بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ فَغَيٌّ وَهَوًى. وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ، وَكَافَّةِ الْوَرَى، بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ).
التعليق:
قال المؤلف رحمه الله في تكميل ما يتعلق بتقرير رسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ) أي وكل ادّعاء للنبوة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فَغَيٌّ وَهَوًى)، وصفها المؤلف رحمه الله بوصفين: (غَيٌّ وَهَوًى).
والغي هو الجهل عن اعتقاد فاسد، فادعاء النبوة بعد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم جهل ناشئ عن اعتقاد فاسد، وهو أنه تجوز النبوة بعده صلى الله عليه وسلم.
وقول المؤلف رحمه الله: (وَهَوًى) أي واتباع للهوى، وهو ما تشتهيه النفس وتميل إليه، فالهوى مأخوذ من هوِي يهوى، إذا مال إلى الشيء والتذ به وانجذب إليه.
فكل من ادعى النبوة بعد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدعواه لا تخرج عن هذين:
عن كونها جهلاً ناشئاً عن اعتقاد فاسد.
أو اتباعاً للهوى.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم.....(هنا نقص في الأصل) النار نعوذ بالله من الخذلان، وهٰذا يوجب على كل أحد يبلغه خبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يوجب عليه أن يتبعه وأن ينقاد له وأن يشهد له بالرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومما يدل على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمره بمخاطبة اليهود والنصارى، وهم بقية الأمم من الأمم السابقة الذين معهم كتب، وخاطبهم صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالاستجابة إليه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ([1]). فكل من لم يأتِ بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الإقرار له بالرسالة فهو كافر بالله العظيم، وما يدعيه أهل الكتاب من أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب أو خاصة بالأميين فهو كذب وضلال، وإنما هو في الحقيقة طعن وتكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم، فأهل الكتاب الذين يقولون: نحن نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم -بالنبي محمد-، لكنه خاص بالعرب، بالأميين، هؤلاء كاذبون مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر وهو لا ينطق عن الهوى، أخبر بعموم رسالته.
وإنما نحتاج إلى تقرير هٰذا حتى نرد على الذين يقولون في هٰذه الأزمان المتأخرة: اليهود على حق والنصارى على حق، ويسوون بين أهل الإسلام وغيرهم من أهل الكتاب.
ولا سواء، فهؤلاء يؤمنون بالله الواحد القهار الذي لا إله غيره، ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وبما جاء به، وأولئك يكذبون بالأصلين:
فهم يشركون بالله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ} ([2])، ويكذبون النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: إنما بعث للعرب خاصة وليس لعموم الناس.
وأما عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للجن فذلك مستفاد من سورة الجن، فإن سورة الجن ظاهرة والدلالة فيها من مواضع عديدة على أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم، ويدل لذلك أيضاً ما ذكره الله جل وعلا في سورة الأحقاف حيث قال سبحانه وتعالى : {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ} أي قضي قراءة القرآن وقضي سماعـه {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} ([3]) منذرين بأي شيء؟ بما سمعوه وما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا لما ولوا إلى قومهم منذرين بين وجه الإنذار {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} ([4]). وهٰذا يدل على أنهم كانوا متعبدين أو أن منهم من كان يعبد الله بشريعة موسى. {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} ([5]) فهٰذا فيه وجوب اتباع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ،ووجوب الانقياد لما سمعوه من القرآن العظيم.
ولا ريب أن الجن مخاطبون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هٰذا دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولا خلاف بينهم في أن الجن مخاطبون بدعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فرغ المؤلف رحمه الله من تقرير هٰذا الأصل، ثم انتقل إلى تقرير ما يتعلق بالقرآن، لكن قبل ذلك ذكر المؤلف رحمه الله شيئاً من أوصاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ). وهٰذا وصف مطابق لفظاً ومعنىً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالهدى ودين الحق، بعثه بالنور والضياء، الحق في القول والعمل، الهدى في القول والعمل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} .([6]) {الْهُدَى} العلم النافع {وَدِينِ الْحَقِّ} العمل الصالح، فبعث الله عزوجل رسوله بالحق في الأقوال والأعمال والهدى في العلم والاعتقاد.
وقد أثبت الله جل وعلا لرسوله هٰذا الوصف، فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ([7]). الله أكبر، فجعل الله النبي صلى الله عليه وسلم هادياً إلى صراط مستقيم.
