بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ، لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ. وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ، لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ).
التعليق:
قوله رحمه الله: (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ، لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ). قال بعض الشرّاح: إنها مما أدخل على المؤلف وليست من كلامه، وذلك أن الطحاوي رحمه الله سائر في باب الأسماء والصفات على عقيدة أهل السنة والجماعة، فلم يقرر في هٰذه العقيدة شيئاً يخالف ما عليه سلف الأمة مما يتعلق بالأسماء والصفات.
وما ذكره في هٰذه الجملة ليس من منهج أهل السنة والجماعة، فإن أهل السنة والجماعة سائرون في هٰذا الباب على ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، كما أنهم لا ينفون عن الله إلا ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله.
والمؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع نفى عن الله عزوجل الحدود والغايات والأركان والأعضاء.
وإذا طلبنا هٰذا في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي كلام السلف الصالح لم نجد له ذكراً، فإن هٰذا مما أُحدث بعد القرون المفضلة، ولم يكن عليه سلف الأمة.
ولقائلٍ أن يقول: لماذا تنكرون هٰذه الألفاظ مع أنها توحي للسامع بالتعظيم، ويفهم منها تعظيم الرب جل وعلا؟
نقول: إن هٰذه الكلمات وإن كان قد يظهر منها التعظيم، إلا أن أهل الكلام الباطل المنحرفين عن طريق أهل السنة والجماعة يستعملونها في نفي ما دل عليه الكتاب والسنة.
فقولهم: (تَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ) ينفون به الاستواء، وينفون به العلو. وتَعَالَى عن الْغَايَاتِ ينفون به الحكمة، فيقولون: ليس لأفعال الله غاية ولا حكمة، ويقولون: الغاية إنما تكون للمحتاج، أما الله فهو الغني عن الغايات. وينْفُون بالأركان والأعضاء والأدوات ما أخبر الله به عن نفسه من أن له وجهاً جل وعلا كما في قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} ([1]) ونحو ذلك من الآيات التي فيها إثبات الوجه. وكذلك ينفون عنه بهٰذا الكلام ما أخبر به عن نفسه من أن له يداً، كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ([2])، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ([3]) وما أشبه ذلك.
فهُم يأتون بهٰذه الألفاظ المجملة المبهمة التي تحتمل معنىً صحيحاً وتحتمل معنىً باطلاً، ويستعملونها في أي شيء؟ في رد ما دلت عليه النصوص من إثبات صفات الكمال للرب جل وعلا.
وينفون بقولهم: (لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ) العلو.
ولذلك كان عقد أهل السنة والجماعة في هٰذا من أفضل ما يكون، حيث إنهم لا يثبتون هٰذه الألفاظ المجملة المبهمة ولا ينفونها، يعني لا نثبت ولا ننفي؛ لأن الإثبات يحتاج إلى دليل كما أن النفي يحتاج إلى دليل، لكننا نستفصل، ومعنى نستفصل نطلب التفصيل، نطلب التفصيل من أصحاب هٰذه الأقوال، فنثبت المعنى الصحيح من أقوالهم ونرد المعنى الفاسد من أقوالهم، لكن مع إثباتنا للمعنى الصحيح لا نثبت الألفاظ المبتدعة، فلا نقول: (تَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ) وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يقولها هؤلاء؛ لأن نفيها نفي لما لم يأتِ في الكتاب والسنة نفيه، وإثباتها كذلك مشكل؛ لأنها محتملة مبهمة.
فإذاً قاعدة أهل السنة والجماعة في الألفاظ المبهمة المجملة أنهم يستفصلون، ما معنى يستفصلون؟ أي يطلبون من المتكلم بهٰذه الكلمات التفصيل، فإذا استفصلوا نظروا في المعاني الصحيحة فأثبتوها، ونظروا إلى المعاني الباطلة وردوها.
وهٰذا منهج يسلم به الإنسان من أن يتورط في ألفاظ ظاهرها التعظيم للرب جل وعلا، وباطنها نفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك في تعليق شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله المكتوب والمسموع إنكار هٰذا الكلام، بل إنه في التسجيل الذي علق فيه على العقيدة الطحاوية رحمه الله قال: إن هٰذا الكلام رديء، ولكنه محمول على معنى صالح فيما ذكره المؤلف؛ لأن المؤلف رحمه الله من أهل السنة والجماعة، كلامه يفسر بعضه بعضاً، فما أجمله في هٰذا المكان يفسره في هٰذه العقيدة التي بين فيها إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات.
والمعاني الصحيحة التي تحتملها هٰذه الألفاظ:
مرادهم في قول: (تَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ) أي تعالى عن أن يحده عقل بشر، فهو سبحانه وتعالى غير محدود، أي لا تحيط به عقول عباده، كما قال الله جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} ([4]). (وَالْغَايَاتِ) أي النهايات، فالله جل وعلا الكبير المتعال الذي لا تحيط به عقول عباده. ومما ينفى أيضًا، من المعاني الصحيحة التي تنفى عن الله عزوجل بهٰذا اللفظ: الغاية التي يحتاجها، فهو سبحانه وتعالى الغني عن عباده، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} ([5]). فنفى الله سبحانه وتعالى الحاجة.
والمهم يعني ما نريد أن نفصل في المعاني الصحيحة والمعاني الفاسدة التي تضمنتها هٰذه الجمل، لكن نقول: كل من تكلم بهٰذا الكلام ينظر إلى كلامه بالاستفصال، فما صح ثبت، وما لم يصح من المعاني رد، هٰذا من حيث المعاني.
أما من حيث الألفاظ فإننا لا نُثبت ولا ننفي، نتوقف في الألفاظ؛ لأن الألفاظ موقوفة على أي شيء؟ على النصوص من الكتاب والسنة، فما ثبت بها ثبت، وما لم يثبت يرد.
ثم قال رحمه الله:
(وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ، وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلا، وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ([6]). فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى).
اللهم صلّ وسلم على رسول الله.
يقول رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: (وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ). فالمعراج اسم آلة الصعود، هٰذا في الأصل، فالمعراج هو السلم الذي يُصعد به إلى علو، وأصل العروج، أصل المادة (عرج) يدور على معنى الذهاب في الصعود، يعني العلو، الارتفاع. فالمعراج هٰذا معناه في اللغة.
وأما ما يشير إليه المؤلف رحمه الله فهو ما أكرم الله سبحانه وتعالى به نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كونه عُرج به إلى السماء، صُعد به إلى السماء صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وهٰذا الصعود جاء إثباته في كتاب الله عزوجل ، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم . أما ثبوته في الكتاب: فبما ذكره الله جل وعلا في سورة النجم، فإنه ذكر ما يدل على عَرْجِهِ سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وذلك في قوله سبحانه وتعالى في رؤية جبريل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} ([7]). ومعلوم أن سدرة المنتهى في السماء ليست في الأرض، فهٰذا دل على أن الله عزوجل عرج بنبيه صلى الله عليه وسلم. هٰذا دليل المعراج من القرآن.
أما دليله من السنة: فقد ثبت متواتراً بما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عَرج الله به إلى السماء، ولم ينكر ذلك أحد من سلف الأمة.
وإنما اختلفوا في مسألة: هل عُرج به صلى الله عليه وسلم بروحه وشخصه، أم أنه عُرج بروحه دون شخصه، يعني دون بدنه؟
ولم يقل أحد منهم: إنه عُرج به مناماً.
وهنا مسألة تلتبس على بعض طلبة العلم، فيظن أن قول عائشة ومعاوية رضي الله عنهما من أن العروج كان بروحه أنه كان مناماً، وهٰذا ليس بمرادٍ لهما ، إنما أرادا أن الروح انفصلت عن البدن انفصالاً تامّاً وعُرج بها، فلم يكن لها تعلق بالبدن.
والذي عليه أهل السنة والجماعة ودل عليه الكتاب والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم أن العروج إلى السماء كان بروحه صلى الله عليه وسلم وبدنه، ولا تعجب فهٰذه قدرة الله جل وعلا الذي أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ، وليس المحل محل تنظير بالواقع حتى نقول: هٰذا لا يمكن، فإن ذلك على الله يسير.
قال رحمه الله: (وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم). أُسري به، هٰذا فيه إثبات الإسراء. والإسراء مقدمة المعراج، وقد جرى للنبي صلى الله عليه وسلم في إسرائه ومعراجه آيات عظيمة.
وأما الإسراء فقد ثبت في الكتاب في سورة الإسراء حيث قال سبحانه وتعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا} ([8]). فلا إشكال في ثبوت الإسراء، حيث أُسري به صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى وصلى فيه بالأنبياء، ثم بعد ذلك عُرج به إلى السماء صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثم قال رحمه الله في بيان المعراج، قال: (وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ إِلَى السَّمَاءِ). ومعلوم أنه إذا قال :(بِشَخْصِهِ) فالمراد الروح والبدن؛ لأن العروج بالبدن دون الروح لا فائدة منه.
إنما العروج الذي أثبته بقوله: (وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ) أي بروحه وبدنه صلى الله عليه وسلم.
(فِي الْيَقَظَةِ) ليدفع قول من قال: إنه عُرج به في المنام.
(إِلَى السَّمَاءِ) إلى العلو، والسماء هنا اسم جنس يشمل السماء الدنيا والعليا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاوز السبع الطباق، وبلغ مكاناًلم يبلغه أحد، سمع فيه صريف الأقلام، الله أكبر! صوت الأقلام التي تكتب ما شاء الله أن يقضي في عباده: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ([9]) جل وعلا. وهٰذه منزلة لم يبلغها أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يبلغها أحد بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
يقول رحمه الله: (ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلا). لم يذكر المؤلف رحمه الله منتهى للعروج، بل قال: (حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلا). أي العلو والارتفاع. (وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ) مما شاهد في ذلك الموقف العظيم، شاهد آيات قال الله جل وعلا فيها: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ([10]). رأى آيات عظيمة: رأى الجنة والنار، رأى جبريل كما خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ، رأى سدرة المنتهى، ورأى ما غشيها من التغير الذي أذن الله سبحانه وتعالى به لهٰذه السدرة العظيمة حتى إنه قال صلى الله عليه وسلم: ((فاعتراها من أمر الله عزوجل ما لا يكاد يحيط به وصف، أو ما لا يدرك بوصف)) ([11]). وذلك لعظيم ما رأى، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزلزل فؤاده، ولم يضطرب قلبه لما رآه في ذلك الموقف العظيم، زكاه الله جل وعلا في موضعين: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} ([12]). وزكاه أيضاً في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ([13]). مع هٰذا الثبات العظيم لقلبه وفؤاده في هٰذه المشاهد الكبرى العظيمة ما استطاع أن يصف ما اعترى الشجرة من تغير، لما أذن الله جل وعلا أن يغشاها ما يغشى، كما قال تعالىٰ في قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} ([14]). وأبهم ما غشيها تعظيماً وتفخيماً لشأنها.
(وَأَوْحَى إِلَيْهِ) أي أوحى الله جل وعلا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم في هٰذا الموقف العظيم (مَا أَوْحَى) يعني الذي أوحى، والإبهام هنا كما مر معنا في التفسير إبهام تعظيم، أوحى الله إليه أمر الصلاة وما شاء الله أن يوحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: قال الله تعالىٰ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ([15]) أي ما رأى من تلك المواقف العظيمة والآيات الكبيرة.
واعلم أن ليلة المعراج هي أفضل ليالي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، هي أفضل بالنسبة له من ليلة القدْر، أما الأمة فإن الفضل لها في ليلة القدر، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الفضل الذي حصّله وناله وجرى له في تلك الليلة أعظم مما يجري في ليلة القدر.
ثم المؤلف رحمه الله طوى ذكر هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة ربه أو لا؟ لأنه لا دليل على أنه رأى ربه.
ولعل المؤلف رحمه الله أتى بالمعراج بعد ذكر الرؤية إشارة إلى الخلاف في هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج أو لا؟ والعلماء في هٰذا لهم قولان:
القول الأول: أنه لم يرَ ربه بعينيه التي في رأسه، وهٰذا قول جمهور العلماء وعليه المتقدمون، والمتأخرون أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ربه رؤية معاينة؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يراه أحد قبل الآخرة، قبل الموت، كما قال جل وعلا: {لَنْ تَرَانِي} ([16]) في قوله لموسى، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت))([17]).
وذهب بعض العلماء إلى أنه رآه بفؤاده، وهٰذه الرؤية ليست مقيدة بالمعراج؛ لأنهم يقولون: رآه بفؤاده مرتين.
ورؤية الفؤاد هي رؤية القلب، وهي غير رؤية المنام؛ لأن رؤية المنام لا إشكال في إثباتها، ولكن لا تقل: كيف رآه بفؤاده؟ فإن هٰذا أمر لا يدرك، لكن رآه بفؤاده، هكذا قال الإمام أحمد وابن عباس، وورد عنهما إثبات الرؤية مطلقاً للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني دون تقييد، فالإطلاق يحمل على التقييد، ما ورد عنهما مطلقاً يُحمل على المقيد.
ثم قال رحمه الله: (فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى). حق أن يصلى عليه صلى الله عليه وسلم ؛لما ميزه الله به من الفضائل والمناقب.
ومعنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الثناء عليه في الملأ الأعلى، هكذا قال أبو العالية في صحيح البخاري([18]).
وذهب شيخنا رحمه الله إلى أنه لا يقال شيء في الصلاة على النبي، إنما يقال: هو ثناء ومرتبة وفضل يدعى به للنبي صلى الله عليه وسلم دون أن يقيد بمعنى خاص؛ لأن هٰذا يحتاج إلى توقيف، يحتاج إلى نص.
والذي عليه الأكثرون هو ما ذكره أبو العالية من أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم هو ثناء الله عليه في الملأ الأعلى.
قوله: (فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى) يعني في الدنيا والآخرة. وهو من أحق من يصلى عليه صلى الله عليه وسلم ؛لعظيم ما منّ الله به علينا حيث أخرجنا به من الظلمات إلى النور صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ثم قال:
(وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ -غِيَاثًا لأُمَّتِهِ- حَقٌّ. وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الأَخْبَارِ).
طيب، ذكر المؤلف رحمه الله في هاتين الجملتين أمرين من أمور الاعتقاد:
الأمر الأول: الحوض. قال رحمه الله: (وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ -غِيَاثًا لأُمَّتِهِ- حَقٌّ). الحوض أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله عزوجل جعل له حوضاً في عرصات القيامة، أي في فناء القيامة، في أرض المحشر، وهٰذا الحوض من خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حيث السعة وكثرة من يرد عليه، ولكنه جاء ما يدل على أن لكل نبي حوضاً، لكن الحوض الذي اختص به حوض لا يشبهه حوض.
وقد ثبت ذلك في قول الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ([19]). فإن الكوثر نهر في الجنة وهبه الله عزوجل لرسوله صلى الله عليه وسلم ،منه ميزابان يصبان في الحوض الذي يكون في عرصات يوم القيامة، فهٰذه الآية بها يثبت ما ذكره أهل السنة والجماعة من أن النبي صلى الله عليه وسلم له حوض يرده أهل الإسلام في عرصات القيامة، وهٰذا الحوض وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث كثرة من يرد عليه، ومن حيث كثرة آنيته، ومن حيث طوله وعرضه، كل ذلك جاء مبيناً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن الحوض الذي وعده الله سبحانه وتعالى أهل الإسلام يكون قبل الصراط، بل هو أول ما يرد الناس في أرض المحشر؛ لأن الناس يخرجون يوم القيامة في هول عظيم وكرب شديد، وتدنو منهم الشمس فيصيبهم عطش عظيم، كما قال الله جل وعلا في وصف المجرمين: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} ([20]) أي عطاشاً، بلغ بهم العطش منتهاه. قال شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله: والظاهر أنّ هٰذا الوصف لا يخصهم؛ لأن الجميع يعطشون في أرض الموقف، لكن أهل الإيمان يردون الحوض فيُطفأ ظمؤهم، فإنهم إذا شربوا من الماء لم يظمَؤوا بعده أبداً، بخلاف أهل الإجرام فإنهم يردون النار عطاشاً، إذ إنهم لا يسقون من حوضه صلى الله عليه وسلم ولا من حوض غيره من الأنبياء، فيردون النار على هٰذه الحال التي ذكرها الله جل وعلا: {وِرْدًا} أي إيش؟ عطاشاً.
وما ورد من أن الحوض يكون بعد الصراط لا دليل عليه، بل ظاهر الأدلة في ذكر ما يكون في ذلك اليوم أن ورود الحوض يكون قبل الصراط، بل إن في السنة ما يدل على أنه لا يمكن أن يكون بعد الصراط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يرى أقواماً من أمته يذادون عن الحوض –يُمنعون-، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((أصيحابي أصيحابي. فيقول الملائكة له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً))([21]). وهؤلاء هم الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهٰذا لا يمكن أن يكون بعد الصراط، فإنه لا يجوز الصراط إلا مؤمن، نسأل الله أن نكون منهم.
المهم أن الحوض ثابت بالكتاب والسنة، وهو مما تواتر به الخبر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقول المؤلف رحمه الله: (أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ) أكرم به محمداً صلى الله عليه وسلم (غِيَاثًا لأُمَّتِهِ) أي يُغيثهم من هول ذلك الموقف وشدة العطش والكرب في ذلك الموقف، وقوله: (لأُمَّتِهِ) هل هٰذا تخصيص؟ يحتمل أنه تخصيص فلا يكون الحوض إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن الحوض الذي أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم خاص بأمته، فلا يرده غير الأمة، إذ إن كل أمة ترد حوض نبيها.
فقوله: (لأُمَّتِهِ):
إما أنه تخصيص الحوض به صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء.
وإما أن يكون تخصيص حوض النبي صلى الله عليه وسلم لهٰذه الأمة.
والمعنى الثاني أظهر ؛لأنه جاء الحديث بأن لكل نبي حوضاً.
ثم قال رحمه الله: (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الأَخْبَارِ). الشفاعة تقدم تعريفها وهي إيش؟
الشفاعة أصلها من الشفع، وهو جعل الواحد زوجاً، جعل الفرد زوجاً، هٰذا أصلها في اللغة.
والمراد بها التوسط في جلب الخير أو دفع الضر، هٰذا معنى الشفاعة.
وهي كذلك في الآخرة: فإن الشفاعة التي في الآخرة توسط ممن يمنّ الله عليه بالتوسط في جلب خير أو دفع ضر، لكنها تختلف عن شفاعة الدنيا:
في أن شفاعة الآخرة لا تكون إلا بإذن من الرب جل وعلا.
ولا تكون إلا برضاه عن المشفوع له.
فلا بد من هذين الشرطين.
لابد من الإذن، فلا يشفع أحد إلا بإذنه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ([22]).
ولابد من الرضا كما قال الله جل وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ([23]).
فلابد من الإذن والرضا في كل موارد الشفاعة، وليس فقط في مورد واحد، يعني في الشفاعة العظمى وما دونها، فإن الشفاعة العظمى لا تكون إلا بعد الاستئذان، ولذلك يذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه فيسجد، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، بل يستأذن، فإذا أُذن له شفع صلى الله عليه وسلم.
والشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثابتة يوم القيامة، وهي على درجات:
منها ما حصل الاتفاق بين الأمة على ثبوته.
ومنها ما جرى فيه الخلاف بين أهل السنة والجماعة وغيرهم من أهل البدع.
أما ما اتفقوا على ثبوته فهو ما أشار إليه في قوله: (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الأَخْبَارِ). وهي الشفاعة العظمى التي يشفع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربه أن يأتي جل وعلا لفصل القضاء بين الناس. وهٰذه الشفاعة عظمى لأن المنتفع بها هم الخلق جميعاً، ولأن الجميع يتخلون عنها، فلا يكون لها إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك سُميت عظمى.
عظمى لأجل أي شيء؟
لعظيم الانتفاع بها.
ولكون الأنبياء، بل آدم وأولي العزم من الرسل يتخلون عنها، فكل منهم يعتذر.
فإن الناس إذا اشتد بهم الكرب يقول بعضهم لبعض -كما في الصحيحين وغيرهما، يقول بعضهم لبعضٍ-: ألا ترون ما قد حل بكم وبلغ بكم؟ فيذهبون إلى آدم ويعدّون عليه ما خصه الله به، فيعتذر، ويذهبون إلى نوح، فيعتذر، ويذهبون إلى إبراهيم، فيعتذر، ويذهبون إلى موسى، فيعتذر، ويذهبون إلى عيسى، فيعتذر، ويذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء الذين يذهبون -هٰذه فائدة- الناس الذين يذهبون إلى الأنبياء هم أهل الإيمان فيما يظهر، كما قال شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله؛ لأنهم يعدّدون على الأنبياء ما لا يقر به الكفار.
فيقولون لنوح مثلاً: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض.
ويقولون لآدم: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته.
ويقولون لموسى: أنت رسول الله الذي كتب الله لك التوراة بيده وكلمك.
وأيضاً يذكرون خصائص عيسى عليه السلام ([24]).
الشاهد أنهم ذكروا لكل نبي ما لا يثبته إلا أهل الإيمان، فهٰذا يدل على أن الناس المذكورين في الأحاديث هم من؟ هم أهل الإيمان الذين يصدقون بهٰذا، وهو القريب.
أما أهل الكفر فإنهم لا شأن لهم، هم مشغولون بأنفسهم من حيث ما ينالهم من سخط الله وعذابه، فإنهم يُحشرون يوم القيامة صاغرين، ومن كان صاغراً ليس أهلاً للطلب، ولا أهلاً للسعي في نفع الخلق.
على كل حالٍ هٰذه الشفاعة يثبتها أهل السنة والجماعة، ويثبتها غيرهم، يثبتها المعتزلة والخوارج وغيرهم من الفرق، وهي خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.
أما باقي الشفاعات فإنّ أهل السنة والجماعة أثبتوها وغيرهم من أهل البدعة نفاها، إلا مسألة الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة فإنهم يثبتونها، لكن الشفاعة في أهل الكبائر، الشفاعة في قوم استحقوا النار ألا يدخلوها، الشفاعة في إخراج من دخل النار أن يخرج منها، هٰذه كلها ينكرها المعتزلة والخوارج، ويحملون ما ورد من النصوص في الشفاعة على الشفاعة العظمى وعلى الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة.
نقف على هٰذا، ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.
([11]) قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السمٰوات وفرض الصلوات، حديث رقم (162): ((ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال. قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها.))
([18])صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب قوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، قال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء..