بسم الله الرحمن الرحيم
قال رحمه الله تعالى: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ - مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ -: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ. وَلا شَيْءَ مِثْلُهُ، وَلا شَيْءَ يُعْجِزُهُ، وَلا إِلَهَ غَيْرُهُ.
قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ.
لا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ. وَلا يَكُونُ إِلاَّ مَا يُرِيدُ.
لا تَبْلُغُهُالأَوْهَامُ، وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ.
وَلا يُشْبِهُ الأَنَامَ، حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لا يَنَامُ. خَالِقٌ بِلا حَاجَةٍ، رَازِقٌ بِلا مُؤْنَةٍ. مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ).
التعليق:
الحمد لله رب العالمين.وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فتقدم لنا في أول هٰذه العقيدة ما ذكره المؤلف رحمه الله في افتتاحها من ذكر توحيد الله جل وعلا في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ)، وقلنا إن هٰذا فيه إثبات جميع أنواع التوحيد لله رب العالمين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وبينا كل نوع من هٰذه الأنواع.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَلا شَيْءَ مِثْلُهُ). ولا ريب أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، فإن الله جل وعلا الكامل في صفاته، الذي دلت العقول والنصوص على أنه لا نظير له سبحانه وتعالى:
لا مثيل له في ربوبيته.
لا مثيل له في إلهيته.
لا مثيل له في أسمائه وصفاته.
ولذلك نفى الله جل وعلا النظير والمثيل في كتابه بألفاظ متنوعة فقال سبحانه وتعالى: {ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ،([1]) وهٰذا نفيٌ واضح للمثيل. ومنه قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ([2]) فنفى عن نفسه السميّ وهو النظير، المثيل. ونفى أيضاً الند فقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ([3]). ونفى أن يدرك بالأمثال فقال سبحانه وتعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} ([4]). ونفى العديل والكفء فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .([5])
وكل هٰذا لتقرير هٰذا الأمر الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة، ودلّ عليه الكتاب والسنة والعقل، وهو أن الله جل وعلا لا مثيل له، ومهما طلب العقل المثيل للرب فإنه ينحسر ويقف دون إدراك ذلك، بل هو سبحانه وتعالى الذي لا نظير له ولا كفْء ولا سميّ ولا ند له جل وعلا،وهٰذا ليس خاصاً في أسمائه وصفاته فقط، بل في ربوبيته وفي إلهيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ.
فلا مثيل له فيما يتعلق بالربوبية.
ولا مثيل له فيما يتعلق بالأسماء والصفات.
ولا مثيل له فيما يجب له من الحقوق، وهو ما يعرف بتوحيد الإلهية، فلا مثيل له في إلهيته سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله: (وَلا شَيْءَ يُعْجِزُهُ). وهٰذا كالجملة السابقة في أن المؤلف رحمه الله ذكر وصف الله عز وجل بالنفي، النفي المتقدم في قوله: (وَلا شَيْءَ مِثْلُهُ) نفيٌ مجمل، قد دلت على مجيئه في صفات الله عز وجل النصوص من الكتاب والسنة.
والنفي المجمل في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس نفياً وعدماً محضاً، بل هو نفي لإثبات الكمال للرب سبحانه وتعالى، فإنه إذا قال القائل: ليس كمثله شيء. أو قرأ قول الله تعالى: {ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ([6]) كان ذلك مُفهماً ومُعْلماً أنه سبحانه وتعالى الكامل في صفاته، الذي لا يلحقه نقصٌ بوجه من الوجوه، وكذلك النفي في بعض أنواعه وهو النفي التفصيلي، يفيد إثبات الكمال للرب سبحانه وتعالى.
فالنفي في صفات الله عز وجل يرد على نحوين:
يرد نفياً مجملاً كقوله تعالى: {ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ،([7]) كقوله سبحانه وتعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ،([8]) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ([9]) وما أشبه ذلك من النفي المجمل.
ويرد النفي عن أوصاف خاصة، وهو ما يسمى بالنفي التفصيلي أو النفي المفصل، وهٰذا النوع من النفي في صفات الله عز وجل في الكتاب والسنة قليل، ولا يرد إلا لفائدة:
إما أن يكون لإثبات كمال الضد، كما هو في قول المؤلف: (وَلا شَيْءَ يُعْجِزُهُ). فإن نفي الإعجاز عن الرب سبحانه وتعالى في مثل هٰذا إنما هو لإثبات كمال قدرة الله جل وعلا، فلما كملت قدرته سبحانه وتعالى نفى جل وعلا النقص في هٰذه القدرة بنفي العجز، فلا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.
