البيت المذكور على رواية فتح النون وقول كعب بن زهير أو غيره:
داب شهرين ثم شهرا دميكا *** باريكين يخفيان غميرا
أي يظهرانه. وقول امرئ القيس:
خفاهن من إنفاقهن كأنما *** خفاهن ودق من عشى مجلب
الوجه الرابع: أن خبر كاد محذوف والمعنى على هذا القول أن الساعة آتية أكاد أظهرها فحذف الخبر ثم ابتدأ الكلام بقوله: {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}, ونظير ذلك من كلام العرب قول ضابئي ابن الحرث البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني *** تركت على عثمان تبكي حلائله
يعني وكدت أفعل.
الوجه الخامس: أن كاد تأتي بمعنى أراد وعليه فمعنى أكاد أخفيها أريد أن أخفيها وإلى هذا القول ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم كما نقله عنهم الألوسي وغيره قال ابن جني في المحتسب ومن مجيء كاد بمعنى أراد قول الشاعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة *** لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
كما نقله عنه الألوسي. وقال بعض العلماء أن من مجيء كاد بمعنى أراد قوله تعالى: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي أردنا له كما ذكره النيسابوري وغيره ومنه قول العرب لا أفعل كذا ولا أكاد أي لا أريد كما نقله بعضهم.
الوجه السادس: أن كاد من الله تدل على الوجوب كما دلت عليه عسى في كلامه تعالى نحو {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} أي هو قريب وعلى هذا فمعنى أكاد أخفيها أنا أخفيها.
الوجه السابع: أن كاد صلة وعليه فالمعنى أن الساعة آتية أخفيها لتجزى الآية. واستدل قائل هذا القول بقول زيد الخيل:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه ***فما أن يكاد قرنه يتنفس
أي فما يتنفس قرنه. قالوا: ومن هذا القبيل قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي لم يرها وقول ذي الرمة:
إذا غير النأي المحبين لم يكد *** رسيس الهوى من حب مية يبرج
أي لم يبرح على قول هذا القائل, قالوا ومن هذا المعنى قول أبي النجم:
وإن أتاك نعي فاندبن أبا *** قد كاد يطلع الأعداء والخطبا
أي قد اطلع الأعداء.
وقد قدمنا أن أرجح الأقوال الأول والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي, يَفْقَهُوا قَوْلِي} لا يخفى أنه من سؤل موسى الذي قال له ربه أنه آتاه إياه بقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وذلك صريح في حل العقدة من لسانه, وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على بقاء شيء من الذي كان بلسانه كقوله تعالى عن فرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}.
وقوله تعالى عن موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ}. الآية.
والجواب أن موسى- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لم يسأل زوال ما كان بلسانه بالكلية وإنما سأل زوال القدر المانع من أن يفقهوا قوله كما يدل عليه قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي}. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} ما نصه: وما سأل أن يزول ذلك بالكلية بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ولو سأل الجميع لزال, ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ولهذا بقيت بقية, قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} أي يفصح بالكلام. قال الحسن البصري: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} قال:" حل عقدة واحدة ولو سأل أكثر من ذلك أعطى" وقال ابن عباس:" شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه؛ فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون ردءا له ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فأتاه سؤله فحل عقدة من لسانه", وقال ابن أبي حاتم: "ذكر عن عمر بن عثمان حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال: أتاه ذو قرابة له فقال له: ما بك بأس لو لا أنك تلحن في كلامك ولست تعرب في قراءتك فقال القرظي: يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك؟ قال نعم, قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل قوله ولم يزد عليها". انتهى كلام ابن كثير بلفظه وقد نقل فيه عن الحسن البصري وابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ما ذكرنا من الجواب ويمكن أن يجاب أيضا بأن فرعون كذب عليه في قوله: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} كما كذب على الله في إدعاء الربوبية وأن قوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} يدل على اشتراكه مع هارون في الفصاحة فكلاهما فصيح إلا أن هارون أفصح وعليه فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.