(سورة النور)
قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
هذه الآية الكريمة تدل على تحريم نكاح الزواني والزناة على الإعفاء والعفائف ويدل لذلك قوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} ...الآية، وقوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} الآية وقد جاءت آيات أُخر تدل بعمومها على خلاف ذلك؛ كقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}.
والجواب على هذا مختلف فيه اختلافاً مَبْنِياً على الاختلاف في حكم تزوج العفيف للزانية أو العفيفة للزاني؛ فمن يقول (هو حرام) يقول: هذه الآية مخصصة لعموم وأنكحوا الأيامى منكم وعموم وأحل لكم ما وراء ذلكم.
والذين يقولون بـ(عدم المنع) وهم الأكثر أجابوا بأجوبة:
منها أنها منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}، واقتصر صاحب الإتقان على النسخ، وممن قال بالنسخ سعيد بن المسيب والشافعي.
ومنها أن النكاح في هذه الآية: (الوطء) وعليه فالمراد بالآية أن الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلاّ زانية مثله أو مشركة لا ترى حرمة الزنا.
ومنها أن هذا خاص؛ لأنه كان في نسوة بغايا كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا؛ لأن ذلك هو سبب نزول الآية. فزعم بعضهم أنها مختصة بذلك السبب بدليل قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ}... الآية، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى}... الآية، وهذا أضعفها والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَات}.
هذه الآية الكريمة نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مما رميت به، وذلك يؤيد ما قاله عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم من أن معناها: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء؛ أي فلو كانت عائشة -رضي الله عنها- غير طيبة لما جعلها الله زوجة لأطيب الطيبين صلوات الله وسلامه وعلى هذا فالآية الكريمة يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} إلى قوله {مَعَ الدَّاخِلِينَ}، وقوله أيضاً {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْن}...الآية؛ إذ الآية الأولى دلت على خبث الزوجتين الكافرتين مع أن زوجيهما من أطيب الطيبين وهما: نوح ولوط -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-، والآية الثانية دلت على طيب امرأة فرعون مع خبث زوجها.
والجواب أن في معنى الآية وجهين للعلماء:
الأول: -وبه قال ابن عباس وروى عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك، كما نقله عنهم ابن كثير واختاره ابن جرير- أن معناها الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول والطيبات من القول للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من القول؛ أي فما نسبة أهل النفاق إلى عائشة من كلام خبيث هم أوْلى به وهي أوْلى بالبراءة والنَّزاهة منهم؛ ولذا قال تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُون} وعلى هذا الوجه فلا تعارض أصلاً بين الآيات.
الوجه الثاني: هو ما قدمنا عن عبد الرحمن بن زيد، وعليه فالإشكال ظاهر بين الآيات. والذي يظهر لمقيده -عفا الله عنه- أن قوله الخبيثاث للخبيثين إلى آخره على هذا القول من العام المخصوص بدليل امرأة نوح ولوط وامرأة فرعون وعليه فالغالب تقييض كل من الطيبات والطيبين والخبيثات والخبيثين لجنسه وشكله الملائم له في الخبث أو الطيب مع أنه تعالى ربما قيض خبيثة لطيب كامرأة نوح ولوط أو طيبة لخبيث كامرأة فرعون لحكمة بالغة كما دل عليه قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} مع قوله {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} فدل ذلك على أن تقييض الخبيثة للطيب أو الطيبة للخبيث فيه حكمة لا يعقلها إلا العلماء؛ وهي: في تقييض الخبيثة للطيب أن يُبَيِّن للناس أن القرابة من الصالحين لا تنفع الإنسان وإنما ينفعه عمله ألا ترى أن أعظم ما يدافع عنه الإنسان زوجته وأكرم الخلق على الله رسله فدخول امرأة نوح وامرأة لوط النار كما قال تعالى: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}. فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن الاغترار بالقرابة من الصالحين والإعلام بأن الإنسان إنما ينفعه عمله ليس {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}... الآية كما أن دخول امرأة فرعون الجنة يعلم منه الإنسان إذا دعته الضرورة لمخالطة الكفار من غير اختياره وأحسن عمله وصبر على القيام بدينه أنه يدخل الجنة ولا يضره خبث الذين يخالطهم ويعاشرهم فالخبيث خبيث وإن خالط الصالحين كامرأة نوح ولوط والطيب طيب وإن خالط الأشرار كامرأة فرعون، ولكن مخالطة الأشرار لا تجوز اختياراً كما دلت عليه أدلة أخر.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من أن الضمير في قوله جاءه يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء؛ لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين فلا تدرك إلا بادراكهما، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء ومفعول به واقع عليه المجيء وقوله تعالى {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى: {جَاءَهُ} والجواب عن هذا من وجهين ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية؛ قال: فإن قال قائل: وكيف قيل {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} فإن لم يكن السراب شيئاً فعلام دخلت الهاء في قوله {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ ؟.} قيل إنه شيء يُرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفاً من بعيد والهباء، فإذا قرب منه دق وصار كالهواء وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئاً فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه انتهى منه بلفظه.
والوجه الأول أظهر عندي وعنده بدليل قوله: وقد يحتمل أن يكون معناه الخ...
قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ}. هذه الآية الكريمة تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- له الإذن لمن شاء وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية يوهم خلاف ذلك.
والجواب الظاهر وهو أنه -صلى الله عليه وسلم- له الإذن لمن شاء من أصحابه الذين كانوا معه على أمر جامع كصلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك كما بينه تعالى بقوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُم}. وأما الإذن في خصوص التخلف عن الجهاد فهو الذي بَيَّن اللهُ لرسوله أن الأوْلى فيه ألا يبادر بالإذن حتى يتبين له الصادق في عذره من الكاذب وذلك في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}. فظهر أن لا منافاة بين الآيات والعلم عند الله.
(سورة الفرقان)
قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}.
هذه الآية الكريمة تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار؛ لأن المقيل: القيلولة أو مكانها؛ وهي: الاستراحة نصف النهار في الحر، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار: ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وابن جبير؛ لدلالة هذه الآية على ذلك كما نقله عنهم ابن كثير وغيره، وفي تفسير الجلالين ما نصه: وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار كما ورد في حديث انتهى منه مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى: {إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} والظاهر في الجواب أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك وقوله تعالى:{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} يدل بمفهومه أيضاً على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى : {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيداً الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنهم يتقلبون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس وذلك قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ونقله عنه ابن كثير في تفسيره، ومن المعلوم أن السرور يقصر به الزمن، والكروب والهموم سبب لطوله كما قال أبو سفيان بن الحارث يرثي النبي صلى الله عليه وسلم:
أرقت فبات ليلي لا يزول ***وليل أخي المصيبة فيه طول
وقال الآخر:
فقصارهن مع الهموم طويلة*** وطوالهن مع السرور قصار
ولقد أجاد من قال:
ليلي وليلي نفى نومي اختلافهما *** في الطول والطول، طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت *** بالطول ليلي وإن جادت به بخلا
ومثل هذا كثير في كلام العرب جداً. وأما على قول من فسر المقيل بأنه المأوى والمنزل كقتادة رحمه الله فلا تعارض بين الآيتين أصلاً؛ لأن المعنى على هذا القول أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مأوى ومنزلاً والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}... الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يجزون غرفة واحدة وقد جاءت آيات أُخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} وكقوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}. والجواب:
- أن الغرفة هنا بمعنى الغرف كما تقدم مستوفي بشواهده في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُن}... الآية.
- وقيل إن المراد بالغرفة: الدرجة العليا في الجنة وعليه فلا إشكال.
- وقيل الغرفة الجنة سميت غرفة لارتفاعها.