يأتي النفي مفصلاً في صفات الله عز وجل لنفي ما اعتقده الجاهلون في رب العالمين، ومن ذلك قوله جل وعلا: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ،([10]) وكقوله سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ([11]) فهٰذا إثبات لنفي ما تقدم من كلام اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } .([12]) فهنا ليس فيه نفي، لكن نفي معنوي، نفي للمعنى السابق ولكنه بصيغة الإثبات.
المراد أن النفي قد يرد في صفات الله عز وجل ويُراد به نفي ما اعتقده الجاهلون في رب العالمين سبحانه وتعالى، وما وصفه به أهل الإلحاد والكفر وأهل الشرك والتنقص لرب العالمين.
النفي يرد في صفات الله عز وجل ويقصد به نفي النقص فيها، يعني إثبات كمال الصفة، مثال هٰذا ما ذكره الله جل وعلا في أعظم آية من كتابه سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فأثبت الله سبحانه وتعالى في هٰذه الآية الحياة والقيومية له سبحانه وتعالى، ثم نفى فقال: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } ([13]). الغرض من هٰذا النفي هو إثبات كمال الصفة، وأنه لا نقص فيها، أنه لا نقص في صفاته سبحانه وتعالى، فالذي لا تأخذه سنة ولا نوم، إنما اتصف بهٰذا لكمال حياته وكمال قيوميته جل وعلا.
فقول المؤلف رحمه الله: (وَلا شَيْءَ مِثْلُهُ). من أي أنواع النفي: النفي المفصل أو النفي المجمل؟ النفي المجمل؛ لأنه نفي عام، ليس نفياً لصفة خاصة، فنفى المثيل له سبحانه وتعالى.
في قوله: (وَلا شَيْءَ يُعْجِزُهُ) نفي مفصل، وذلك لإثبات كمال قدرته سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله تعالى: (وَلا إِلَهَ غَيْرُهُ) معنى الإله: المعبود المألوه، الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيماً ورقةً.
والإله في الأصل في أصل كلام العرب اسم جنس لما قُصد بشيء من العبادة، الإله في كلام العرب -في أصله- اسم جنس لما قصد بشيء من العبادة، لكنه غلب على الله جل وعلا لأنه المستحق للعبادة، فما سُمي من الآلهة دون الله سبحانه وتعالى إنما هو تسمية خالية من معناها، فإنه لا إله إلا الله، لا معبود حق إلا هو جل وعلا.
وهٰذه الكلمة هي أصل الإسلام وأساسه، ولا يَقَرُّ الإيمان ولا يستقيم الإسلام ولا يصلح حال أحدٍ إلا بهٰذه الكلمة، فبها صلاح الدنيا والآخرة، هي أول مطلوب وآخر مطلوب:
أول مطلوب، فإنه لا يدخل أحد الدين إلا بلا إله إلا الله: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)).([14])
وآخر مطلوب: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إلـٰه إلا الله دخل الجنة)). ([15])
فكانت لا إله إلا الله هي أول المطالب وما يخاطب به الناس، وهي آخر ما يندب الناس إليه ويطلب منهم؛ وذلك لعظم هٰذه الكلمة التي من أجلها أوجد الله جل وعلا الجن والإنس، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ([16]). ولا تتحقق العبادة إلا بالإقرار بأنه لا إله إلا الله، لا إله غيره جل وعلا، والاستقامة على هٰذه الكلمة والعمل بمقتضاها. فإن العبادة كلها مشمولة بهٰذه الكلمة داخلةٌ فيها، ولذلك كان شأنها عظيماً، فإذا قالها الإنسان صادقًا من قلبه حرّمه الله على النار وكان من أهل الجنة.
فقول المؤلف رحمه الله: (وَلا إِلَهَ غَيْرُهُ). فيه إثبات إلهية الرب، فيه إثبات توحيد الإلهية له سبحانه وتعالى، معنى هٰذه الكلمة (لا إله إلا الله): لا معبود حقٌ إلا الله، لا معبود حقٌ إلا الله، لماذا احتجنا إلى تقدير (حق)؟ حتى نخرج المعبودات الباطلة، ولو قلنا: لا معبود إلا الله، لوقعنا في إشكال أنه يعبد غير الله، أليس كذلك؟ ألم يعبدوا الشمس والقمر والأصنام والملائكة والأنبياء؟ عُبدوا من دون الله، فهٰذا القيد ضروري لإخراج كل من عُبد من دون الله وهو باطل.
أيضاً لابد من هٰذا القيد؛ لأن الكلام بدون هٰذا القيد يفهم معنىً باطلاً، وهو أن كل ما عبد من دون الله فهو إله حقٌ؛ يعني إذا قال قائل: لا معبود إلا الله، ماذا تفهم؟ تفهم أن كل من توجه إليه العبادة فهو إله ومعبود.
وهٰذا المعنى هو ما كان يقوله أهل وحدة الوجود الذين جعلوا كل شيء معبوداً من دون الله، فالذي يعبد الصنم إنما يعبد الله، والذي يعبد الشمس إنما يعبد الله، والذي يعبد الملائكة إنما يعبد الله، والذي يعبد الكلاب والخنازير إنما يعبد الله.
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ومنه قول شاعرهم:
وما الله إلا راهب في كنيسةِ |
|
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا |
فجعل كل من يعبد شيئاً من دون الله إنما هو في الحقيقة يعبد الله وهٰذا المعنى باطل.
لكن الذين قالوا: لا إله إلا الله؛ يعني لا معبود إلا الله. ولم يقدّروا بحق، يقيناً أنهم لا يقصدون هٰذا القول، لكن لما كان يترتب على عدم التقدير معنى باطل احتجنا إلى تقدير (حق)، فكلمة (حق) ضرورية لإخراج المعبودات من دون الله، ولنفي ما يعتقده أهل وحدة الوجود من أن كل معبود في الأرض هو الله جل وعلا؛ لأن هؤلاء يعتقدون أن كل شيء تعبده أو كل شيء عبد من دون الله فهو حق، ولا تنكر على عبدة الأصنام، ولا على عبدة الفروج، ولا على عبدة الحيوانات، ولا على عبدة الأحجار؛ لأن هؤلاء إنما يعبدون الله عندهم.
وهٰذا كذب وضلال وتحريف لدين رب العالمين.
طيب، ما الدليل من الكتاب على هٰذا التقدير لا إله حق؟ نعم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} ([17]). وقوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} ([18]). فكل هٰذا يدل على وجوب تقدير (حق)؛ لأن ما عبد من دونه فإنما يعبد من غير حق وبدون استحقاق.
ثم قال رحمه الله: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ). (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ) أي إنه جل وعلا لا بداية له، لا أول له، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، (دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ) هٰذا فيه الخبر عن آخريته سبحانه وتعالى وأنه ليس بعده شيء.
وهٰذان الوصفان في كلام المؤلف رحمه الله مستفادان من قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} ([19]) وهٰذان الاسمان للرب جل وعلا اللذان يتضمنان إثبات وصف الأولية والآخرية يفيدان إثبات معنى واحد للرب جل وعلا وهو الإحاطة الزمنية، فالله جل وعلا قد أحاط بكل شيء زمناً، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء جل وعلا.
ولا ينافي هٰذا أن أهل الجنة يقال لهم: ((خلود بلا موت))([20]).فإن خلودهم إنما هو بإعطاء الله جل وعلا وهبته ومنته، فليس خلودهم ذاتياً، بخلاف آخريته جل وعلا وبقائه، فإنه سبحانه وتعالى وصفٌ له ذاتي ليس مكتسباً من شيء، وهٰذا معنى قول الله جل وعلا: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: ((أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)).([21])
ثم اعلم أن قوله: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ) علق عليه بعض الشرّاح فقالوا: إنه لا يصح تسمية الله بالقديم، وإن ذكر القديم إنما هو على وجه الوصف.
الحقيقة أن الكلام على وجهه، ليس في أسماء الله جل وعلا القديم، ولكن كلام المؤلف ليس فيه ما نحتاج بسببه إلى هٰذا التعليق؛ لأنه لم يقل: (القديم). إنما قال: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ) على وجه الخبر والتفسير لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الأول))، وقول الله عز وجل: {هُوَ الأَوَّلُ} ([22]).
فهو ترجمة وبيان لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الأول الذي ليس قبله شيء)).
وأما لفظة (القديم) فإنها عند أهل الكلام تقابل ما دل عليه الكتاب والسنة من اسمه جل وعلا (الأول)، فإن (القديم) عندهم هو (الأول)، ولذلك عندهم القديم الذي لا بداية له، ويسمونه القِدَم الأزلي؛ يعني الذي لا بداية له.
والتعبير الذي في الكتاب والسنة أفضل، وما تكلّم به الله جل وعلا وما جاء في السنة أكمل وأحسن فيما يتعلق بالخبر عنه.
لكن من القواعد التي ينبغي لنا أن نفهمها فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته أن:
الأسماء توقيفية.
والصفات كذلك توقيفية إلا أنها أوسع من الأسماء.
ثم بعد ذلك يأتي مرتبة ثالثة وهي ما يسمى بالإخبار، الإخبار عن الله عز وجل.
الإخبار عنه جل وعلا أوسع من الصفات، فتخبر عنه بما لم يأتِ له ذِكر في الكتاب والسنة، فتقول: يصنع الله كذا، لا بأس، فالأخبار أمرها واسع، تقول: هو قديم جل وعلا وتقصد بالقديم أنه المتقدم على غيره الذي ليس قبله شيء.
لكن فيما يتعلق بالأسماء وفيما يتعلق بالصفات لا بد من النص الدال على الاسم وعلى الصفة.
فقوله: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ) هٰذا معنى ما ذكره الله عز وجل في اسمه الأول.
كذلك: (دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ) أي إنه لا نهاية له، فهو الآخر جل وعلا الذي ليس بعده شيء.
ثم قال رحمه الله: (لا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ) الفناء هو الهلاك، (وَلا يَبِيدُ) البيد هو الانقطاع والانتهاء، وهو قريب من معنى الفناء، فنفى المؤلف رحمه الله عن الله جل وعلا هذين الوصفين، ونفي هذين الوصفين دل عليه قول الله جل وعلا: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ([23]). فأثبت لنفسه سبحانه وتعالى الحياة وهي البقاء الدائم ثم قال: {الَّذِي لا يَمُوتُ} . وهٰذه الصفة اختص الله جل وعلا بها دون غيره، فإن حياته حياة كاملة لا تنقضي ولا تنقطع، وأما ما عداه فإنه يهلك: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} ([24]). وقد قال الله جل وعلا فيمن هم على الأرض: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام} ([25]). فبقاء الله جل وعلا دائم بلا انتهاء، فقوله: (لا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ) تأكيد لمعنى قوله: (دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ)، ويدل عليه قوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . ويدل عليه أيضاً التأكيد لهذين الوصفين في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } . ([26])
ثم قال رحمه الله: (وَلا يَكُونُ إِلاَّ مَا يُرِيدُ). هٰذا فيه إثبات الإرادة لله جل وعلا، والإرادة ثابتة له سبحانه وتعالى بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولذلك الإرادة من الصفات التي يثبتها من يعتمد العقل في إثبات الصفات، وهم مثبتة الصفات كالأشاعرة والماتريدية والكلابية.
فالإرادة صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى بالكتاب والسنة والإجماع والعقل.
اعلم أن الإرادة الثابتة لله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين:
إرادة دينية شرعية أمرية.
وإرادة كونية خلقية قدرية.
يعني تسمى إرادة أمرية، ويسمونها إرادة شرعية، يسمونها إرادة دينية، وهي شيء واحد، والمراد بالإرادة الدينية، هو كل ما أمر الله سبحانه وتعالى به عباده من الطاعات الواجبة والمستحبة، يعني كل المأمورات التي أمر الله بها جل وعلا على وجه التعبد.
وهٰذا النوع من الإرادة يتعلق بمحبته ورضاه جل وعلا، فلا يأمر جل وعلا شرعاً إلا بما يحب، ولا يأمر شرعاً إلا بما يرضى.
الوصف الثاني الذي يختص به هٰذا النوع من الإرادة: أنه غير لازم الوقوع، قد يقع وقد لا يقع، الإرادة الشرعية قد تقع وقد لا تقع.
الله جل وعلا أراد من الخلق العبادة أليس كذلك؟ ما الدليل؟ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ([27]).هل هٰذا تحقق من الخلق؟ لم يتحقق من جميعهم، ولو كان المراد هنا مراداً كوناً وقدراً لكان لابد أن يقع؛ لكنه مرادٌ ومحبوبٌ له سبحانه وتعالى شرعاً، فكان غير لازم الوقوع.
القسم الثاني من الإرادة: الإرادة الكونية الخلْقية القدرية، وهٰذا هو الذي يصدر عنه كل ما يقع في الكون، فالإرادة الخلقية القدرية الكونية هي المشيئة في الحقيقة، هي مشيئة الله جل وعلا التي عنها يصدر كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قول المسلمين: ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. هٰذا هو الإرادة الكونية، فكل ما وقع في الكون من خيرٍ أو شر، من برٍ أو معصية، مما يحبه الله أو يكرهه، مما يرضاه ومما لا يرضاه: الإيمان والكفر، الطاعة والمعصية، الاستقامة والغي، كل هٰذا داخل في الإرادة الكونية.
عرفنا من هٰذا أن الإرادة الكونية تختلف عن الإرادة الشرعية في أي شيء؟ في أنها لا تتعلق بالمحبة والرضا.
الفرق الثاني: أن الإرادة الكونية لا بد أن تقع، فما أراده الله كوناً لا بد أن يقع، لا محالة من وقوعه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ما شاء وجد وما لم يشأه لم يوجد.
هٰذا الذي يميز الإرادة الكونية عن الإرادة الشرعية.
اعلم أن هٰذا التفريق اليسير الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة انطمس على كثيرٍ من أهل الكلام، فلم يميزوا بين نوعي الإرادة، بل عندهم الإرادة شيء واحد، فلا فرق عندهم بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وهٰذا الانطماس للتفريق وعدم التمييز بين النوعين -بين نوعي الإرادة- أوقعهم في أنواع من الضلالات: فيما يتعلق بالقدر، وفيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأشياء كثيرة.
نضرب مثالاً للإرادة الشرعية من كلام الله عز وجل، من أمثلة الإرادة الشرعية قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ([28]).الإرادة هنا شرعية أو كونية؟ شرعية.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ([29]). {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ([30]).كل هٰذه الإرادات إرادات شرعية، غير لازمة الوقوع، قد لا يتوب الله عز وجل على بعض من عصاه، إنما هو يريد التوبة، إرادة شرعية يحبها ويرضاها؛ لكن قد لا تقع من العبد.
النوع الثاني من الإرادة: الإرادة الكونية، مثاله قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} ([31]). ومثاله أيضاً قول الله تعالى فيما ذكره عن نوح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ([32]). الإرادة هنا إرادة الإغواء هل هي مما يحبه الله ويرضاه؟ لا. إنما هي من مقتضى حكمته جل وعلا فهي من الإرادة الكونية.
الذين لا يفرقون بين نوعي الإرادة يجعلون جميع الإرادة متعلقة بالمحبة، فكل ما أراده الله سبحانه وتعالى فهو محبوب له، كلّ ما وقع فهو محبوب له، وعلى هٰذا فإن الزنى محبوب له -أعوذ بالله- لماذا؟ لأنه وقع، أراده ووقع، ولو لم يرده ويحبه لما وقع.
لكنهم ضلوا بعدم التمييز بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية.
هؤلاء الذين يقولون:إن كل ما يقع محبوب له هم الجبرية الجهمية.
يقابلهم القدرية الذين يقولون: إن الله جل وعلا لم يرد الزنى من الزاني، فهو واقع من غير إرادته جل وعلا.
وهؤلاء كذبوا على الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا لا يقع شيء في الكون إلا بإرادته، فما من حركةٍ ولا سكون ولا ذهاب ولا إياب ولا قيام ولا قعود إلا بإرادة الله جل وعلا، ولا معصية ولا طاعة إلا بإرادته جل وعلا، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ([33]). فكل ما في الكون هو بإرادته جل وعلا، لكن هؤلاء قالوا: إنه ليس مراداً لله لأنه ليس محبوباً له، والله لا يريد إلا ما يحب، فأخرجوا المعاصي عن إرادة الله جل وعلا.
ولذلك قال أحدهم كلمة يعني ظاهرها التعظيم لله جل وعلا، وباطنها التعطيل لصفة الإرادة، قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء. كلمة جيدة أليس كذلك؟ فلما فهمها العالم السلفي قال له: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء. لأن هٰذا مراده أن الزنى والسرقة وما يكون من المخالفات إنما هي من غير إرادة الله، ما أرادها الله، ولذلك هو متنزه عن الفحشاء إرادةً، فردّ عليه العالم السلفي، فقال: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء.
وأيهما أبلغ تعظيماً؟ الثاني لا إشكال؛ لأن فيه تمام الملك والتصرف من رب العالمين، وأنه لا يقع في ملكه إلا ما يشاء جل وعلا، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. المهم أن هٰذه القضية الواضحة التي دل عليها الكتاب والسنة وهي من أجلى ما يكون لمن سلم من الشبهات والخيالات الفاسدة والظنون الكاذبة، هي ملتبسة على أصحاب الأهواء من أهل الكلام، حيث جعلوا الإرادة بنوعيها نوعاً واحداً، ففسروا الإرادة بأي شيء يا إخوان؟ بالمحبة، فما شاءه الله فهو محبوب له، وهٰذا يستوي فيه القدرية الجبرية.
الجبرية يوسعون ويقولون: كل ما وقع فهو محبوب له.
ويقابلهم من؟ القدرية الذين يخرجون عن إرادة الله عز وجل المعاصي، فيقولون: المعاصي ليست مرادة له سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله: (لا تَبْلُغُهُ الأَوْهَامُ، وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ). (لا تَبْلُغُهُ) أي لا تطاله جل وعلا، (الأَوْهَامُ): يعني الأفكار والخيالات والظنون، فمهما كدّ الإنسان ذهنه، وأعمل فكره، وشغّل عقله، في التوصل لصفات الله عز وجل وما له من الكمال فإنه يعود منكسراً حسيراً لا يصل إلى شيء؛ لأنه جل وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ([34]). فإذا كان (ليس كمثله شيء) فمهما وقع في بالك أو خطر في ذهنك أو دار في خاطرك، فاعلم أن الله ليس كذلك؛ لأنه جل وعلا (ليس كمثله شيء).
والعباد لا يمكن أن يحيطوا بصفة من صفاته فكيف به جل وعلا؟ قال الله جل وعلا في صفة العلم وهي من صفاته، قال سبحانه وتعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} ([35]). هٰذا في صفة من صفاته، {بِشَيْءٍ} بجزء يسير من علمه، فكيف به؟ فنفى الله جل وعلا الإحاطة بصفة من صفاته، ونفى الإحاطة به فقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} .([36])
ثم اعلم أن الله جل وعلا- لكماله وعظيم ما يتصف به- لا يدركه الإنسان، حتى إذا نظر إليه، -نسأل الله أن نكون من أهل النظر إليه- فإنه إذا نظر الإنسان إلى ربه يوم القيامة، هٰذا النظر لا يحصل به الإدراك، كما قال الله جل وعلا: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ([37]). بل إنّ مثلاً قائماً وهو هٰذه السماوات، لو أراد الإنسان أن يحيط بها لما استطاع، ولذلك قال الله جل وعلا: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} ([38]). لا يمكن أن يدرك عظم هٰذا الخلق العظيم والبناء الكبير وهو مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا، فكيف به سبحانه وتعالى؟ فهو جل وعلا: (لا تَبْلُغُهُ الأَوْهَامُ).
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يقطع الوساوس وأن يقطع الطريق على الشيطان بأن يذكر قول الله جل وعلا إذا ورد عليه خاطر أو ما أشبه ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ([39]) فيُريح باله، ويهنأ فؤاده ويطمئن قلبه، ويسلم من كثير مما يصطلي به أصحاب الوساوس والأفكار.
قال: (وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ). أي لا تحيط به الأفهام، وهٰذا مستفادٌ من الآيات التي ذكرناها في قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ([40])، ومن قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} ([41])،ومن قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} .([42])
كيف نستدل بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ([43]) على أنه لا تدركه الأفهام؟
هنا ما قال: (لا تدركه الأبصار)، قال: (وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ). نقول: إن قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يدل على صحة قوله: (وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ)؛ لأنه أيهما أسهل في الإدراك: إدراك البصر أو إدراك العقل؟ إدراك البصر، فإذا كان البصر مع سهولته ويسر حصول المطلوب من طريقه لا يحصل فيما يتعلق بالله عز وجل وصفاته، فكيف بما هو أصعب وهو إدراك الأفهام؟
فإذا كانت لا تدركه الأبصار مع سهولة إدراك البصر فإدراك الأفهام من باب أولى.
ثم قال رحمه الله: (وَلا يُشْبِهُ الأَنَامَ). ونقف على قوله: (وَلا يُشْبِهُ الأَنَامَ).
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
([14]) البخاري: كتاب الإيمان، باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة:5]، حديث رقم (25).
مسلم: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إلـٰه إلا الله محمد رسول الله..، حديث رقم (22).
([17]) سورة : الحج:(6).، وأيضا في {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(62)} [الحج:62]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(30)} [لقمان:30].