وأثبت له الثبات والاستقرار والاستعلاء والتمكن من الصراط المستقيم فقال: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} ([8]). وانظر كيف أتى بحرف (على) الذي يفيد الاستعلاء والتمكن والاستقرار، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت قدمه على الصراط المستقيم، ثبتت ثباتاً متمكناً عالياً لا زوال له، وكل من سار على طريقه وأخذ بهديه واتبع سنته فإنه موافق له، وله نصيب من هٰذا الوصف المذكور: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} ([9]). ثم قال: (وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ). أي ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم نور وضياء، ولا ريب أن ما جاء به نور وضياء: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} ([10]). من أهم وأخص ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور، فالله عزوجل أخرج أهل الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الهدى والنور، أخرجهم من ظلمات الجهالات والتعاسات والشقاء في الدنيا إلى نور السعادة والعلم والعبادة في الدنيا قبل الآخرة. أما الآخرة فإنها نور ولا إشكال فيه؛ لأن أهل الإيمان يأتون تضيء لهم أعمالهم على قدر استمساكهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فبقدر ما مع الإنسان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم عقداً وعملاً بقدر ما يكون له من النور يوم القيامة.
فما الفرق بين النور والضياء؟ من حيث دلالة المعنى: المعنى متقارب، لكن الفرق بين النور والضياء:
أن النور ضياء، أن النور نور لا حرارة فيه.
وأما الضياء فإنه نور مع حرارة.
قال الله جل وعلا إيش؟: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} ([11]). هل بينهما فرق؟ نعم بينهما فرق: الشمس إضاءة ونور مع حرارة، والقمر نور لا حرارة فيه، وهكذا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فمنه ما هو نور لا حرارة فيه، ومنه ما فيه حرارة، لكنها حرارة تعقب سعادة ولذة وطمأنينة.
قال بعد هٰذا في تقرير ما جاء عن أهل السنة والجماعة، قال في مسائل القرآن: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ).
(وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ، مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} ([12])، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: {إِنْ هٰذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} ([13])، عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ).
هٰذا الكلام من أنفس ما في هٰذه العقيدة من تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة في هٰذه الصفة العظيمة، صفة الكلام لله رب العالمين.
والكلام صفة ذاتية للرب جل وعلا يُثبتها أهل السنة والجماعة بالكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل، فإنها صفة دل عليها العقل، ولذلك أثبتها مثبتة الصفات.
وإذا رأيتم في كلام العلماء مثبتة الصفات فالمراد بهم من يثبت بعض الصفات وينكر بعضاً كالأشاعرة والكلابية والماتريدية وأشباههم، فهؤلاء يثبتون شيئاً من الصفات وينكرون شيئاً من الصفات.
فمثبتة الصفات يثبتون لله عزوجل صفة الكلام؛ لأنها صفة كمال دل عليها العقل، والكلام ذكرنا أنه صفة ذاتية، فلم يزل ولا يزال الله جل وعلا متصفاً بالكلام، يتكلم أزلاً وأبداً كيف شاء جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} ([14]) جل وعلا. فهو سبحانه وتعالى متكلم، ومن عطّل الله جل وعلا عن هٰذه الصفة وقال: إنه لا يتكلم. فقد افترى إثماً عظيماً على الرب جل وعلا، وأثبت له نقصاً كبيراً، فإن من دلائل ألوهية الله عزوجل واستحقاقه العبادة أنه سبحانه وتعالى متكلم، ولذلك لما احتج إبراهيم عليه السلام على من عبد غير الله، احتج عليهم بأنهم لا يتكلمون، وذلك في قوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} ([15]). فاحتج بها إبراهيم عليه السلام كذلك موسى -عليه السلام -في قول موسى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} ([16])- على إبطال عبادة الأصنام وعلى إبطال عبادة العجل بأنهم لا يتكلمون ولا يرجعون إليهم قولاً.
فكل من وصف الله عزوجل بأنه لا يتكلم فقد عطّل الله جل وعلا عن صفة من الصفات الموجبة لإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى . ثم اعلم أن مسألة تعطيل الله جل وعلا عن صفة الكلام لها اتصال بالإيمان بالله، واتصال بالإيمان بالكتب، واتصال بالإيمان بالرسل، ولذلك كان الإخلال بهٰذه الصفة خللاً في جميع أنواع هٰذا التوحيد وهٰذه الأصول: الإيمان بالله، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل:
فإن الكتب كلام الله، والرسل أخبروا عن قول الله، والله جل وعلا متصف بالكلام، فمن قال: إنه لا يتكلم. فقد كذّب الرسل فيما أخبروا به عن رب العالمين. ولم يحقق الإيمان بالكتب؛ لأن الكتب كلام الله، وهو يعتقد أن الله جل وعلا لا كلام له. الثالث قدح في الإيمان بالله ونقص في الإيمان به. ولذلك قال الشيخ رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: وَمِنَ الإِيمَانِ باللهِ وَكُتُبِهِ ورسله الإيمانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ. فجعل الإيمان بأن القرآن كلام الله من تمام الإيمان بالله، من تمام الإيمان بالكتب، من تمام الإيمان بالرسل.
ولذلك كان التعطيل لهٰذه الصفة تعطيلاً لأنواع من التوحيد وإخلالاً بعدة أصول من أصول الإيمان: الإيمان بالله، الإيمان بالكتب، الإيمان بالرسل .
قال المؤلف رحمه الله: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ). المؤلف رحمه الله لم يناقش قولهم في صفة الكلام، إنما ناقش قولهم في القرآن، فقرر ما يعتقده أهل السنة والجماعة في القرآن؛ لأن القرآن أشرف كلام الله عزوجل ، فأشرف كلام الله جل وعلا القرآن، فالقرآن أعظم ما تكلم الله به سبحانه وتعالى ، فجعل الكلام منصبّاً ومتوجهاً إلى هٰذا الأصل العظيم، فإذا ثبت فغيره تابع له.
واعلم أن كلام الله جل وعلا ينقسم إلى قسمين:
كلام خَلْقِي قدري كوني.
وكلام شرعي ديني أمري.
الكلام الخلقي القدري الكوني هو الذي يصدر عنه كل شيء في هٰذا الكون، ولا حد له ولا حصر، وهٰذا الكلام هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في تعوذه: ((أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر و لا فاجر)) ([17]). فإن كلمات الله التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر هي الكلمات الكونية؛ لأنه لا خروج لأحد عن قدر الله، كل ما وقع في الكون من خير أو شر فهو بكلمات الله الكونية، لا يتجاوز هٰذا ولا يخرج عنه بر ولا فاجر.
أما القسم الثاني من الكلام فهو الكلام الشرعي الديني الأمري: وهو كلام الله عزوجل الذي كلم به رسله، وأنزل به كتبه كالتوراة والإنجيل والقرآن والزبور وغير ذلك من الكتب، أشرف ذلك القرآن ثم يليه التوراة، ولذلك تجد أن القرآن العظيم يذكر التوراة والقرآن كثيراً، فأشرف الكتب التي أنزلها الله وأشرف كلام الرب جل وعلا هو ما كان في القرآن العظيم وما كان في التوراة، وأشرف ذلك ما كان في القرآن: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} ([18]). والآية تشير إلى ما أنزله الله عزوجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وهٰذا الكلام مما يُتعبد الله سبحانه وتعالى به.
أما الكلام القدري الكوني فإنه لازم لكل أحد، ولم يتعبدنا الله جل وعلا به، يعني بالتزامه وفعله؛ لأنه لا خروج لأحد عنه.
نعم كلام الله الكوني يقال: الخلقي، يعني: هو الذي يحصل منه الخلق، يوصف بهٰذا باعتبار أن الخلق صادر عنه لا أنه هو مخلوق، الكلام الكوني القدري الخلقي، مثل القضاء، ومثل الحكم، ومثل الإرادة الكونية الخلقية، الإرادية فتوصف بالخلقية، لا أنها مخلوقة، لكن عنها تصدر المخلوقات.
حقيقة ما بودي أن أبدأ بالكلام على ما ذكره المؤلف رحمه الله؛ لأن الكلام متصل ولا بودنا أن نقطعه هٰذه مقدمة موجزة فيما يتعلق بصفة الكلام لله عزوجل ، ويأتي إن شاء الله تعالى بقية البحث فيما ذكره المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالقرآن في الدرس القادم.
¹
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ، مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} ([19]). فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: {إِنْ هٰذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} ([20]) عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ.
وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، فَمَنْ أَبْصَرَ هٰذا اعْتَبَرَ، وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ انْزَجَرَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ بِصِفَاتِهِ لَيْسَ كَالْبَشَرِ).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد تقدم الكلام على أول ما يتعلق بهٰذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ). وقلنا: إنّ في هٰذا إثبات صفة الكلام لله جل وعلا، والكلام صفة لله سبحانه وتعالى ذاتية دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والعقل، فإن صفة الكلام من صفات الباري العظيمة جل وعلا، التي إنكارها يقتضي القدح في الإيمان بالله عزوجل ونقض الإيمان بالرسل ونقض الإيمان بالكتب، فإن الإيمان بالرسالة من لوازمه أن تؤمن بالمرسِل، ومن لوازم الإيمان بالمرسِل أن تؤمن بالقول الذي أرسل به رسله.
فالإخلال بهٰذا النوع من أنواع التوحيد أو بهٰذا النوع من أنواع الصفات خلل في أنواع عديدة من العقائد وما يجب الإيمان به من أصول الإيمان.
وتقدم الكلام على أن الكلام ينقسم إلى قسمين: كلام كوني، وكلام شرعي.
والمؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع يقرر كلام الله جل وعلا الشرعي؛ لأن القرآن من كلام الله الشرعي، يقول رحمه الله: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ). وعلى هٰذا أهل السنة والجماعة، دل على ذلك الكتاب في قول الله جل وعلا: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ([21]). والمراد بكلام الله في الآية كلامه الذي تكلم به وهو القرآن، فإن الله جل وعلا تكلم بالقرآن وقت نزوله وبلغه جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو كلام رب العالمين، أضافه الله إلى نفسه إضافة الصفة إلى الموصوف، فليس في هٰذا مِرية ولا في هٰذا شك ولا ريب عند أهل السنة والجماعة.
وأما إضافة القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإضافته إلى جبريل في بعض الآيات، فإن هٰذا من باب إضافة الكلام إلى مبلِّغه، وليس إلى قائله؛ بل المتكلم به وقائله هو رب العالمين جل وعلا.
ولذلك إضافة القرآن: أضافه الله في كتابه إليه، وأضافه إلى جبريل، وأضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
إضافته إليه سبحانه وتعالى من باب إضافة الصفات.
وإضافته إلى جبريل من باب إضافة البلاغ، فهو الرسول الملكي الذي أرسله الله عزوجل بالقرآن.
وإضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم هي إضافة إلى الرسول البشري الذي جعله الله سبحانه وتعالى مبلغاً لرسالاته صلى الله عليه وسلم، فلا يلتبس عليك، فإن الكلام يضاف وينسب إلى من تكلم به أولاً، لا من قاله مبلغاً.
ولذلك تجد القائل ممن يبلّغ قول النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كذا وكذا. مع أنه لم يسمعه منه، وهٰذا الكلام ليس كلام المتكلم، أي إنه ليس منسوباً إليه، وإنما هو مبلغ وناقل لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالكلام يضاف في لغة العرب إلى من تكلم به ابتداءً، وإن أضيف إلى من نقله فهي إضافة نقل وتبليغ لا إضافة ابتداء وكلام.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً)، فـ(من) هنا بيانية لبيان ابتداء الغاية، أي إن الكلام منه ابتدأ سبحانه وتعالى ، فـ(من) لابتداء الغاية، والهاء هنا الضمير يعود إلى الرب جل وعلا، أي من الله، بدأ أي هو المتكلم به سبحانه وتعالى ، لم يتكلم به غيره، ولم يخلقه في غيره، وهٰذه الكلمة منقولة عن السلف، ومرادهم بها كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وغيره أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق هٰذا الكلام في غيره كما تقول المعتزلة والجهمية، الذين يقولون: إن الكلام كلام الله والقرآن كلام الله، لكنه كلام الله مخلوق.
فللرد عليهم قال رحمه الله: (مِنْهُ بَدَأَ) أي هو المتكلم به، فالجهمية يقولون: القرآن كلام الله لكن خلقه في غيره، فهو مخلوق من جملة خلق الله سبحانه وتعالى . وقد رد عليهم سلف هٰذه الأمة، وحصل في هٰذه الصفة فتنة عظيمة لأهل السنة والجماعة أيام الإمام أحمد رحمه الله، حيث بُلي الناس بمسألة القرآن وامتحنوا وامتحن العلماء والقضاة وأهل العلم، بل امتحن العامة بهٰذه المسألة، وثبّت الله جل وعلا الإمام أحمد رحمه الله، وحفظ الله به كتابه وعقد السلف الصالح من الاندثار والضياع، حيث ثبت على قوله وذبّ عما دل عليه الكتاب والسنة، ورد قول المبتدعة الجهمية الذين قالوا: إن القرآن كلام الله لكنه مخلوق كسائر المخلوقات. واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ([22]) والقرآن شيء فهو داخل في هٰذا العموم لكنه كذب؛ لأن (كل) في كل موضع تفيد العموم بحسب الموضع الذي وردت فيه، فإفادة (كل) للعموم ليست مطلقة مجردة عن السياق الذي وردت فيه، ولذلك الريح التي أرسلها الله عزوجل على عاد لم تدمر المساكن، مع أن الله عزوجل قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} ([23]) ولو كانت تدمر كل شيء لما بقيت الأرض؛ لأنها مرت على الأرض، فبقيت الأرض، فدل ذلك على أن (كل) في كل محل ترد فيه تفيد العموم بحسب السياق الذي ترد فيه، وبحسب ما يقتضيه معنى الكلام، وليست (كل) تفيد العموم في كل المواضع العموم المطلق الذي لا يخرج عنه شيء.
ثم إن القول بأن القرآن مخلوق استدلالاً بهٰذا يقتضي أن نجعل جميع الصفات مخلوقة؛ لأن الرحمة شيء، والعلم شيء، والبصر شيء، والسمع شيء، والإرادة شيء، ومقتضى هٰذا أن تكون جميع صفات الله عزوجل مخلوقة داخلة في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ([24])، مع أنه سبحانه وتعالى الخالق المدبر الذي لا يدخل شيء من صفاته في عموم قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
فالرد على المعتزلة والجهمية في استدلالهم بهٰذه الآية على أن القرآن مخلوق واضح وبين، يدركه كل أحد، كل من فقه اللسان وعرف موارد الكلام فهم وعلم أن إفادة العموم من هٰذا اللفظ ليست واضحة في إدخال كلام الله عزوجل .
المراد أنّ القرآن كلام الله حقيقة، والإضافة هنا إضافة أوصاف لا إضافة أعيان.
والجهمية عندهم أن الإضافة هنا إضافة عين؛ لأن الكلام مخلوق فإضافته إلى الله كإضافة بيت الله وناقة الله وما أشبه ذلك من الإضافات التشريفية التي أضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه للتشريف وبيان المكانة والمنزلة، فناقة الله الإضافة هنا ليست إضافة صفات؛ لأن الناقة عين قائمة بذاتها، فإضافتها إلى الله عزوجل إضافة تشريف، كذلك (بيت الله) الإضافة هنا إضافة تشريف؛ لأنها عين قائمة، (عبد الله) الإضافة إضافة تشريف؛ لأن العبد عين قائمة، لكن ما لا يقوم من الإضافات كالكلام والرحمة والسمع والبصر، هٰذه ليست أعياناً قائمة بذاتها إنما تقوم بغيرها، فإضافتها إلى الله جل وعلا تكون من باب إضافة الصفات ومن ذلك الكلام، الكلام ليس شيئاً يقوم بذاته حتى نقول: إن الإضافة إضافة خلق، بل هٰذا تلبيس وتشبيه يرده أصحاب العقول النيرة والأفهام البينة.
يقول رحمه الله: (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً). قوله رحمه الله: (بِلا كَيْفِيَّةٍ) الكيفية المنفية هنا هي كيفية العلم، يعني نفي علم الكيفية لا الكيفية ذاتها، بل الكيفية ثابتة، والمنفي هو علمنا لهٰذه الكيفية، إذْ لا شيء إلا وله كيفية، لكن نحن لا ندرك هٰذه الكيفيات.
فقول العلماء: نثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل. المراد من غير تكييف نعلمه، وأما كيفية الشيء وهي أن يكون له هيئة، فإن الصفات لها هيئة الله أعلم بها، ولا بد أن يكون لها هيئة، لكن هيئة هٰذه الصفات لا نعلمها ولا ندركها.
فالمنفي هنا العلم بالكيفية لا أصل الكيفية وذاتها، فليس نفياً لأن تكون الصفات على هيئة وصفة معينة، فافهم هٰذه. قوله: (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ). ونفي التكييف ما دليله؟ دليله قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ([25]). تقول: هٰذا نفي للمثلية فكيف يكون نفياً للكيفية؟ الجواب: أنه لا يمكن أن تصل إلى المثلية إلا بالتكييف، فالآية تضمنت نفي الغاية والوسيلة، فالله جل وعلا نفى المثل، وإذا كان المثل منتفياً، فما يوصل إليه وهو الكيفية العلم بالكيفية أيضاً منتفٍ.
ولذلك لما سئل بعض السلف عن الاستواء: كيف استوى؟ قال: دُلّني على كيف هو، فأخبرك كيف استوى.
دلني كيف هو، كيف الله جل وعلا حتى أخبرك بكيفية صفاته، ولا أحد يمكن أن يقول: الله على هٰذا الكيف على هٰذه الهيئة على هٰذه الصفة، فإنه جل وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ([26]) فإذا انتفى علم كيفية الذات فكذلك علم كيفية الصفات؛ لأن القاعدة عند أهل السنة والجماعة، وهي قاعدة دلّ عليها الكتاب والسنة: أن القول في الصفات كالقول في الذات، فإذا كنا نجهل ذات الرب جل وعلا، كيفية ذات الرب جل وعلا، فنحن نجهل أيضاً صفاته سبحانه وتعالى .
والمراد أن كل صفات الله عزوجل على هٰذا الباب، وليس هٰذا مما اختص به الكلام، بل هو في جميع الصفات، فإن نفي الكيفية من عقد أهل السنة والجماعة الذي دل عليه الكتاب والسنة.
ولذلك لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن كيفية الاستواء أجاب بالجواب الفصل البين الواضح الذي عليه نور القرآن وهدي السنة، قال رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، أو غير معلوم. فنفى العلم بالكيفية، وذلك أن العلم بالكيفيات فرع عن العلم بالذات.
قوله رحمه الله: (قَوْلاً)، (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً). هٰذا فيه الرد على الأشاعرة والماتريدية، انظر هٰذه العبارة على اختصارها ردت على فرق الضلال في صفة الكلام، فقوله: (مِنْهُ بَدَأَ) فيه الرد على من؟ على الجهمية والمعتزلة الذين قالوا: كلام الله مخلوق، وفي قوله: (قَوْلاً) رد على الأشاعرة والماتريدية والكلابية الذين ضلوا في الصفة.
فقالت الأشاعرة: القرآن عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله؛ لأن الكلام عندهم معنى يقوم بالنفس.
وقالت الكلابية: القرآن حكاية عن كلام الله عزوجل ، حكاية عن كلام الله عزوجل ، وليس كلام الله. واختلفوا في المعنى المحكي عنه، فمنهم من قال: إنه معنى واحد، ومنهم من قال: إنه خمسة معانٍ. فليس عندهم كلام تكلم به الرب جل وعلا، إنما الكلام عندهم معانٍ، منهم من قال: إنه معنى واحد، ومنهم من قال: إنه خمسة معانٍ، على اختلاف بينهم.
ولا إشكال أن هٰذا القول باطل ضلال، ترده النصوص من الكتاب والسنة، ويرده قول أهل السنة والجماعة في القرون المفضلة ومن بعدهم ممن سار على طريقهم.
قوله رحمه الله: (وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا). هٰذا فيه بيان أن القرآن منزل من رب العالمين، وهٰذا فيه التأكيد لمعنى ما تقدم من أن القرآن كلام الله جل وعلا، حيث إنه نزل منه سبحانه وتعالى .
وقد قرّر الله جل وعلا هٰذا الأمر وهو إنزال الكتاب منه في آيات كثيرة: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ،([27]) {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ([28]). والآيات في هٰذا كثيرة التي يخبر فيها جل وعلا أن القرآن منزل منه، وهٰذا فيه أنه كلامه سبحانه وتعالى المضاف إليه، فهٰذا تأكيد لما تقدم من أن القرآن كلام الله جل وعلا (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً).
قال: (وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا). الرسول هنا المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (وَحْيًا) أي أنزله على صفة الوحي، والوحي أيها الإخوة له ثلاث درجات:
يطلق الوحي ويراد به الإعلام السريع الخفي، هٰذا الأصل فيه.
فمنه ما يكون ظاهراً.
ومنه ما يكون خفيّاً.
ومنه ما يكون يقظةً.
ومنه ما يكون مناماً.
وقد بين الله جل وعلا أقسام الوحي في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} ([29]) هٰذه المرتبة الأولى.
{أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ([30]) هٰذه المرتبة الثانية.
{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} ([31]) هٰذه المرتبة الثالثة.
فأقسام الوحي ثلاثة:
القسم الأول هو الإعلام السريع: وهٰذا لا يختص به الأنبياء بل يكون للأنبياء وغيرهم، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي} ([32])، ومنه قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} ([33])، ومنه قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ([34]). فهٰذا كله يدخل في القسم الأول.
القسم الثاني وهو ما خص الله به موسى عليه السلام، وهو التكليم من وراء حجاب، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} . ([35])
القسم الثالث وهو العام في الرسل، ولا يكون إلا لهم، وهو أن يرسل إليهم رسولاً، وهو جبريل عليه السلام، فالأصل في الرسول الذي يبلغ القرآن جبريل عليه السلام الذي يبلغ القرآن ووحي رب العالمين، في الكتب السابقة الأصل فيه أنه جبريل عليه السلام، وهٰذا عام لجميع الأنبياء.
فقول المؤلف رحمه الله: (وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا) من أي أنواع الوحي: هل هو من النوع الأول أو الثاني أو الثالث؟ الثالث؛ لأن جبريل هو الذي نزل بالقرآن، قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ([36])، وقال سبحانه وتعالى : {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} ([37]). فالذي نزل بالقرآن جبريل عليه السلام، فقوله: (وَحْيًا) هو من النوع الثالث. أرفع هٰذه الأنواع هو النوع الثاني، النوع الثاني الذي خص الله به موسى، وهو أن يكلم الله الرسول من وراء حجاب، ثم النوع الثالث الذي هو آخر المذكورات في الآية، وأقلها وأدناها درجة هو النوع الأول الذي ابتدأ به ذكر أقسام الوحي في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} ([38]). وهٰذا لا يختص الأنبياء كما تقدم.
أعيدوها أنتم: القسم الأول: الإعلام الخفي السريع، وهٰذا يلزم أن يكون كلاماً أو لا يلزم؟ لا يلزم أن يكون كلاماً، إطلاق الوحي على غير الكلام، فيه دلالة واضحة على أنه غير الكلام. النحل ما ندري هل لها لغة كلمها الله بها أو لا. المهم فيه شيء واضح أوضح من هٰذا في قصة زكريا: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} ([39]). {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} ([40]). هنا {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} بغير الكلام؛ لأن الله أخذ عليه العهد أن لا يكلم الناس، فهٰذا دليل على أن الوحي الخاص يكون بغير تكليم، ولذلك الوحي والتكليم بينهما عموم وخصوص: فقد يكون الوحي بالتكليم وقد يكون بغير التكليم، والكلام قد يكون وحياً وقد لا يكون وحياً.
القسم الثاني: ما خص الله به موسى، وهو التكليم من وراء حجاب.
الثالث: الوحي برسول، إرسال الرسول لتبليغ الوحي.
طيب.ثم قال: (وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا). (صَدَّقَهُ) أي صدق من؟ صدق إيش؟ (وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ) الضمير يعود إلى القرآن، أي صدق القرآن المؤمنون على ذلك حقّاً، يعني على ما تقدم، على الصفة التي تقدمت في أنه كلام الله عزوجل : (مِنْهُ بَدَأَ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا)، وقوله: (حَقًّا) أي من غير تحريف ولا تأويل ولا تعطيل، بل صدقوه على ما دلت عليه هٰذه الألفاظ من أنه كلام الله حقيقة.
قال رحمه الله تأكيداً لهٰذا: (وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ) وهٰذا فيه الرد على طوائف الضلال ممن قال: إن القرآن مضاف إلى الله إضافة خلق، وممن قال: إنه عبارة عن كلام الله، وممن قال: إنه حكاية عن كلام الله.
ثم عاد المؤلف رحمه الله لتقرير ما تقدم، قال: (لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ) أي إن كلام الله جل وعلا لا يوصف بالخلق، بل هو كلامه الذي هو صفة من صفاته. (لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ) أي ككلام الخلق، فإن كلام الخلق مخلوق، وإن تكلموا بالقرآن فإن حركاتهم مخلوقة، لكن الكلام الذي يتكلمون به وهو القرآن كلام رب العالمين ليس بمخلوق.
وقولنا: إن القرآن كلام الله. يشمل اللفظ والمعنى، فإنه كلام الله لفظه ومعناه.
وهٰذا فيه الرد على من قال: إن المعنى هو كلام الله، واللفظ من جبريل أو من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه الرد أيضاً على من قال: إن كلام الله هو الألفاظ فقط دون المعاني.
وكل هٰذا من أنواع الضلال في كلام الله عزوجل ، بل كلام الله عزوجل اللفظ والمعنى، فليس اللفظ خارجاً عن كلام الله، وليس المعنى خارجاً عن كلام الله، بل كلام الله عزوجل اللفظ والمعنى، فالقرآن بلفظه ومعناه كلام رب العالمين.
يقول: (فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ). وهٰذا فيه بيان أنّ التكذيب بأنّ القرآن كلام الله كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن الكريم، فمن قال: إنه كلام البشر فقد كفر، وهٰذا فيه بيان حكم من قال: إن القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم- كما يقوله بعض الأشاعرة- وإن المعنى من الله واللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: (فَقَدْ كَفَرَ). والتكفير في مثل هٰذا هل هو تكفير عيني أو تكفير وصفي؟ تكفير وصفي، أي من قال بهٰذا القول فقد كفر، لكن يبقى هل إذا جاءنا شخص يقول بهٰذا القول، هل نقول: إنه كافر؟ الجواب: لا، نقول: القول كافر. وأما القائل فنحتاج إلى النظر في حاله من حيث توافر الشروط وانتفاء الموانع، فإن تكفير المعين يحتاج إلى هذين، وأما تكفير الأقوال فإنه لا يحتاج إلا إلى إثبات الدليل على أن القول كفر، أما تنزيل هٰذا الحكم العام على الشخص المعين فنحتاج فيه إلى النظر في الشروط هل توافرت؟ والموانع هل ارتفعت؟ فإن توافرت الشروط وانتفت الموانع فإننا نحكم بكفره.
قال رحمه الله: (وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ). سقر اسم من أسماء النار نعوذ بالله منها، وقيل: إنه اسم من أسماء أبوابها، قال: (حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} ([41])، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: {إِنْ هٰذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} ([42])، عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ). وهٰذا القول قول الوليد ابن المغيرة الذي سمع القرآن فقال في مدحه والثناء عليه ما نفى عنه قول البشر، ثم حاجّه قومه قالوا: كيف تقول هٰذا وأنت سيد قريش؟ فرجع وقال: إن هو إلا قول البشر. قال الله عزوجل في توعده وتهديده: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} ؛ لأنه كذّب بكلام رب العالمين وأضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {إِنْ هٰذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} . (إن) هنا نافية والمعنى: ما هٰذا إلا قول البشر.
قال رحمه الله: (وَلا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ) وهٰذا ليس خاصّاً بالقرآن، بل هو في سائر الصفات كما تقدم، فإنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ([43]) سبحانه وبحمده.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ). هٰذا فيه النهي عن الأصل الثاني من أصول الشرك والكفر بالله عزوجل ، الشرك يدور على أصلين:
الأصل الأول: تشبيه الله بخلقه.
والأصل الثاني: تشبيه الخلق بالخالق.
فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن شبه الخلق بالله عزوجل فقد كفر، على هذين الأصلين تدور جميع أنواع الشرك والكفر، يقول المؤلف رحمه الله: (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ). أي شبه الله بخلقه، فقال: يده كأيدينا، سمعه كأسماعنا، حياته كحياتنا، كلامه ككلامنا أو ما أشبه ذلك (فَقَدْ كَفَرَ). وهٰذا قول من؟ قول الممثلة الذين غلوا في إثبات الصفات فمثلوا الله بخلقه، وأبرز الفرق في هٰذا الكرامية أتباع عبد الله بن كرام الذين مثلوا الله بخلقه، إلا أن هٰذه الفرقة انقرضت، وذلك أن الفطر مجبولة على تنزيه الخالق، وأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، ولذلك لم تقم لهٰذه الفرقة سوق، وإنما السوق القائمة لقول أهل التعطيل الذين دخلوا في صفات الله عزوجل بعقولهم وآرائهم الفاسدة، فأفسدوا ما دلت عليه النصوص.
يقول رحمه الله: (فَمَنْ أَبْصَرَ هٰذا). أي من تأمل وأدرك وفهم وعقل، فالإبصار هنا إبصار القلب لا إبصار النظر فقط (فَمَنْ أَبْصَرَ هٰذا اعْتَبَرَ). أي حصلت له العبرة والعظة (وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ انْزَجَرَ). أي انكف وامتنع، سواءً في ما يتعلق بصفة الكلام أو بغيرها من الصفات (وَعَلِمَ أَنَّهُ بِصِفَاتِهِ)أي الله جل وعلا (لَيْسَ كَالْبَشَرِ) كما قال الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .([44])
ثم ذكر المؤلف رحمه الله ما يتعلق بالرؤية فقال: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأَهْلِ الْجَنَّةِ).
نقف في هٰذا الدرس على مبحث الرؤية، ويأتي إن شاء الله تعالى بقية الكلام في الدرس القادم بإذن الله تعالى.