×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

المكتبة المقروءة / دروس / دروس العقيدة / العقيدة الطحاوية / الدرس(7) من شرح العقيدة الطحاوية

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الدرس(7) من شرح العقيدة الطحاوية
00:00:01

بسم الله الرحمٰن الرحيم  الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على الرسول الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله: (والرؤية حقلأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية،  كما نطق به كتاب ربنا:  {وجوه يومئذ ناضرة(22)إلى ربها ناظرة} ([1]). وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه. وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول  صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله  عزوجل  ولرسوله  صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه.  ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوسا تائها، [زائغا] شاكا، لا مؤمنا مصدقا، ولا جاحدا مكذبا. ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم، إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين.  ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه). التعليق:  الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فهٰذا المقطع قرر فيه المؤلف رحمه الله عقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق برؤية الرب جل وعلا، فقال رحمه الله: (والرؤية حق لأهل الجنة). (حق) أي ثابتة حقيقة لا مجازا، فالحق هو الشيء الثابت الذي لا شبهة فيه ولا مرية، وقوله رحمه الله: (لأهل الجنة) هٰذا فيه بيان أعلى ما يكون من الرؤية، فإن الرؤية التي يحصل بها التنعيم وهي فضل الله جل وعلا ومنته وإحسانه وكرمه، وأعظم ما ينعم به أهل الجنة هي ما يكون من الرؤية لأهل الجنة. فقوله رحمه الله: (والرؤية حق لأهل الجنة) يخرج أهل النار، فإن أهل النار لا يرونه، ويخرج أيضا أهل الدنيا، فإن أهل الدنيا لا يرونه، ويبقى رؤية الناس للرب جل وعلا قبل دخول الجنة في أرض المحشر، فإنها ثابتة كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي  صلى الله عليه وسلم. واختلف أهل العلم هل يرى الرب سبحانه وتعالى الكفار في الموقف أو لا يرونه؟ على أقوال: فمنهم من نفى الرؤية مطلقا. ومنهم من قال: إنهم يرونه. ومنهم من قال: لا يراه إلا المنافقون، أما الكفار فلا يرونه. وعلى كل حال فإن الرؤية التي تكون لأهل الموقف هي لأهل الإيمان رؤية تعريف، وأما أهل الكفر أو النفاق فإنها رؤية حسرة وعذاب، وليست رؤية تنعيم. ولا ينبغي ولا يسوغ أن يقال على وجه الإطلاق: إن الكفار يرون ربهم، بل لا بد من تقييد ذلك -على القول بأنهم يرونه-، فإن إطلاق الرؤية لا يكون إلا على وجه التنعيم، وهٰذا لا يكون إلا لأهل النعيم، وهم أهل الجنة. أما الرؤية في النار فلا تكون لأهل النار:  {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} .([2]) وأما في الدنيا فإنه لا يرى جل وعلا في الدنيا، كما قال سبحانه وتعالى لما طلب موسى رؤيته، قال له:  {لن تراني}  ([3])، وقال النبي  صلى الله عليه وسلم:((واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه قبل أن يموت))([4]). فدل ذلك على أن الرؤية بالعين ممتنعة في الدنيا. أما رؤية الفؤاد فإنها حصلت للنبي  صلى الله عليه وسلم. وكذلك رؤيا المنام أو الرؤية في المنام فقد حصلت له صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وما نقل عن الإمام أحمد وابن عباس رضي الله عنهما من إثبات الرؤية في الدنيا فإن المنقول عنهما مطلق، يعني الرؤية مطلقا، لم يقيداها برؤية العين، وفي بعض الروايات وردت مقيدة، فالمطلق يحمل على المقيد، ولم ينقل عنهما أنهما قالا: إنه رآه بعينه سبحانه وتعالى، أي إن النبي  صلى الله عليه وسلم رأى الرب سبحانه وتعالى بعينه في الدنيا. فقول المؤلف رحمه الله: (والرؤية حق لأهل الجنة) أي ثابتة لا مرية فيها، ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة وسلف الأمة. وقد أنكر الرؤية طوائف: أول من أحدث إنكار الرؤية الجهمية، حيث أنكروا أن يرى الرب سبحانه وتعالى، فقالوا: لا يرى. تبعهم على ذلك المعتزلة. ووافقهم الخوارج. ووافقهم كذلك متأخرو الإمامية، أما متقدمو الإمامية الرافضة فإنهم يثبتون الرؤية، لكن المتأخرين منهم أنكروها؛ لأن متأخري الإمامية على مذهب الاعتزال، فهم معتزلة في الاعتقاد. كذلك ممن ضل في الرؤية بعض مثبتة الصفات، كالأشاعرة والكلابية والماتريدية، فإنهم أثبتوا الرؤية لكن على غير طريق أهل السنة والجماعة، وحقيقة قولهم عند المحققين أنه لا رؤية؛ لأنهم يقولون: يرى من غير معاينة ولا في جهة، وهٰذا قول في غاية السقوط؛ لأنه لا يمكن أن يرى الشيء إلا في جهة، فقولهم: يرى من غير معاينة ولا في جهة، حقيقته -كما قال محققوهم- أنه لا يرى، فهم وافقوا من حيث حقيقة القول، وافقوا نفاة الرؤية. أما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون الرؤية، وحجتهم في ذلك: كتاب الله جل وعلا، فإنه قد جاء إثبات الرؤية في الكتاب تصريحا وتعريضا. وأما السنة فقد ورد ذلك متواترا عن النبي  صلى الله عليه وسلم، رواه أكثر من ثلاثين من الصحابة رضي الله عنهم. وأما الأقوال الواردة عن السلف فهي أكثر من أن تحصى في إثبات رؤية المؤمنين لرب العالمين.نسأل الله من فضله. يقول رحمه الله في الرؤية التي يثبتها أهل السنة والجماعة،يقول: (بغير إحاطة ولا كيفية).  (بغير إحاطة) لقوله تعالى:  {لا تدركه الأبصار} ([5]). فإن إثبات أهل السنة والجماعة لرؤية الرب سبحانه وتعالى لا إحاطة فيها؛ لأنه  سبحانه وتعالى  الكبير الواسع العظيم الذي جل أن يحيط به عباده، وعلا قدره أن تدركه أبصار خلقه، قال أبو سعيد الخدري  رضي الله عنهم   في قوله تعالى:  {لا تدركه الأبصار} ([6]): لو أن الملائكة والإنس والجن والشياطين، منذ خلق الله الخلق إلى آخر واحد منهم، صفوا صفا واحدا، ونظروا إلى الرب لما أحاطوا به، فكيف يحيط به نظر واحد من خلقه؟ وهٰذا كله يدلك على أن معنى الآية نفي الإحاطة لا نفي الرؤية، فإن الآية ليس فيها أنه لا يرى، بل فيها نفي إدراكه:  {لا تدركه الأبصار} . ونفي الإدراك أمر زائد على نفي الرؤية، بل هو غير نفي الرؤية، فإن الإنسان ينظر إلى أشياء كثيرة لا يدركها، إما لعظم خلقها، أو لشدة فيها. فمثلا الشمس يراها كل أحد ممن له بصر ونظر، لكن هل يدركها الناظر إليها؟ الجواب: لا. دع الشمس، إذا أقبلت على المدينة من بعد ورأيت المدينة هل تدركها؟ فإذا قلت: لا أدرك هٰذه المدينة لسعة أطرافها، هل هٰذا نفي لرؤيتها؟ الجواب: لا، لا تلازم بين نفي الرؤية ونفي الإدراك، فإن نفي الإدراك هو نفي للإحاطة([7]). وأما نفي الرؤية فإنه لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، بل على العكس الأدلة في الكتاب والسنة دالة على ثبوت الرؤية لأهل الإيمان. وقوله رحمه الله: (ولا كيفية). هٰذا كسائر الصفات، أي إننا نثبت الرؤية من غير تكييف، كسائر ما نثبته لله  عزوجل  من الصفات، وهٰذا فيه الرد على من يقول: إنه يلزم من أنه يرى أنه جسم، ويلزم من أنه جسم أن يكون متحيزا، ويلزم من هٰذا أن...