قوله تعالى:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ} الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يسأل أمته أجرا على تبليغ ما جاءهم به من خير الدنيا والآخرة. ونظيرها قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} في سورة الطور والقلم. وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}. وعدم طلب الأجرة على التبليغ هو شأن الرسل كلِّهم عليهم صلوات الله وسلامه كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} وقال تعالى في سورة الشعراء: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وقال في سورة هود عن نوح: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية. وقال فيها أيضا عن هود: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} الآية. وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
اعلم أولا أن في قوله تعالى: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أربعة أقوال.
الأول: ورواه الشعبي وغيره عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم كما نقله عنهم ابن جرير وغيره أن معنى الآية {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذي الناس كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم. وكان صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ لأنه مبذول لكل أحد لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن أجرا على التبليغ لأنه لم يؤمن وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر تحقق أنه لا يسأل أجرا كقول النابغة:
بهن فلول من قراع الكتائب ***ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم وهذا القول هو الصحيح في الآية واختاره ابن جرير وعليه فلا إشكال.
الثاني: أن معنى الآية {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسن وعليه فلا إشكال أيضا لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم وأحرى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وفي الحديث: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا. وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين تبين أنه غير عوض عن التبليغ وقال بعض العلماء: الاستثناء منقطع على كلا القولين، وعليه فلا إشكال. فمعناه على القول الأول لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي فيكم وعلى الثاني لكن أذكركم الله في قرابتي فاحفظوني فيهم.
الثالث: وبه قال الحسن: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي ألا تتوددوا إلى الله وتتقربوا إليه إلا بالطاعة والعمل الصالح وعليه فلا إشكال لأن التقرب إلى الله ليس أجر على التبليغ.
الرابع: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي ألا تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم.ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن القاسم وعليه فلا إشكال لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ فقد علمت الصحيح في تفسير الآية وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال. وأما القول بأن قوله تعالى : {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} منسوخ بقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} فهو ضعيف والعلم عند الله تعالى.
(سورة فاطر)
قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} الضمير في قوله: {عُمُرِهِ} يظهر رجوعه إلى المعمَّر فيشكل معنى الآية لأن المعمَّر والمنقوص من عمره ضدان فيظهر تنافي الضمير ومفسره.
الجواب: أن المراد بالعمَّر هنا جنس المعمَّر الذي هو مطلق الشخص فيصدق بالذي لم ينقص من عمره وبالذي نقص من عمره فصار المعنى: لا يزاد في عمر شخص ولا ينقص من عمر شخص إلا في كتاب الله وهذه المسألة هي المعروفة عند العلماء العربية بمسألة عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر.
قال ابن كثير في تفسيره: "الضمير عائد على الجنس لا على العين لأن طويل العمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره إنما عاد الضمير على الجنس" .انتهى منه.
قوله تعالى: {وَمَكْرَ السَّيِّئ} يدل على أن المكر هنا شيء غير السيئ أضيف إلى السيئ للزوم المغايرة بين المضاف والمضاف إليه. وقوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} يدل على أن المراد بالمكر هنا هو السيئ بعينه لا شيء آخر فالتنافي بين التركيب الإضافي والتركيب التقييدي ظاهر. والذي يظهر والله تعالى أعلم أن التحقيق جواز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلفت الألفاظ لأن المغايرة بين الألفاظ ربما كفت في المغايرة بين المضاف والمضاف إليه كما جزم به ابن جرير في تفسيره في غير هذا الموضع ويشير إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله:
حتما وإلا أتبع الذي ردف ***وإن يكونا مفردين فأضف
وأما قوله:
معنى وأوِّل مُوِهماً إذا ورد ***ولا يضاف اسم لما به اتحد
فالذي يظهر فيه بعد البحث أنه لا حاجة إلى تأويله مع كثرته في القرآن واللغة العربية فالظاهر أنه أسلوب من أساليب العربية بدليل كثرة وروده كقولنا هنا: {وَمَكْرَ السَّيِّئ} والمكر هو السيئ بدليل قوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ} الآية. وكقوله: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ} والدار هي الآخرة وكقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} والشهر هو رمضان على التحقيق. وكقوله: {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} والحبل هو الوريد ونظيره من كلام العرب قول عنترة في معلقته:
بالسيف عن حامي الحقيقة معلم ***ومشك سابغة هتكت فروجها
فأصل المشك بالكسر السير الذي تشد به الدرع ولكن عنترة هنا أراد به نفس الدرع وأضافه إليها كما هو واضح من كلامه لأن الحكم بهتك الفروج واقع على الدرع لا على السير الذي تشد به كما جزم به بعض المحققين وهو ظاهر خلافا لظاهر كلام صاحب تاج العروس فإنه أورد بيت عنترة شاهدا لأن المشك السير الذي تشد به الدرع بل المشك في بيت عنترة هذا على التحقيق هو السابغة وأضيف إليها على ما ذكرنا.وقول امرئ القيس:
غذاؤها نمير الماء غير المحلل ***كبكر المقاناة البياض بصفرة
فالبكر هي المقاناة على التحقيق وأما على ما ذهب إليه ابن مالك فالجواب تأويل المضاف بأن المراد به مسمى المضاف إليه.