، لوازم كلها باطلة، ويلزم أن يكون له مكان يحيط به، وما أشبه ذلك من اللوازم الباطلة. ونحن نقول: نثبت ما أثبته الله لنفسه من غير هٰذه اللوازم، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. قال رحمه الله:(كما نطق به كتاب ربنا:  {وجوه يومئذ ناضرة(22)إلى ربها ناظرة} ([8])). (كما نطق به كتاب ربنا) نطق أي تكلم به، وبعض الناس يتحاشى من أن يقول: نطق الكتاب بكذا، والظاهر أنه لا بأس بهٰذا اللفظ، وقد استعمله شيخ الإسلام رحمه الله في كثير من كلامه، وكذلك ابن القيم، وهو مستفاد من قوله تعالى:  {وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى} ([9]). فلعله مأخوذ من هٰذا، مع أن النطق في الآية مضاف إلى النبي  صلى الله عليه وسلم. يقول: (كما نطق به كتاب ربنا). أي القرآن العظيم فقط، ثم ذكر أعظم ما يستدل به على إثبات الرؤية من القرآن، وهو قوله تعالى:  {وجوه يومئذ ناضرة(22)إلى ربها ناظرة} . وهٰذه الآية هي أقوى ما في كتاب ربنا جل وعلا من إثبات رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، حيث قال:  {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}  فأضاف النظر إلى الوجوه. ومعلوم أن النظر يكون بالوجوه؛ لأنه محلها، فالعينان محلهما الوجه، ولذلك أضاف النظر إلى الوجه، ثم إنه عدى النظر ب(إلى)، ولا يكون ذلك إلا في نظر العين، لا يستعمل النظر معدى ب(إلى) إلا فيما ينظر بالعين، ثم قال  سبحانه وتعالى :  {وجوه يومئذ ناضرة}  وهٰذا لنظرها إلى الرب سبحانه وتعالى، فاكتسبت من نظرها إلى الله جل وعلا نضارة، كل هٰذا من الدلائل في هٰذه الآية على أن النظر هو النظر إلى الرب  سبحانه وتعالى . أما أهل التحريف الذين يحرفون الكلم عن مواضعه فقالوا: إن قوله تعالى:  {إلى ربها ناظرة}  أي منتظرة، منتظرة تنتظر فضل الله ورحمته، وقالوا: إن هٰذه المادة تستعمل في الانتظار، ومن ذلك قول المنافقين لأهل الإيمان:  {انظرونا نقتبس من نوركم} ([10]). فالجواب على هٰذا التحريف:أن في الآية ما ينفي تفسير النظر بالانتظار، فإن الله جل وعلا ساق هٰذه الآية في مساق التنعيم، ومعلوم أنه ليس من تنعيم أهل الجنة الانتظار؛ لأن الانتظار فيه إيلام، وإنما هو النظر إلى الرب  سبحانه وتعالى  الذي هو غاية نعيم أهل الجنة. ثم إنه لا يمكن أن يكون قوله تعالى:  {ناظرة}  بمعنى منتظرة وقد عدي ب(إلى) الدالة على أن النظر للعين. ثم إنه من وجه ثالث أن النظر هنا أضيف إلى الوجه، ومعلوم أن الانتظار لا يضاف إلى الوجه. فدل ذلك على أن قوله تعالى:  {إلى ربها ناظرة}  ما فهمه سلف الأمة، ودل عليه الكتاب والسنة من أن النظر هنا هو النظر إلى الرب جلا وعلا، كقوله تعالى في نعيم أهل الجنة:  {على الأرائك ينظرون} ([11]). فإن السلف فسروها بالنظر إلى الرب  سبحانه وتعالى ، وكقوله تعالى:  {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} ([12]). فالزيادة فسرها صديق الأمة بالنظر إلى الرب جل وعلا، بل ورد ذلك في تفسير النبي  صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث صهيب([13]). والمزيد فسره أبو بكر وغيره بالنظر في قوله تعالى:  {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} ([14]). قال رحمه الله: (وتفسيره) أي تفسيره، تفسير النظر في قوله تعالى:  {إلى ربها ناظرة} ([15]). (على ما أراده الله تعالى وعلمه). وهٰذا فيه الرد على تأويل وتحريف المحرفين لهٰذه الآية، فإن تفسير النظر هنا على ما أراد الله تعالى وعلمه، والمراد بالتفسير هنا الكيفية، وإلا فالتفسير في المعنى أي إدراك معنى هٰذا الكلام فهو على ما أراد الله تعالى وعلمناه نحن من مقتضى اللغة، وما نقل من تفسير الصحابة رضي الله عنهم، فهٰذا أمر لا يختص به الله، لكن الذي يختص به الله من التفسير هو إيش؟ هو معرفة حقيقة ما أخبر الله  سبحانه وتعالى  به عن نفسه، علم حقيقة ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه هو الذي لا يعلمه إلا هو  سبحانه وتعالى . ثم قال رحمه الله: (وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول  صلى الله عليه وسلم فهو كما قال). (كل ما جاء في ذلك). المشار إليه الرؤية (من الحديث الصحيح عن الرسول  صلى الله عليه وسلم فهو كما قال). يعني: لا نحرفه ولا نؤوله تأويلا مذموما، بل نفسره ونمضيه على ظاهره، وهو رحمه الله يشير بهٰذا إلى ما جاء من الأحاديث الدالة على إثبات الرؤية. ومنها حديث أبي هريرة  رضي الله عنهم   في الصحيحين، وفيه أن النبي  صلى الله عليه وسلم سأله أناس: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال لهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا. قال: ((هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟)) قالوا: لا. قال: ((فإنكم سترونه كما ترون هذين أو كما ترون ذلك))([16]). أي كما ترون الشمس ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر في إبداره ليس دونه سحاب. ومعلوم أن أكمل ما يرى في الدنيا إدراكا مما هو عظيم، يعني أكمل ما يرى في الدنيا وضوحا ويدركه كل أحد هو الشمس ليس دونها سحاب، والقمر ليلة الإبدار ليس دونه سحاب، فشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤية بالرؤية، وشبهها بأعظم ما يرى في الدنيا وهو رؤية الشمس والقمر، وليس فيه تشبيه وتمثيل المرئي بالمرئي؛ بل الله جل وعلا  {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ([17]). فنثبت ما أثبته النبي  صلى الله عليه وسلم من الرؤية على ما جاء من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. ثم قال: (ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا). يبطل تأويلات المحرفين الذين حرفوا الكلم عن مواضعه وحملوا الكلام على غير ظاهره؛ ليثبتوا ما عقدوه قبل أن ينظروا في النصوص من إبطال الرؤية، ونفي ما دلت عليه النصوص. (لا ندخل في ذلك) يعني فيما قاله الله وفيما قاله رسوله  صلى الله عليه وسلم في شأن الرؤية، بل وفي غيرها (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا). ثم قال رحمه الله في قاعدة مهمة،قال: (فإنه ما سلم في دينه). والسلامة هي النجاة من العطب (ما سلم في دينه إلا من سلم لله  عزوجل  ولرسوله  صلى الله عليه وسلم). لا إشكال أنه لا سلامة لأحد إلا بالتسليم لله ورسوله، والتسليم يكون لله ولرسوله، يكون بقبول ما جاء عن الله وعن رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل ينقاد ويقبل ما جاءت به النصوص دون تأويل وتحريف. قال: (ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه). وهٰذا فيه الأدب فيمن أشكل عليه شيء من النصوص فضاق عنها فهمه ولم يدركها عقله، الواجب عليه في ذلك أن يرد علم ما اشتبه عليه، يعني:اختلط والتبس إلى عالمه، فيقول: الله أعلم بمراده، ولا يدخل في ذلك بتأويل فاسد ولا بوهم باطل، بل يسلم لله ورسوله، فإذا قصر فهمه عن شيء مما أخبر الله به عن نفسه وجب عليه أن يرد ذلك إلى عالمه، كما قال الله جل وعلا:  {ولا تقف ما ليس لك به علم} ([18]). فنهى الله  سبحانه وتعالى  عن اتباع ما ليس للإنسان فيه علم. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله مثالا لهٰذا في تفسير اسم الظاهر الباطن الأول الآخر، فإنه أطال في الكلام عن هٰذه الأسماء وبيانها، ثم قال بعد أن بين المعاني في هٰذه الأسماء، قال: فإن ضاق عن ذلك فهمك فجاوزه على حد قول القائل: وجاوزه إلى ما تستطيع     إذا لم تستطع شيئا فدعه      يعني: إذا كان قصر فهمك ولم يتسع ذهنك إلى فهم معاني كلام الله  عزوجل ، فليس هٰذا مسوغا لرده-أي كلام الله- ولا إلى التكذيب به ولا إلى تحريفه، بل الواجب عليك أن تسلم للنصوص وتقول: الله أعلم بمراده، لم أفهم هٰذا، الله أعلم بمراده، ولا يجوز لك أن تقول: ليس لها معنى، بل لها معنى ضاق عنه فهمك، والناس أفهام، فرد علم ما اشتبه عليك واختلط إلى عالمه، ولا تدخل في ذلك بتحريف ولا تعطيل. قال: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام). وهٰذا لا إشكال فيه، فإنه من دخل فيما أخبر الله به عن نفسه على وجه المنازعة والمعارضة فإنه لا تثبت قدمه على الحق، بل يزيغ عن الصراط المستقيم، ويقع في مهاوي الضلال، فخير ما يثبت القدم على الإسلام أن يسلم لله  عزوجل ، ولذلك قال: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام). التسليم بمعنى الاستسلام، ودليل ذلك قول الله جل وعلا:  {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} ([19]). وأكد التسليم بالمصدر تحقيقا له، وأنه لا يحصل تمام الإيمان إلا بالتسليم التام لما جاء عن الله وعن رسوله، وكل من عارض كلام الله وكلام رسوله بالشبه والعقول الفاسدة والآراء الباطلة لم يحصل له الثبات على الإسلام. يقول رحمه الله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه). ما الذي حظر عنا علمه؟ علم الكيفيات، وعلم ما لم يخبر به الله ورسوله من الصفات. فكل (من رام) أي طلب (علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه) أي في ما جاء الخبر عنه؛ لأنه هناك ما منعنا من النظر فيه، وهو ما يتعلق بكيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وهناك ما أخبرنا به، وهو الصفات التي جاء الخبر عنها في الكتاب والسنة. فما أخبرنا به الواجب فيه التسليم. وما منعنا من النظر فيه -وهو الكيفيات- الواجب فيه عدم النظر وعدم الطلب. (فمن رام علم ما حظر عنه علمه) وهو في الكيفيات (ولم يقنع بالتسليم فهمه) فيما أخبرنا عنه، وما جاء الخبر فيه عن كتاب الله وسنة رسوله (حجبه مرامه) أي مطلوبه (عن خالص التوحيد). ما فيه إشكال، يحجب عن خالص التوحيد، ويقع في أنواع من الاشتباه والشرك (وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان). فلا يصح إيمانه، ولا تتم معرفته بربه، ولا يحصل له كمال التوحيد وصافي التوحيد. لأن كمال التوحيد فرع عن كمال الإيمان بالأسماء والصفات، وهٰذا مما يدلك على أن التوحيد مرتبط بعضه ببعض، فالخلل في توحيد الأسماء والصفات يؤثر وينجر على توحيد الإلهية، ويفضي إلى نقص في توحيد الإلهية، ونقص في توحيد الربوبية، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات الدالة على كماله وعظيم قدره جل وعلا فإنه ينقص قدر توحيده لربه سبحانه وتعالى. ولذلك لا يعد الخلل في نوع من أنواع التوحيد مقصورا عليه، بل في الغالب إذا تأملت وجدت أن الخلل في توحيد الإلهية ناشئ عن خلل في توحيد الأسماء والصفات أو توحيد الربوبية ولا بد. يقول رحمه الله: (فيتذبذب) هٰذا فيه الثمرة، فالفاء هنا للتفريع، لبيان ما الذي يثمره طلب علم ما حظر عنه وعدم القناعة والتسليم بما جاءت به النصوص؟ ما الذي يثمره؟ يقول: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار) فهو في أمر مريج، وهٰذا الذي قال الله جل وعلا عنه في قوله تعالى:  {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} ([20]) أمر مضطرب، وهٰذا شأن كل من كذب بالحق قليلا أو كثيرا، فإن شأن المكذبين بالحق الذين لا ينقادون له ولا يقبلونه أن يكونوا في اضطراب عظيم، فيتذبذبون بين الكفر والإيمان، وبين التصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار.  قال رحمه الله: (موسوسا تائها، [زائغا] شاكا، لا مؤمنا مصدقا، ولا جاحدا مكذبا). وهٰذا مطابق لحال من لم يسلم للنصوص القياد، فإنهم لم يحصوا علما ولم يدركوا مطلوبا ولا معرفة بالرب سبحانه وتعالى، بل هم تائهون شاكون، لم يتحقق لهم تمام الإيمان والتصديق، ولم يسلموا من اعتراضات الجاحدين المكذبين. ومن قرأ كلامهم، ورأى مقال من سلك طريق التشبيه علم صدق ذلك. فإذا نظرت إلى ما ذكره الرازي على سبيل المثال، ما ذكره صاحب إحياء علوم الدين الغزالي، وما وجداه في هٰذا الطريق من العطب والضلال وأنهما لم يسلما ولم يطمئنا إلا بالنظر والتسليم للنصوص علمت أن ما قاله المؤلف رحمه الله مطابق للواقع. ويكفي في هٰذا ما أنشده الرازي حيث قال: وغاية([21]) سعي العالمين ضلال     نهاية إقدام العقول عقال                     والعالمين المراد بهم من ترك طريق أهل السنة والجماعة، ودخل في علم الأسماء والصفات وما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى بعقله متأولا، ولذلك قال: ..................................   ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا        يعني: طوال هٰذا الكد والسعي والبذل والتأليف والكتابة سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا     ...................................        والعجيب أنهم في مؤلف واحد تجد أن الواحد منهم يثبت في أول المؤلف ما ينفيه في آخره.   بل بعضهم يقول: ونفي هٰذا كفر، ثم تجده في آخر المؤلف يقول بنقيض ذلك، فيثبت ما جعل إثباته أو ينفي ما جعل نفيه كفرا، وهٰذا غاية الاضطراب. نسأل الله السلامة والعافية. وهٰذا حال كل من كذب بالحق كما دلت عليه الآية. ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام) -جعلنا الله وإياكم من أهلها-  (لأهل دار السلام) الجنة (لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم). يقول رحمه الله:(لا يصح الإيمان بالرؤية) أي لا يتم الإيمان بالرؤية (لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم). يعني: من مثلها أو أولها، فإن من مثل وقع في الضلال؛ لأن الله جل وعلا يقول:  {ليس كمثله شيء } ([22]). ومن أول -بمعنى حرف- فإنه قد ضل في إثبات ما أثبته الله لنفسه؛ لأن التحريف لا يفضي إلا إلى ضلال، ولا يوصل إلا إلى عطب، فلا يصح الإيمان بالرؤية إلا بالتسليم للنصوص، وإثبات الرؤية على ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. يقول: (إذ كان تأويل الرؤية) التأويل المراد به هنا التحريف. واعلم أن التأويل في الأصل معناه التفسير، لكن المشبهين استعملوا هٰذا اللفظ في طريقة سلكوها حقيقتها التحريف، فسموا تحريف النصوص تأويلا، وهم كاذبون، فإن النصوص التي عطلوها بما يسمى التأويل حقيقة فعلهم فيها أنهم حرفوها وعطلوها عن معانيها. يقول رحمه الله: (إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التأويل) الباطل والتسليم للنص، يقول: (ولزوم التسليم). فالتأويل الذي ينبغي أن تفسر به النصوص ما جاء عن السلف، وغير ذلك -من التأويل الذي يسميه أصحابه تأويلا وحقيقته تحريف- ضلال وباطل. يقول رحمه الله: (وعليه دين المسلمين) أي ترك التأويل الباطل المنحرف عليه دين المسلمين، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يدخلوا في النصوص مؤولين تأويلا يعطلها عن معانيها أو يحرفها عما دلت عليه. ثم قال رحمه الله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه). المؤلف رحمه الله ذكر في هٰذا المقطع البدعتين الرئيستين فيما يتعلق بالأسماء والصفات: بدعة التمثيل. وبدعة التأويل، التحريف الباطل. يقول رحمه الله: (ومن لم يتوق النفي) هٰذا طريق من؟ طريق المؤولة أهل التحريف والتعطيل، سواء تعطيلا كليا كالجهمية، أو جزئيا كالمعتزلة والأشاعرة وبعض مثبتة الصفات. يقول: (والتشبيه) المراد به التمثيل.  من لم يتوق هاتين البدعتين: بدعة أهل التعطيل، وبدعة أهل التمثيل، زل، لا إشكال أنه زل- والزلل الخروج عن الطريق المستقيم- (زل ولم يصب التنزيه) يعني: لم يصب ما قصده من تنزيه رب العالمين، فإن تنزيه الله جل وعلا لا يكون إلا من طريق الكتاب والسنة. وكل من اقترح طريقا ينزه فيه الرب جل وعلا خارجا عن الكتاب والسنة فإنه لم يصب التنزيه، بل التنزيه الكامل التام في كلام الله  عزوجل  وفي كلام رسوله؛ لأن الكلام عن الله  عزوجل  كلام عن غيب، والغيب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالوحي. ولذلك تمام التنزيه في قول الله وقول رسوله والتزام ما جاء في الكتاب والسنة. (ومن لم يتوق النفي والتشبيه) التعطيل والتمثيل (زل ولم يصب التنزيه) وهٰذا فيه الرد عليهم؛ لأنهم قالوا: إنما نؤول حتى ننزه الله جل وعلا. فيقال لهم: ليس في تأويلكم تنزيه للرب جل وعلا، بل في تأويلكم إثبات النقص له سبحانه وتعالى عما تقولون علوا كبيرا. ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: كل من أول النصوص لشبهة يروم بها تنزيه الرب سبحانه وتعالى لزمه على قوله أعظم مما فر منه. فالذين يؤولون الرؤية ويقولون: إن قوله تعالى:  {لا تدركه الأبصار}  ([23]) يعني لا يرى، تنزيها له عن أن يكون في جهة، أو عن أن يكون جسما كما يزعمون، فلازم الرؤية عندهم أن يكون جسما. قلنا لهم: أنتم فررتم من التجسيم وفررتم من أن يكون في جهة ووقعتم في أعظم من ذلك، وهو أن شبهتموه بالعدم؛ لأن الذي لا يرى هو العدم، والعدم أقل شأنا من الموجودات، فالموجودات أكمل من العدم، وهلم جرا فإنهم ما فروا من باطل إلا ووقعوا في باطل أعظم منه. ˜˜¹™™ بسم الله الرحمٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين: قال المؤلف رحمه الله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه). تكلمنا عن هٰذا في الدرس السابق، وقلنا: إن هٰذا المقطع فيه النهي عن بدعتين عظيمتين حصل بهما الضلال الكبير لكثير من الخلق في باب الأسماء والصفات، فيما أخبر الله جل وعلا به عن نفسه. وهاتان البدعتان هما: بدعة التعطيل، وبدعة التمثيل. بدعة التعطيل في قول المؤلف: (النفي). وبدعة التمثيل في قول المؤلف  (والتشبيه). فمن لم يتوق التعطيل والتمثيل زل عن الصراط المستقيم، ولم يصب التنزيه الذي قصده في تعطيله أو في تمثيله. ثم قال رحمه الله في التعليل للجملة السابقة: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية). الوحدانية مأخوذة من اسم الله الواحد، والواحد اسم من أسماء الله  عزوجل ، كما قال الله جل وعلا:  {إلهكم إله واحد} ([24]). فالله  سبحانه وتعالى  واحد في صفاته، واحد في أفعاله، واحد في أسمائه، واحد فيما يجب له، فهو  سبحانه وتعالى  لا شريك له. وبعض العلماء يقول: الوحدانية مأخوذة من اسم الله  عزوجل  الأحد في قوله تعالى:  {قل هو الله أحد} ([25]). لكن الظاهر أنه ليس بصواب؛ لأن الأحد ينسب إليه المعنى الأحدية، لكن هنا قال: (الوحدانية) فهي مأخوذة من اسمه الواحد.  قال رحمه الله: (منعوت بنعوت الفردانية). منعوت أي موصوف، فالنعت والوصف معنى واحد، وبعضهم يفرق بين النعت والوصف، لكن الذي جرى عليه أكثر العلماء على أن الوصف والنعت لفظان مترادفان معناهما واحد. فقوله رحمه الله: (منعوت بنعوت الفردانية) أي موصوف جل وعلا بصفات الفردانية، والفردانية مأخوذة من الفرد، والفرد ليس اسما لله  عزوجل ، فإنه لم يثبت ثبوتا يعتد به ويلحق هٰذا الوصف بأسمائه، لكنهم قالوا: إنه مأخوذ من قوله تعالى:  {الله الصمد} ([26]) فهو من معاني اسمه الصمد الذي  {لم يلد ولم يولد} ([27]) فهو فرد  سبحانه وتعالى . قال رحمه الله: (ليس في معناه أحد من البرية). (ليس في معناه) أي لا يثبت لأحد من البرية معنى من معانيه، ولا يثبت له  سبحانه وتعالى  ما يثبت للمخلوق، فلا يثبت للخالق جل وعلا معنى من معاني الخلق، كما أن الخلق لا يثبت لهم شيء من صفات الرب، فقوله: (ليس في معناه) أي في معنى الله جل وعلا وما ثبت له من الصفات العظيمة الجليلة أحد من البرية، وهٰذا فيه نفي التمثيل. والمؤلف رحمه الله يبدئ ويعيد في تقرير نفي التمثيل؛ لكون هٰذا من أعظم ما يسلم به الإنسان من التعطيل والتمثيل. فإن المعطل إنما عطل لما مثل صفات الرب جل وعلا بصفات العبد، وعظم في صدره أن يكون الرب كالعبد عطل ما أخبر الله به عن نفسه لشبهة التمثيل. ولذلك أبدأ المؤلف رحمه الله وأعاد في نفي هٰذه البدعة؛ لأنها أصل الضلالات في باب الأسماء والصفات. فإن المعطلة إنما عطلوا بعدما مثلوا. وكذلك الممثلة وقعوا في هٰذه البدعة بعدما توهموا تمثيل الخالق بخلقه، وأن له جل وعلا مثيلا. قال رحمه الله: (وتعالى عن الحدود والغايات..) ما قرأته؟ ثم قال رحمه الله: (فإن ربنا جل وعلا) هٰذا كالتعليل للعبارة السابقة (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية). نعلق على هٰذا إن شاء الله في الدرس القادم. نقتصر على ما مضى والله تعالى أعلم.   ([1])سورة : القيامة(22-23). ([2]) سورة : المطففين (15). ([3]) سورة : الأعراف ( 143). ([4])مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، حديث رقم (169). ([5])سورة : الأنعام (103).        ([6])سورة : الأنعام ( 103).       ([7]) قال الشيخ صالح آل الشيخ في الرد على من استدلوا بنفي الإحاطة على نفي الرؤية في شرحه على الطحاوية: وكما قال جل وعلا: {فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون(61)قال كلا} [الشعراء:61-62]. ووجه الدلالة أنه نفى الإدراك، ومع نفي الإدراك أثبت الله جل وعلا الترائي وهو رؤية كل جمع للآخر، فقال: {فلما تراء الجمعان}  هٰذا الجمع رأى ذاك الجمع،وذاك الجمع رأىهٰذاالجمع، ومع ذلك {قال أصحاب موسى إنا لمدركون}  فقال موسى: {كلا} .يعني لن ندرك، يعني لن يحاط بنا، فنفي الإحاطة لا يستلزم أن تنفى الرؤية. ([8])سورة : القيامة(22-23). ([9])سورة : النجم (3-4).       ([10]) سورة : الحديد (13). ([11])سورة : المطففين (23).      ([12])سورة : يونس (26).       ([13]) مسلم برقم / 266. ([14])سورة : ق (35).            ([15])سورة : القيامة (23).        ([16])البخاري:كتاب الأذان، باب فضل السجود، حديث  رقم (806)، بلفظ (تمارون).      مسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، حديث رقم (182).         ([17])سورة : الشورى ( 11).     ([18])سورة : الإسراء (36).       ([19])سورة : النساء (65).         ([20])سورة : ق(5). ([21]) وأكثر. ([22])سورة : الشورى (11).      ([23])سورة : الأنعام (103). ([24])سورة : النحل (22). ([25])سورة : الإخلاص (1). ([26])سورة : الإخلاص(2). ([27])سورة : الإخلاص (3).

المشاهدات:3881

بسم الله الرحمـٰن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على الرسول الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام الطحاوي رحمه الله:

(وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّلأَهْلِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ،  كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا:  {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ([1]). وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ.

وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الرَّسُولِ  صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَ، لا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا، فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلاَّ مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ  عزوجل  وَلِرَسُولِهِ  صلى الله عليه وسلم، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ. 

وَلا تَثْبُتُ قَدَمُ الإِسْلامِ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالاسْتِسْلامِ، فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ، حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ، وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ، وَصَحِيحِ الإِيمَانِ، فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ، مُوَسْوَسًا تَائِهًا، [زَائِغًا] شَاكًّا، لا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلا جَاحِدًا مُكَذِّبًا.

وَلا يَصِحُّ الإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لأَهْلِ دَارِ السَّلامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ، إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ.  وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ).

التعليق:

 الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فهٰذا المقطع قرر فيه المؤلف رحمه الله عقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق برؤية الرب جل وعلا، فقال رحمه الله: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأَهْلِ الْجَنَّةِ). (حَقٌّ) أي ثابتة حقيقةً لا مجازاً، فالحق هو الشيء الثابت الذي لا شبهة فيه ولا مرية، وقوله رحمه الله: (لأَهْلِ الْجَنَّةِ) هٰذا فيه بيان أعلى ما يكون من الرؤية، فإنّ الرؤية التي يحصل بها التنعيم وهي فضل الله جل وعلا ومنته وإحسانه وكرمه، وأعظم ما يُنعّم به أهل الجنة هي ما يكون من الرؤية لأهل الجنة.

فقوله رحمه الله: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأَهْلِ الْجَنَّةِ) يُخرج أهل النار، فإن أهل النار لا يرونه، ويخرج أيضاً أهل الدنيا، فإن أهل الدنيا لا يرونه، ويبقى رؤية الناس للرب جل وعلا قبل دخول الجنة في أرض المحشر، فإنها ثابتة كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي  صلى الله عليه وسلم.

واختلف أهل العلم هل يرى الربَّ سبحانه وتعالى الكفارُ في الموقف أو لا يرونه؟ على أقوال:

فمنهم من نفى الرؤية مطلقاً.

ومنهم من قال: إنهم يرونه.

ومنهم من قال: لا يراه إلا المنافقون، أما الكفار فلا يرونه.

وعلى كل حال فإن الرؤية التي تكون لأهل الموقف هي لأهل الإيمان رؤية تعريف، وأما أهل الكفر أو النفاق فإنها رؤية حسرة وعذاب، وليست رؤية تنعيم.

ولا ينبغي ولا يسوغ أن يقال على وجه الإطلاق: إن الكفار يرون ربهم، بل لا بد من تقييد ذلك -على القول بأنهم يرونه-، فإن إطلاق الرؤية لا يكون إلا على وجه التنعيم، وهٰذا لا يكون إلا لأهل النعيم، وهم أهل الجنة.

أما الرؤية في النار فلا تكون لأهل النار:  {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} .([2])

وأما في الدنيا فإنّه لا يُرى جل وعلا في الدنيا، كما قال سبحانه وتعالى لما طلب موسى رؤيته، قال له:  {لَنْ تَرَانِي}  ([3])، وقال النبي  صلى الله عليه وسلم:((واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه قبل أن يموت))([4]). فدل ذلك على أن الرؤية بالعين ممتنعة في الدنيا.

أما رؤية الفؤاد فإنها حصلت للنبي  صلى الله عليه وسلم.

وكذلك رؤيا المنام أو الرؤية في المنام فقد حصلت له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وما نقل عن الإمام أحمد وابن عباس رضي الله عنهما من إثبات الرؤية في الدنيا فإن المنقول عنهما مطلق، يعني الرؤية مطلقاً، لم يقيداها برؤية العين، وفي بعض الروايات وردت مقيدة، فالمطلق يحمل على المقيد، ولم ينقل عنهما أنهما قالا: إنه رآه بعينه سبحانه وتعالى، أي إن النبي  صلى الله عليه وسلم رأى الرب سبحانه وتعالى بعينه في الدنيا.

فقول المؤلف رحمه الله: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأَهْلِ الْجَنَّةِ) أي ثابتة لا مرية فيها، ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة وسلف الأمة.

وقد أنكر الرؤية طوائف:

أول من أحدث إنكار الرؤية الجهمية، حيث أنكروا أن يُرى الرب سبحانه وتعالى، فقالوا: لا يرى.

تبعهم على ذلك المعتزلة.

ووافقهم الخوارج.

ووافقهم كذلك متأخرو الإمامية، أما متقدمو الإمامية الرافضة فإنهم يثبتون الرؤية، لكن المتأخرين منهم أنكروها؛ لأن متأخري الإمامية على مذهب الاعتزال، فهم معتزلة في الاعتقاد.

كذلك ممن ضل في الرؤية بعض مثبتة الصفات، كالأشاعرة والكلابية والماتريدية، فإنهم أثبتوا الرؤية لكن على غير طريق أهل السنة والجماعة، وحقيقة قولهم عند المحققين أنه لا رؤية؛ لأنهم يقولون: يُرَى من غير معاينة ولا في جهة، وهٰذا قول في غاية السقوط؛ لأنه لا يمكن أن يرى الشيء إلا في جهة، فقولهم: يرى من غير معاينة ولا في جهة، حقيقته -كما قال محققوهم- أنه لا يرى، فهُم وافقوا من حيث حقيقة القول، وافقوا نفاة الرؤية.

أما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون الرؤية، وحجتهم في ذلك:

كتاب الله جل وعلا، فإنه قد جاء إثبات الرؤية في الكتاب تصريحاً وتعريضاً.

وأما السنة فقد ورد ذلك متواتراً عن النبي  صلى الله عليه وسلم، رواه أكثر من ثلاثين من الصحابة رضي الله عنهم.

وأما الأقوال الواردة عن السلف فهي أكثر من أن تحصى في إثبات رؤية المؤمنين لرب العالمين.نسأل الله من فضله.

يقول رحمه الله في الرؤية التي يثبتها أهل السنة والجماعة،يقول: (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ).  (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ) لقوله تعالى:  {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ([5]). فإنّ إثبات أهل السنة والجماعة لرؤية الرب سبحانه وتعالى لا إحاطة فيها؛ لأنه  سبحانه وتعالى  الكبير الواسع العظيم الذي جلّ أن يحيط به عباده، وعلا قدره أن تدركه أبصار خلقه، قال أبو سعيد الخدري  رضي الله عنهم   في قوله تعالى:  {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ([6]): لو أن الملائكة والإنس والجن والشياطين، منذ خلق الله الخلق إلى آخر واحد منهم، صفوا صفّاً واحداً، ونظروا إلى الرب لما أحاطوا به، فكيف يحيط به نظر واحد من خلقه؟

وهٰذا كله يدلك على أن معنى الآية نفي الإحاطة لا نفي الرؤية، فإن الآية ليس فيها أنه لا يرى، بل فيها نفي إدراكه:  {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} . ونفي الإدراك أمر زائد على نفي الرؤية، بل هو غير نفي الرؤية، فإن الإنسان ينظر إلى أشياء كثيرة لا يدركها، إما لعظم خلقها، أو لشدة فيها.

فمثلاً الشمس يراها كل أحد ممن له بصر ونظر، لكن هل يدركها الناظر إليها؟ الجواب: لا.

دع الشمس، إذا أقبلت على المدينة من بُعد ورأيت المدينة هل تدركها؟ فإذا قلت: لا أدرك هٰذه المدينة لسعة أطرافها، هل هٰذا نفي لرؤيتها؟ الجواب: لا، لا تلازم بين نفي الرؤية ونفي الإدراك، فإن نفي الإدراك هو نفي للإحاطة([7]).

وأما نفي الرؤية فإنه لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، بل على العكس الأدلة في الكتاب والسنة دالة على ثبوت الرؤية لأهل الإيمان.

وقوله رحمه الله: (وَلا كَيْفِيَّةٍ). هٰذا كسائر الصفات، أي إننا نثبت الرؤية من غير تكييف، كسائر ما نثبته لله  عزوجل  من الصفات، وهٰذا فيه الرد على من يقول: إنه يلزم من أنه يُرى أنه جسم، ويلزم من أنه جسم أن يكون متحيزاً، ويلزم من هٰذا أن...، لوازم كلها باطلة، ويلزم أن يكون له مكان يحيط به، وما أشبه ذلك من اللوازم الباطلة. ونحن نقول: نثبت ما أثبته الله لنفسه من غير هٰذه اللوازم، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.

قال رحمه الله:(كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا:  {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ([8])). (كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا) نطق أي تكلم به، وبعض الناس يتحاشى من أن يقول: نطق الكتاب بكذا، والظاهر أنه لا بأس بهٰذا اللفظ، وقد استعمله شيخ الإسلام رحمه الله في كثير من كلامه، وكذلك ابن القيم، وهو مستفاد من قوله تعالى:  {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ([9]). فلعله مأخوذ من هٰذا، مع أن النطق في الآية مضاف إلى النبي  صلى الله عليه وسلم.

يقول: (كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا). أي القرآن العظيم فقط، ثم ذكر أعظم ما يستدل به على إثبات الرؤية من القرآن، وهو قوله تعالى:  {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . وهٰذه الآية هي أقوى ما في كتاب ربنا جل وعلا من إثبات رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، حيث قال:  {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}  فأضاف النظر إلى الوجوه.

ومعلوم أن النظر يكون بالوجوه؛ لأنه محلها، فالعينان محلهما الوجه، ولذلك أضاف النظر إلى الوجه، ثم إنه عدّى النظر بـ(إلى)، ولا يكون ذلك إلا في نظر العين، لا يستعمل النظر معدّىً بـ(إلى) إلا فيما ينظر بالعين، ثم قال  سبحانه وتعالى :  {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}  وهٰذا لنظرها إلى الرب سبحانه وتعالى، فاكتسبت من نظرها إلى الله جل وعلا نضارة، كل هٰذا من الدلائل في هٰذه الآية على أن النظر هو النظر إلى الرب  سبحانه وتعالى .

أما أهل التحريف الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه فقالوا: إن قوله تعالى:  {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}  أي منتظرة، منتظرة تنتظر فضل الله ورحمته، وقالوا: إن هٰذه المادة تستعمل في الانتظار، ومن ذلك قول المنافقين لأهل الإيمان:  {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} ([10]).

فالجواب على هٰذا التحريف:أن في الآية ما ينفي تفسير النظر بالانتظار، فإن الله جل وعلا ساق هٰذه الآية في مساق التنعيم، ومعلوم أنه ليس من تنعيم أهل الجنة الانتظار؛ لأن الانتظار فيه إيلام، وإنما هو النظر إلى الرب  سبحانه وتعالى  الذي هو غاية نعيم أهل الجنة.

ثم إنه لا يمكن أن يكون قوله تعالى:  {نَاظِرَةٌ}  بمعنى منتظرة وقد عدي بـ(إلى) الدالة على أن النظر للعين.

ثم إنه من وجه ثالث أن النظر هنا أضيف إلى الوجه، ومعلوم أن الانتظار لا يضاف إلى الوجه.

فدل ذلك على أن قوله تعالى:  {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}  ما فهمه سلف الأمة، ودل عليه الكتاب والسنة من أن النظر هنا هو النظر إلى الرب جلا وعلا، كقوله تعالى في نعيم أهل الجنة:  {عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} ([11]). فإن السلف فسروها بالنظر إلى الرب  سبحانه وتعالى ، وكقوله تعالى:  {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ([12]). فالزيادة فسرها صديق الأمة بالنظر إلى الرب جل وعلا، بل ورد ذلك في تفسير النبي  صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث صهيب([13]). والمزيد فسره أبو بكر وغيره بالنظر في قوله تعالى:  {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ([14]).

قال رحمه الله: (وَتَفْسِيرُهُ) أي تفسيره، تفسير النظر في قوله تعالى:  {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ([15]). (عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ). وهٰذا فيه الرد على تأويل وتحريف المحرّفين لهٰذه الآية، فإن تفسير النظر هنا على ما أراد الله تعالى وعلمه، والمراد بالتفسير هنا الكيفية، وإلا فالتفسير في المعنى أي إدراك معنى هٰذا الكلام فهو على ما أراد الله تعالى وعلمناه نحن من مقتضى اللغة، وما نُقل من تفسير الصحابة رضي الله عنهم، فهٰذا أمر لا يختص به الله، لكن الذي يختص به الله من التفسير هو إيش؟ هو معرفة حقيقة ما أخبر الله  سبحانه وتعالى  به عن نفسه، علم حقيقة ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه هو الذي لا يعلمه إلا هو  سبحانه وتعالى .

ثم قال رحمه الله: (وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الرَّسُولِ  صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَمَا قَالَ). (كُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ). المشار إليه الرؤية (مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الرَّسُولِ  صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَمَا قَالَ). يعني: لا نحرّفه ولا نؤوله تأويلاً مذموماً، بل نفسره ونمضيه على ظاهره، وهو رحمه الله يشير بهٰذا إلى ما جاء من الأحاديث الدالة على إثبات الرؤية.

ومنها حديث أبي هريرة  رضي الله عنهم   في الصحيحين، وفيه أن النبي  صلى الله عليه وسلم سأله أناس: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال لهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا. قال: ((هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟)) قالوا: لا. قال: ((فإنكم سترونه كما ترون هذين أو كما ترون ذلك))([16]). أي كما ترون الشمس ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر في إبداره ليس دونه سحاب.

ومعلوم أن أكمل ما يُرى في الدنيا إدراكاً مما هو عظيم، يعني أكمل ما يرى في الدنيا وضوحاً ويدركه كل أحد هو الشمس ليس دونها سحاب، والقمر ليلة الإبدار ليس دونه سحاب، فشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤية بالرؤية، وشبهها بأعظم ما يرى في الدنيا وهو رؤية الشمس والقمر، وليس فيه تشبيه وتمثيل المرئي بالمرئي؛ بل الله جل وعلا  {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ([17]). فنثبت ما أثبته النبي  صلى الله عليه وسلم من الرؤية على ما جاء من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

ثم قال: (وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَ، لا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا). يُبطل تأويلات المحرفين الذين حرفوا الكلم عن مواضعه وحملوا الكلام على غير ظاهره؛ ليثبتوا ما عقدوه قبل أن ينظروا في النصوص من إبطال الرؤية، ونفي ما دلت عليه النصوص. (لا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ) يعني فيما قاله الله وفيما قاله رسوله  صلى الله عليه وسلم في شأن الرؤية، بل وفي غيرها (لا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا). ثم قال رحمه الله في قاعدة مهمة،قال: (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ). والسلامة هي النجاة من العطب (مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلاَّ مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ  عزوجل  وَلِرَسُولِهِ  صلى الله عليه وسلم). لا إشكال أنه لا سلامة لأحد إلا بالتسليم لله ورسوله، والتسليم يكون لله ولرسوله، يكون بقبول ما جاء عن الله وعن رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل ينقاد ويقبل ما جاءت به النصوص دون تأويل وتحريف.

قال: (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ). وهٰذا فيه الأدب فيمن أشكل عليه شيء من النصوص فضاق عنها فهمه ولم يدركها عقله، الواجب عليه في ذلك أن يرد علم ما اشتبه عليه، يعني:اختلط والتبس إلى عالمه، فيقول: الله أعلم بمراده، ولا يدخل في ذلك بتأويل فاسد ولا بوهم باطل، بل يسلم لله ورسوله، فإذا قصر فهمه عن شيء مما أخبر الله به عن نفسه وجب عليه أن يرد ذلك إلى عالمه، كما قال الله جل وعلا:  {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ([18]). فنهى الله  سبحانه وتعالى  عن اتباع ما ليس للإنسان فيه علم.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله مثالاً لهٰذا في تفسير اسم الظاهر الباطن الأول الآخر، فإنه أطال في الكلام عن هٰذه الأسماء وبيانها، ثم قال بعد أن بين المعاني في هٰذه الأسماء، قال: فإن ضاق عن ذلك فهمك فجاوزه على حد قول القائل:

وجاوزه إلى ما تستطيع
 

 

إذا لم تستطع شيئاً فدعه
 

 

 يعني: إذا كان قصر فهمك ولم يتسع ذهنك إلى فهم معاني كلام الله  عزوجل ، فليس هٰذا مسوغاً لرده-أي كلام الله- ولا إلى التكذيب به ولا إلى تحريفه، بل الواجب عليك أن تسلم للنصوص وتقول: الله أعلم بمراده، لم أفهم هٰذا، الله أعلم بمراده، ولا يجوز لك أن تقول: ليس لها معنى، بل لها معنى ضاق عنه فهمك، والناس أفهام، فرُدّ علم ما اشتبه عليك واختلط إلى عالمه، ولا تدخل في ذلك بتحريف ولا تعطيل.

قال: (وَلا تَثْبُتُ قَدَمُ الإِسْلامِ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالاسْتِسْلامِ). وهٰذا لا إشكال فيه، فإنه من دخل فيما أخبر الله به عن نفسه على وجه المنازعة والمعارضة فإنه لا تثبت قدمه على الحق، بل يزيغ عن الصراط المستقيم، ويقع في مهاوي الضلال، فخير ما يثبت القدم على الإسلام أن يسلم لله  عزوجل ، ولذلك قال: (وَلا تَثْبُتُ قَدَمُ الإِسْلامِ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالاسْتِسْلامِ). التسليم بمعنى الاستسلام، ودليل ذلك قول الله جل وعلا:  {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ([19]). وأكد التسليم بالمصدر تحقيقاً له، وأنه لا يحصل تمام الإيمان إلا بالتسليم التام لما جاء عن الله وعن رسوله، وكل من عارض كلام الله وكلام رسوله بالشبه والعقول الفاسدة والآراء الباطلة لم يحصل له الثبات على الإسلام.

يقول رحمه الله: (فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ). ما الذي حُظر عنا علمه؟ علم الكيفيات، وعلم ما لم يخبر به الله ورسوله من الصفات. فكل (مَنْ رَامَ) أي طلب (عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ) أي في ما جاء الخبر عنه؛ لأنه هناك ما منعنا من النظر فيه، وهو ما يتعلق بكيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وهناك ما أخبرنا به، وهو الصفات التي جاء الخبر عنها في الكتاب والسنة.

فما أخبرنا به الواجب فيه التسليم.

وما منعنا من النظر فيه -وهو الكيفيات- الواجب فيه عدم النظر وعدم الطلب.

(فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ) وهو في الكيفيات (وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ) فيما أخبرنا عنه، وما جاء الخبر فيه عن كتاب الله وسنة رسوله (حَجَبَهُ مَرَامُهُ) أي مطلوبه (عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ). ما فيه إشكال، يحجب عن خالص التوحيد، ويقع في أنواع من الاشتباه والشرك (وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ، وَصَحِيحِ الإِيمَانِ). فلا يصح إيمانه، ولا تتم معرفته بربه، ولا يحصل له كمال التوحيد وصافي التوحيد.

لأن كمال التوحيد فرع عن كمال الإيمان بالأسماء والصفات، وهٰذا مما يدلك على أن التوحيد مرتبط بعضه ببعض، فالخلل في توحيد الأسماء والصفات يؤثر وينجرّ على توحيد الإلهية، ويفضي إلى نقص في توحيد الإلهية، ونقص في توحيد الربوبية، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات الدالة على كماله وعظيم قدره جل وعلا فإنه يَنقص قدر توحيده لربه سبحانه وتعالى.

ولذلك لا يعد الخلل في نوع من أنواع التوحيد مقصوراً عليه، بل في الغالب إذا تأملت وجدت أن الخلل في توحيد الإلهية ناشئ عن خلل في توحيد الأسماء والصفات أو توحيد الربوبية ولا بد.

يقول رحمه الله: (فَيَتَذَبْذَبُ) هٰذا فيه الثمرة، فالفاء هنا للتفريع، لبيان ما الذي يثمره طلب علم ما حظر عنه وعدم القناعة والتسليم بما جاءت به النصوص؟ ما الذي يثمره؟

يقول: (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ) فهو في أمر مريج، وهٰذا الذي قال الله جل وعلا عنه في قوله تعالى:  {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} ([20]) أمر مضطرب، وهٰذا شأن كل من كذب بالحق قليلاً أو كثيراً، فإن شأن المكذبين بالحق الذين لا ينقادون له ولا يقبلونه أن يكونوا في اضطراب عظيم، فَيَتَذَبْذَبُون بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ، وَبين التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ.

 قال رحمه الله: (مُوَسْوَسًا تَائِهًا، [زَائِغًا] شَاكًّا، لا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلا جَاحِدًا مُكَذِّبًا). وهٰذا مطابق لحال من لم يسلم للنصوص القياد، فإنهم لم يحصوا علماً ولم يدركوا مطلوباً ولا معرفةً بالرب سبحانه وتعالى، بل هم تائهون شاكون، لم يتحقق لهم تمام الإيمان والتصديق، ولم يسلموا من اعتراضات الجاحدين المكذبين. ومن قرأ كلامهم، ورأى مقال من سلك طريق التشبيه عَلِمَ صدق ذلك.

فإذا نظرت إلى ما ذكره الرازي على سبيل المثال، ما ذكره صاحب إحياء علوم الدين الغزالي، وما وجداه في هٰذا الطريق من العطب والضلال وأنهما لم يسلما ولم يطمئنا إلا بالنظر والتسليم للنصوص علمت أن ما قاله المؤلف رحمه الله مطابق للواقع.

ويكفي في هٰذا ما أنشده الرازي حيث قال:

وغاية([21]) سعي العالمين ضلال
 

 

نهاية إقدام العقــول عقال
 

 

               

والعالمين المراد بهم من ترك طريق أهل السنة والجماعة، ودخل في علم الأسماء والصفات وما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى بعقله متأولاً، ولذلك قال:

..................................

 

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
 

 

  

يعني: طوال هٰذا الكد والسعي والبذل والتأليف والكتابة

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
 

 

...................................

 

   

 والعجيب أنهم في مؤلف واحد تجد أن الواحد منهم يثبت في أول المؤلف ما ينفيه في آخره.  

بل بعضهم يقول: ونفي هٰذا كفر، ثم تجده في آخر المؤلف يقول بنقيض ذلك، فيثبت ما جعل إثباته أو ينفي ما جعل نفيه كفراً، وهٰذا غاية الاضطراب. نسأل الله السلامة والعافية.

وهٰذا حال كل من كذب بالحق كما دلت عليه الآية.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَلا يَصِحُّ الإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لأَهْلِ دَارِ السَّلامِ) -جعلنا الله وإياكم من أهلها-  (لأَهْلِ دَارِ السَّلامِ) الجنة (لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ).

يقول رحمه الله:(لا يَصِحُّ الإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ) أي لا يتم الإيمان بالرؤية (لأَهْلِ دَارِ السَّلامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ). يعني: من مثلها أو أولها، فإن من مثل وقع في الضلال؛ لأن الله جل وعلا يقول:  {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ([22]). ومن أول -بمعنى حرّف- فإنه قد ضل في إثبات ما أثبته الله لنفسه؛ لأن التحريف لا يفضي إلا إلى ضلال، ولا يوصل إلا إلى عطب، فلا يصح الإيمان بالرؤية إلا بالتسليم للنصوص، وإثبات الرؤية على ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

يقول: (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ) التأويل المراد به هنا التحريف.

واعلم أن التأويل في الأصل معناه التفسير، لكن المشبهين استعملوا هٰذا اللفظ في طريقة سلكوها حقيقتها التحريف، فسمّوا تحريف النصوص تأويلاً، وهم كاذبون، فإن النصوص التي عطلوها بما يسمى التأويل حقيقة فعلهم فيها أنهم حرفوها وعطلوها عن معانيها.

يقول رحمه الله: (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ) الباطل والتسليم للنص، يقول: (وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ).

فالتأويل الذي ينبغي أن تُفسر به النصوص ما جاء عن السلف، وغير ذلك -من التأويل الذي يسميه أصحابه تأويلاً وحقيقته تحريف- ضلال وباطل.

يقول رحمه الله: (وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ) أي ترك التأويل الباطل المنحرف عليه دين المسلمين، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يدخلوا في النصوص مؤولين تأويلاً يعطلها عن معانيها أو يحرفها عما دلت عليه.

ثم قال رحمه الله: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ). المؤلف رحمه الله ذكر في هٰذا المقطع البدعتين الرئيستين فيما يتعلق بالأسماء والصفات:

بدعة التمثيل.

وبدعة التأويل، التحريف الباطل.

يقول رحمه الله: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ) هٰذا طريق من؟ طريق المؤولة أهل التحريف والتعطيل، سواءً تعطيلاً كلياً كالجهمية، أو جزئياً كالمعتزلة والأشاعرة وبعض مثبتة الصفات.

يقول: (وَالتَّشْبِيهَ) المراد به التمثيل.

 من لم يتوقَّ هاتين البدعتين: بدعة أهل التعطيل، وبدعة أهل التمثيل، زل، لا إشكال أنه زل- والزلل الخروج عن الطريق المستقيم- (زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) يعني: لم يصب ما قصده من تنزيه رب العالمين، فإن تنزيه الله جل وعلا لا يكون إلا من طريق الكتاب والسنة.

وكل من اقترح طريقاً ينزه فيه الرب جل وعلا خارجاً عن الكتاب والسنة فإنه لم يصب التنزيه، بل التنزيه الكامل التام في كلام الله  عزوجل  وفي كلام رسوله؛ لأن الكلام عن الله  عزوجل  كلام عن غيب، والغيب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالوحي.

ولذلك تمام التنزيه في قول الله وقول رسوله والتزام ما جاء في الكتاب والسنة. (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ) التعطيل والتمثيل (زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) وهٰذا فيه الرد عليهم؛ لأنهم قالوا: إنما نؤول حتى ننزه الله جل وعلا. فيقال لهم: ليس في تأويلكم تنزيه للرب جل وعلا، بل في تأويلكم إثبات النقص له سبحانه وتعالى عما تقولون علوّاً كبيراً.

ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: كل من أول النصوص لشبهة يروم بها تنزيه الرب سبحانه وتعالى لزمه على قوله أعظم مما فرّ منه.

فالذين يؤولون الرؤية ويقولون: إن قوله تعالى:  {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}  ([23]) يعني لا يرى، تنزيهاً له عن أن يكون في جهة، أو عن أن يكون جسماً كما يزعمون، فلازم الرؤية عندهم أن يكون جسماً.

قلنا لهم: أنتم فررتم من التجسيم وفررتم من أن يكون في جهة ووقعتم في أعظم من ذلك، وهو أن شبهتموه بالعدم؛ لأن الذي لا يرى هو العدم، والعدم أقل شأناً من الموجودات، فالموجودات أكمل من العدم، وهلم جرّاً فإنهم ما فرّوا من باطل إلا ووقعوا في باطل أعظم منه.

˜˜¹™™

بسم الله الرحمـٰن الرحيـم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين:

قال المؤلف رحمه الله: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ). تكلمنا عن هٰذا في الدرس السابق، وقلنا: إن هٰذا المقطع فيه النهي عن بدعتين عظيمتين حصل بهما الضلال الكبير لكثيـر من الخلق في باب الأسمـاء والصفات، فيما أخبر الله جل وعلا به عن نفسه.

وهاتان البدعتان هما: بدعة التعطيل، وبدعة التمثيل.

بدعة التعطيـل في قول المؤلف: (النَّفْيَ).

وبدعة التمثيل في قول المؤلف  (وَالتَّشْبِيهَ).

فمن لم يتوقّ التعطيل والتمثيل زلّ عن الصراط المستقيم، ولم يصب التنزيه الذي قصده في تعطيله أو في تمثيله.

ثم قال رحمه الله في التعليل للجملة السابقة: (فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ). الوحدانية مأخوذة من اسم الله الواحد، والواحد اسم من أسماء الله  عزوجل ، كما قال الله جل وعلا:  {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ([24]). فالله  سبحانه وتعالى  واحد في صفاته، واحد في أفعاله، واحد في أسمائه، واحد فيما يجب له، فهو  سبحانه وتعالى  لا شريك له.

وبعض العلماء يقول: الوحدانية مأخوذة من اسم الله  عزوجل  الأحد في قوله تعالى:  {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ([25]). لكن الظاهر أنه ليس بصواب؛ لأن الأحد ينسب إليه المعنى الأحدية، لكن هنا قال: (الْوَحْدَانِيَّةِ) فهي مأخوذة من اسمه الواحد.

 قال رحمه الله: (مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ). منعوت أي موصوف، فالنعت والوصف معنى واحد، وبعضهم يفرق بين النعت والوصف، لكن الذي جرى عليه أكثر العلماء على أن الوصف والنعت لفظان مترادفان معناهما واحد.

فقوله رحمه الله: (مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ) أي موصوف جل وعلا بصفات الفردانية، والفردانية مأخوذة من الفرد، والفرد ليس اسماً لله  عزوجل ، فإنه لم يثبت ثبوتاً يعتد به ويلحق هٰذا الوصف بأسمائه، لكنهم قالوا: إنه مأخوذ من قوله تعالى:  {اللَّهُ الصَّمَدُ} ([26]) فهو من معاني اسمه الصمد الذي  {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ([27]) فهو فرد  سبحانه وتعالى .

قال رحمه الله: (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ). (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ) أي لا يثبت لأحد من البرية معنى من معانيه، ولا يثبت له  سبحانه وتعالى  ما يثبت للمخلوق، فلا يثبت للخالق جل وعلا معنى من معاني الخلق، كما أن الخلق لا يثبت لهم شيء من صفات الرب، فقوله: (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ) أي في معنى الله جل وعلا وما ثبت له من الصفات العظيمة الجليلة أحد من البرية، وهٰذا فيه نفي التمثيل.

والمؤلف رحمه الله يبدئ ويعيد في تقرير نفي التمثيل؛ لكون هٰذا من أعظم ما يَسْلم به الإنسان من التعطيل والتمثيل.

فإن المعطل إنما عطل لما مثّل صفات الرب جل وعلا بصفات العبد، وعَظُم في صدره أن يكون الرب كالعبد عطل ما أخبر الله به عن نفسه لشبهة التمثيل.

ولذلك أبدأ المؤلف رحمه الله وأعاد في نفي هٰذه البدعة؛ لأنها أصل الضلالات في باب الأسماء والصفات. فإن المعطلة إنما عطلوا بعدما مثلوا.

وكذلك الممثلة وقعوا في هٰذه البدعة بعدما توهموا تمثيل الخالق بخلقه، وأن له جل وعلا مثيلاً.

قال رحمه الله: (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ..) ما قرأتَه؟ ثم قال رحمه الله: (فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا) هٰذا كالتعليل للعبارة السابقة (فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ، لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ). نعلّق على هٰذا إن شاء الله في الدرس القادم.

نقتصر على ما مضى والله تعالى أعلم.

 


([1])سورة : القيامة(22-23).

([2]) سورة : المطففين (15).

([3]) سورة : الأعراف ( 143).

([4])مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، حديث رقم (169).

([5])سورة : الأنعام (103).       

([6])سورة : الأنعام ( 103).      

([7]) قال الشيخ صالح آل الشيخ في الرد على من استدلوا بنفي الإحاطة على نفي الرؤية في شرحه على الطحاوية: وكما قال جل وعلا: {فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61-62]. ووجه الدلالة أنه نفى الإدراك، ومع نفي الإدراك أثبت الله جل وعلا الترائي وهو رؤية كل جمع للآخر، فقال: {فَلَمَّا تَرَاءَ الْجَمْعَانِ}  هٰذا الجمع رأى ذاك الجمع،وذاك الجمع رأىهٰذاالجمع، ومع ذلك {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}  فقال موسى: {كَلَّا} .يعني لن ندرك، يعني لن يحاط بنا، فنفي الإحاطة لا يستلزم أن تنفى الرؤية.

([8])سورة : القيامة(22-23).

([9])سورة : النجم (3-4).      

([10]) سورة : الحديد (13).

([11])سورة : المطففين (23).     

([12])سورة : يونس (26).      

([13]) مسلم برقم / 266.

([14])سورة : ق (35).           

([15])سورة : القيامة (23).       

([16])البخاري:كتاب الأذان، باب فضل السجود، حديث  رقم (806)، بلفظ (تمارون).

     مسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، حديث رقم (182).        

([17])سورة : الشورى ( 11).    

([18])سورة : الإسراء (36).      

([19])سورة : النساء (65).        

([20])سورة : ق(5).

([21]) وأكثر.

([22])سورة : الشورى (11).     

([23])سورة : الأنعام (103).

([24])سورة : النحل (22).

([25])سورة : الإخلاص (1).

([26])سورة : الإخلاص(2).

([27])سورة : الإخلاص (3).

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : أهمية الدعاء ( عدد المشاهدات83197 )
3. خطبة: التقوى ( عدد المشاهدات78237 )
4. خطبة: حسن الخلق ( عدد المشاهدات72548 )
6. خطبة: بمناسبة تأخر نزول المطر ( عدد المشاهدات60684 )
7. خطبة: آفات اللسان - الغيبة ( عدد المشاهدات55031 )
9. خطبة: صلاح القلوب ( عدد المشاهدات52240 )
12. خطبة:بر الوالدين ( عدد المشاهدات49437 )
13. فما ظنكم برب العالمين ( عدد المشاهدات47987 )
14. خطبة: حق الجار ( عدد المشاهدات44833 )
15. خطبة : الإسراف والتبذير ( عدد المشاهدات44139 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف