بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى-:
(وَلا نَخُوضُ فِي اللَّهِ، وَلا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ،وَلا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، وَهُوَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى لا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.).
التعليق:
يقول رحمه الله: (وَلا نَخُوضُ فِي اللَّهِ). الخوض في أصل استعماله هو الوُلوج في الماء، ثم استعمل هٰذا اللفظ في كل دخول في شيء على وجه باطل، استعمل هٰذا اللفظ في الدخول في الشيء على وجه باطل، فمراد المؤلف رحمه الله في قوله: (وَلا نَخُوضُ فِي اللَّهِ) أي لا نتكلم فيما يتعلق بالله جل وعلا بالباطل وبغير الحق، وذلك:
إما أن يكون بسلوك طريق المتكلمين الذين سلكوا غير الصراط المستقيم فيما يتعلّق بالله جل وعلا وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وإما أن يكون بالإعراض عما جاء في الكتاب والسنة من وصفه، فنقبل بعضاً ونرد بعضاً، فهٰذا أيضاً من الخوض.
ومن الخوض في الله جل وعلا والكلام الباطل فيه سبحانه وتعالى تكييف صفاته وتمثيلها، والبحث عن حقائقها وكيفياتها، فإنّ هٰذا من الخوض بالباطل؛ لأنّ هٰذا مما لا يجوز طلبه ولا النظر إليه ولا بحثه؛ لأن الله جل وعلا نهانا عن طلب ذلك والنظر فيه في قوله تعالىٰ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} ([1]). وهٰذا خبر يتضمن معنى النهي عن طلب المثل، بل قال: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} ([2])، قال: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} ([3]). وما أشبه ذلك مما يفيد النهي عن تمثيل الله عز وجل أو طلب الكيفيات لأفعاله وصفاته سبحانه وتعالى، كل هٰذا يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (وَلا نَخُوضُ فِي اللَّهِ). ومن ذلك التفكّر في ذات الله، كيف هو؟ وما أشبه ذلك مما يوقع الإنسان في الشك والرّيب، ولا يصل معه إلى علم ولا يقين.
ولذلك جاء في الأثر: تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله. وقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المؤمن بكفّ سلسلة الوساوس المتعلقة بالله جل وعلا، فأخبر أن الشّيطان يأتي لابن آدم فيقول: من خلق هٰذا؟ فيقول: الله. من خلق هٰذا؟ فيقول: الله. من خلق هـٰذا؟ فيقول: الله. حتى لا يزال به الشيطان حتى يقول: من خلق الله؟ وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فليستعذ بالله ولينته)). ([4]) فأمره بالاستعاذة؛ لأن هٰذا من الشيطان. والانتهاء أي قطع النظر والخوض في هٰذا الأمر، فإنه مما يوقع الإنسان في المهالك ويورده المعاطب.
فالواجب على المؤمن أن لا يخوض في هٰذه الأمور، وأن يقتصر على ما جاء في الكتاب والسنة فإن فيه الكفاية في معرفة الله جل وعلا والعلم به سبحانه وتعالى ، ومن رام زيادة على ما جاءت به النصوص في الكتاب والسنة فقد تكلف علم ما لم يكلف به، وزاد وغلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)).([5]) ويدخل في هٰذا الخبر والدعاء الذين يتعمقون في أسماء الله وصفاته.
ثم قال رحمه الله: (وَلا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ). (لا نُمَارِي) أي لا نجادل، والمقصود بالمجادلة هنا المجادلة بالباطل، أما المجادلة التي يُحَقُّ بها الحق ويُظهَر بها ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح فإنها مطلوبة؛ لأن بها يُخصَم الخصم ويُكبَت المعاند.
فالرد على المخالفين في الأسماء والصفات، المخالفين لطريق أهل السنة والجماعة بالحجج، ومجادلتهم ومناقشتهم جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً، وليس هٰذا من المراء في دين الله، المراء في دين الله أن يجعل الإنسان دينه عرضة للمجادلات والمناقشات، فإنه من أكثر المجادلة والمناقشة أكثر التنقل وضل.
ولذلك لما قال أحدهم للإمام مالك: تعال أناقشك أو أماريك. قال: أما أنا فقد عرفت ديني، وأما أنت فقد أضللته فابحث عنه. أو كلمة نحوها.
وهٰذا يدل على أن السلف -رحمهم الله- كانوا يوصدون الباب أمام كل هؤلاء المجادلين الذين يجادلون بالباطل، ويخوضون في دين الله بالظنون والأوهام والنيات الفاسدة.
ثم قال رحمه الله بعد ذلك: (وَلا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). هٰذا من التكرار الذي اتصفت به هٰذه العقيدة، يقول رحمه الله: (وَلا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ). أي لا نخاصم في القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن المخاصمة في القرآن، ويشمل هٰذا المخاصمة في تأويله وتفسيره، والمخاصمة في ضرب بعض آياته ببعض، ويشمل هٰذا أيضاً المخاصمة في القراءات، ويشمل هٰذا أيضاً المخاصمة فيه بالباطل، بأن يقرّ به الإنسان باطلاً ويبطل به حقّاً، فإنّ هٰذا من المجادلة بالقرآن التي نُهي عنها،كأن يستدل بالقرآن على المعاني الباطلة التي يريد أن يقررها ويحتج لها بالقرآن.
وما من شخص يحتج بالقرآن على بدعة أو ضلالة قديمة أو حديثة إلا وفي القرآن ما يبطلها، فيما استدل به ما يبطله ويرد باطله.
إذاً قوله: (وَلا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ) يشمل كل هـٰذا، فالذين يختلفون في القراءات يدخلون في هـٰذا، الذين اختلفوا في المعاني وتخاصموا يدخلون في هـٰذا، الذين يضربون بعض القرآن ببعض يدخلون في هـٰذا، وأيضاً الذين يبحثون ويخالفون ما دل عليه القرآن من أن القرآن كلام الله جل وعلا يدخلون في هٰذا من باب أولى، كشأن كل المخالفين لأهل السنة والجماعة في مسألة القرآن وأنه كلام الله جل وعلا، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). أي لا نجادل مجادلة أهل الباطل بنفي أن يكون القرآن كلام الله جل وعلا، بل نثبت بأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى منه بدأ وإليه يعود، كما قال أهل السنة والجماعة، نشهد أنه كلام رب العالمين، والقرآن كلام رب العالمين لا إشكال في هـٰذا.
قال الله جل وعلا في وصف كلامه بالقرآن: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ} ([6]). فوصف القرآن بأنه كلامه سبحانه وتعالى، ومعلوم أن الكلام صفة لا تقوم إلا بموصوف، فلا يمكن أن يكون الكلام مخلوقاً كما زعمته الجهمية.
والإقرار بأن القرآن كلام رب العالمين من حيث اللفظ يوافق فيه المعتزلة ويوافق فيه الأشاعرة ومثبتة الصفات، لكنهم يختلفون في تفسير هٰذه الإضافة.
فالمعتزلة يقولون: الإضافة إضافة خلق، فمعنى كلام الله أي كلامه المخلوق كقول صالح: ناقة الله، فأضاف الناقة إلى الله، والإضافة هنا إضافة خلق وهي للتشريف.
ومعلوم أن القرآن ليس كالناقة؛ لأن الناقة مخلوق مستقل، أما الكلام فلابد أن يقوم بشيء، ليس عيناً قائمة بذاتها، فقولهم باطل، فهم يقولون: القرآن كلام الله ولا تتوهم أنهم يوافقون أهل السنة والجماعة، بل هم يقولون: كلام الله مخلوق.
وأما الأشاعرة والماتريدية والكلابية فإنهم يقولون: القرآن كلام الله، لكنهم يقولون: كلام نفساني، يعني معنى، بغير حرف ولا صوت.
وأهل السنة والجماعة يقولون: هو كلامه جل وعلا بحرف وصوت، تكلم به على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى بلا كيف، ومعنى بلا كيف أي لا نكيف، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
ثم قال رحمه الله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ). هٰذا بيان أن وصف الكلام القرآن كلام الله، وأن الروح الأمين جبريل uتلقاه كلاماً من رب العالمين، ولم ينقله من اللوح المحفوظ كما زعمه من زعمه من المبطلين، فإنّ جبريل uتلقى القرآن من الله جل وعلا، ولا يعارض هٰذا أن القرآن في اللوح المحفوظ، فإن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن القرآن في اللوح المحفوظ، كما قال سبحانه وتعالى : {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)} ([7]). فالقرآن في اللوح المحفوظ الذي كتب الله به كل شيء، لكن تكلم به وقت نزوله سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ). وهٰذا مما يثبت أنه من الله جل وعلا، و(الرُّوحُ الأَمِينُ) هو جبريل كما قال سبحانه وتعالى : {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} ([8])، وكما قال سبحانه وتعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194)} ([9]). فلا ريب أن القرآن نزل به جبريل u،وقد تلقاه من رب العالمين كلاماً سمعه فنقله.
يقول: (فَعَلَّمَهُ) الضمير يعود إلى من؟ يعود إلى جبريل. (فَعَلَّمَهُ) علم جبريل سيد المرسلين، علم من؟علم النبي صلى الله عليه وسلم،جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشير بهٰذا إلى قوله تعالىٰ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)} ([10]). وهٰذا الوصف لا إشكال أنه لجبريل فإنه {شَدِيدُ الْقُوَى} أي شديد القوة {ذُو مِرَّةٍ} أي ذو هيئة حسنة، وقيل: إن الضمير في الآية يعود إلى الله، لكن الصحيح أن الضمير يعود إلى جبريل u.
يقول: (فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم). فالقرآن متلقى من جبريل عن الله عزوجل .
يقول رحمه الله: (وَهُوَ) أي القرآن الكريم (كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى) إعادة لما تقدم، لكنها إعادة ليبني عليها، قال: (وَهُوَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى لا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلامِ الْمَخْلُوقِينَ). وهٰذا فيه الرد على من قال: إن القرآن كلام جبريل، من كلام جبريل، وفيه الرد على من قال: إن القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم،فإن الله سبحانه وتعالى أضاف القرآن إلى الرسول الملكي وإلى الرسول البشري، إلى جبريل وإلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أضافه إلى جبريل في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)} ([11]). هٰذا الرسول من هو؟ جبريل u.
وأضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله أيضاً في سورة الحاقة: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ([12]). ومعلوم أن الذي اتهم بأنه شاعر من؟ جبريل أو النبي؟ النبي صلى الله عليه وسلم، فالإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هٰذا الموضع والإضافة إلى جبريل في الموضع السابق إضافة تبليغ وليست إضافة إنشاء، وهٰذا الذي جعل المؤلف رحمه الله يقول: (لا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلامِ الْمَخْلُوقِينَ). وقوله: (الْمَخْلُوقِينَ) يشمل الإنس والجن والملائكة، وكل مخلوق يتصور منه الكلام فإنه لا يأتي بمثله، فلو اجتمع الإنس والجن ومن في السماء والأرض على أن يأتوا بمثل القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، بل هو قول رب العالمين الذي لا مثل له ولا ند سبحانه وتعالى .
ثم قال: (وَلا نَقُولُ بِخَلْقِهِ) رد بهٰذا على الجهمية الذين قالوا: إن القرآن كلام الله مخلوق. وهم الذين جرت منهم الفتنة لعلماء المسلمين ولأمة الإسلام في وقت الإمام أحمد رحمه الله، فالإمام أحمد ابتلي بالجهمية الذين كانوا يفتنون الناس في مسألة خلق القرآن. قال رحمه الله: (وَلا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ). يعني في جميع ما تقدم مما يتعلق بهٰذا وبغيره، لكن هنا المراد به (وَلا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ) في مسألة القول بأن القرآن كلام الله، ومن هٰذا نعلم أن جماعة المسلمين قديماً وحديثاً على أن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود سبحانه وتعالى ، من قال بغير هٰذا فإنه خالف جماعة المسلمين.
ثم قال رحمه الله: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ. وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ).
نعم، هٰذا المقطع انتقال من مسألة القرآن إلى بعض مسائل الإيمان، يقول رحمه الله: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) أهل القبلة من هم؟ أهل الصلاة، المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا)) كما في صحيح مسلم.([13]) ولهٰذا يسمى أهل الإسلام أهل الصلاة، ومنه ما يسميه كما سمى بعض أهل العلم مؤلفاتهم به مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، المقصود بالمصلين أهل القبلة، فأهل القبلة هم أهل الصلاة، وهٰذا شعار على أهل الإسلام، يشمل أهل الإسلام جميعهم مبتدعهم وسنيهم ،كلهم يشتركون في هـٰذا، إلا من خرج عن فرق أهل السنة والجماعة عن الثلاث والسبعين فرقة فإنه ليس منهم.
يقول: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) يعني من المسلمين (بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). وهٰذه العبارة في الحقيقة فيها عدم اتساق؛ لأن فيها من الإطلاق ما لم يطو عليه أهل السنة والجماعة عقدهم، يقول رحمه الله: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ). الذنب هنا يشمل كل ذنب،أسألكم: الشرك ذنب أو ليس ذنباً؟ الكفر ذنب أو ليس ذنباً؟ طيب، هل الشرك والكفر يشترط في تكفير صاحبه الاستحلال، أم أن المشرك إذا سجد للصنم مثلاً، أو الكافر الذي كفر بسب الله أو سب رسوله، هل يلزم أن يستحل ذلك، أو يكفر استحل أو لم يستحل؟ يكفر سواء استحل أو لم يستحل. فهٰذه العبارة فيها من الإطلاق ما يوهم، لكن مراد المؤلف بهٰذه العبارة الرد على الخوارج والوعيدية من المعتزلة الذين يكفرون أهل الإيمان بمطلق الكبائر وبمطلق المعاصي، ولاشك أن قولهم خطأ وضلال مبين، فإن بدعة الخوارج هي أول بدعة ظهرت في الإسلام، ولم يأت في السّنة من التحذير والتنفير والتشديد في البدع كما جاء في بدعة الخوارج، فإنها من البدع التي توافرت النصوص على ذمها وذم أهلها، وبيان سوء حالهم ومنقلبهم، فكانت أول بدعة ظهرت في المسلمين بدعة الخوارج، وهي بدعة التكفير، وهٰذه البدعة دائرة على أي شيء يا إخوان؟ دائرة على أنهم يكفرون الناس بمطلق الذنوب، بل بما يرونه ذنباً ولو لم يكن ذنباً، وهٰذه مسألة أشد، يعني لا يكفرون بالذنوب التي أجمعت الأمة عليها فقط، بل حتى بالذنوب التي هي محل خلاف، أو قد تكون في نظر شخص أنها ذنب وفي نظر آخر أنها ليست بذنب، فهم يكفرون بمطلق الذنوب، بل بما يرونه ذنوباً ولو لم تكن كذلك، بما يرونه ذنباً ولو لم يكن كذلك.
فقول المؤلف رحمه الله: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). رد على هٰذه الفرقة الضالة.
ومثلهم المعتزلة وهم الذين قالوا بأن مرتكب الكبيرة يخرج عن الإيمَان، لكنه لا يوصف بالكفر، فينزلونه منزلة بين المنزلتين. وهٰذا القول إنما هو في الدنيا، أما في الآخرة فهم يوافقون الخوارج في أن مرتكب الكبيرة في النار. المؤلف رحمه الله الآن يبحث في الأسماء أو في الأحكام؟ في الأسماء؛ لأنه الآن يقول: (وَلا نُكَفِّرُ). يعني لا نثبت اسم الكفر، الأسماء يعني كافر مسلم عاصي فاسق، هٰذه الأسماء وأما الأحكام يعني في الجنة أو في النار، الآن البحث في الأسماء أو في الأحكام؟ البحث في الأسماء، يقول: (وَلا نُكَفِّرُ أحداً) أي لا نثبت وصف الكفر واسم الكفر لأحد من أهل القبلة بذنب، أي بسبب ذنب، فالباء هنا للسببية (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). لكن هٰذه العبارة كما ذكرنا أن في إطلاقها نظراً فلابد أن تقيد، وأحسن منها ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الواسطية حيث قال في بيان عقد أهل السنة والجماعة: "وَأَنَّ الإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ- يعني أهل السنة والجماعة -لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ". وهٰذا يدل على عقد أهل السنة بالمطابقة، أما ما ذكره هنا ففيه من الإطلاق والإجمال ما يُدخِل في المعنى نقصاً.
وقد علق على هٰذا شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله بتعليق جيد: يقول: قوله: (ولا نُكَفِّرُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). مراده رحمه الله أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم الموحد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه، كالزنى وشرب الخمر والربا وعقوق الوالدين وأمثال ذلك ما لم يستحل ذلك، فإن استحله كفر؛ لكونه بذلك مكذباً لله ولرسوله، خارجاً عن دينه، أما إذا لم يستحل ذلك فإنه لا يكفر عند أهل السنة والجماعة، بل يكون ضعيف الإيمان، وله حكم ما تعاطاه من المعاصي في التفسيق وإقامة الحدود وغير ذلك حسب ما جاء في الشرع المطهر، وهٰذا هو قول أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن سلك مسلكهم الباطل، فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، يعني بين الإسلام والكفر في الدنيا، وأما في الآخرة فيتفقون مع الخوارج بأنه مخلد في النار. وقول الطائفتين باطل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وقد التبس أمرهما على بعض الناس؛ لقلة علمه، ولكن أمرهما بحمد الله واضح عند أهل الحق كما بينا. وبالله التوفيق.
نعم،هٰذا التعليق جيد يقيد ما في هٰذه العبارة من إطلاق، حيث إن الشيخ رحمه الله فسر معنى الذنب في قوله: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ). فقال: بذنب يرتكبه كالزنى وشرب الخمر والربا وعقوق الوالدين، يعني من الذنوب المتفق عليها، من الذنوب التي هي أمثال هٰذه التي يقع تكفير الخوارج لأصحابها. أما الذنوب التي هي كفر أصلاً: كالشرك بالله، السجود للأصنام، سب الله، سب الرسول صلى الله عليه وسلم، الاستهانة بالمصحف، الاستهزاء بآيات الله وبدين الله، فهٰذه كفر فعلها الإنسان مستحلاً أو غير مستحل، يكفر بفعلها لا فرق بين مستحل وغير مستحل.
أيضاً مما تقيد به هٰذه العبارة أن إطلاق العلماء لقولهم: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ). المراد ما عدا الصلاة والزكاة والحج والصيام، فإنه قد وقع الخلاف بين العلماء في كفر تارك هٰذه الأركان.
أقوى ما في ذلك من الخلاف، الخلاف في ترك الصلاة، فإن من العلماء من يرى أن ترك الصلاة كفر ولو لم يجحد الإنسان وجوبها، مع أنه من جملة الذنوب لكنه كفر، فقوله رحمه الله: (بِذَنْبٍ) يشمل الذنوب التي هي مخالفات وارتكاب للمنهيات، ويشمل أيضاً الذنوب التي هي ترك للواجبات، لكن يستثنى من ترك الواجبات أركان الإسلام، فإنه قد وقع خلاف بين أهل العلم في ذلك، ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله قيد العبارة هٰذه في بعض مؤلفاته وهي قوله: "وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ". قيدها بما عدا الأصول، فإنهم مختلفون في كفر تارك الصلاة، مختلفون في كفر تارك الزكاة، مختلفون في كفر تارك الحج، مختلفون في كفر تارك الصيام.
فهٰذه العبارة فيها مأخذ.
أما قوله رحمه الله: (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) فهـٰذا قيد مهم في الذنوب كالزنى والخمر وما أشبه ذلك، فإن من استحل هٰذه الذنوب فهو كافر ولو لم يفعلها، يعني من استحل الزنى قال: الزنى حلال. فإنه كافر ولو لم يزن ولو كان أعف الناس، من قال: الخمر ليست بحرام فإنه كافر ولو لم يشربها، والمراد بقول المؤلف رحمه الله: (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). المراد ما لم يكن هناك تأويل، يعني: فإذا استحله بالتأويل هل يكفر أو لا يكفر؟ الجواب: لا يكفر، إذا استحل ذنباً من الذنوب بالتأويل كمن يستحل الربا يقول: الربا ليس بحرام، استحله بتأويل أن هٰذه الأوراق النقدية الآن لا يجري فيها الربا على مذهب المتقدمين من الفقهاء في جميع المذاهب: في مذهب الإمام أبي حنيفة، في مذهب مالك، في مذهب الشافعي، في مذهب أحمد، قال: هٰذه ليس فيها ربا. وعلى هٰذا فكل ما يجري من الربا ليس محرماً. هٰذا استحلال لصورة من صور الربا، لكن هل يكفر به صاحبه؟ الجواب: لا يكفر به صاحبه، لماذا؟ لأن هٰذا متأول، والمسألة فيها خلاف قديم، يعني من أول نشأة هٰذه الأوراق النقدية وقع فيها الخلاف بين العلماء: هل يجري فيها الربا؟ هل تأخذ حكم النقدين أو لا تأخذ حكم النقدين؟ ففي مثل هٰذه الأمور ينبغي للمؤمن أن يتروى وأن لا يستعجل، فالاستحلال إذا كان مقترناً بتأويل فإنه لا يكفر صاحبه.
طيب ما الواجب؟ الواجب أن يبين له الحق، ولا تعجب فإنه قد جاء أن قدامة بن مظعون وهو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ من أهل بدر استحل الخمر في زمن عمر بالتأويل، حيث ظن أن قوله تعالىٰ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} ([14]). ظن أن هٰذه الآية تفيد إباحة الخمر، فشرب الخمر رضي الله عنهم هو وأصحابه أو جماعة معه، ظنّاً منهم أن هٰذا مباح، وأنه ليس عليهم حرج، فكتب إليه عمر وجمع الصحابة وشاورهم، فرأوا أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
الآن هؤلاء استحلوا محرماً لكنهم استحلوه بالتأويل، ومع ذلك لم يكفرهم عمر، بل رضي الله عنهم استتابهم وبين لهم تحريم الخمر، ثم جلدهم على شربه، فعظم الأمر على قدامة رضي الله عنه واشتد عليه ما وقع منه من استحلال ما حرم الله ورسوله، حتى بلغ به الأمر أن يئس من رحمة الله، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنهم بأول سورة غافر: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} ([15]). إلى آخر الآيات، قال: فلا أدري أي سوءتيك أعظم: استحلالك للخمر أو يأسك من رحمة الله؟ فبين له أن ما جرى منه خطأ والله جل وعلا يقبل التوبة، فتب ولا تيأس من رحمة الله فـ {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} ([16]). فالمهم أن استحلال المحرم، استحلال الذنب بتأويل لا يكفر به صاحبه، هٰذا شاهد قائم من عهد الصحابة رضي الله عنهم في خلافة عمر الفاروق، ولذلك ينبغي يا إخواني في مسألة التكفير، ينبغي للمؤمن أن يتروى وأن لا يستعجل، وأن ينظر إلى الأمر بتؤدة، وأن لا يتجاسر عليه صغار الطلبة والمبتدئون في طريق الطلب، يجب أن يتحرى. الآن لو سألت بعض الناس عن مسألة من مسائل الطهارة التي يدركها العوام في المسح على الخفين أو ما أشبه ذلك أو التيمم قال: ما أدري اسأل العلماء، وإذا سألته في كفر فلان أو فلان البحر الذي لا ساحل له في التكفير والقول على الله بغير علم.
فالمسألة تحتاج إلى تؤدة وتروٍّ، والعلماء يؤكدون هٰذا في عقائدهم ويكررونه وهو ولله الحمد واضح في طريق أهل السنة والجماعة.
يقول: (وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ). عرفنا أن قيد (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) هٰذا فيما لا يحصل الكفر فيه إلا بالاستحلال، أما ما يحصل الكفر بالاستحلال وبدون الاستحلال فلسنا بحاجة إلى هٰذا القيد، كالسجود للأصنام، وكدعاء غير الله وما أشبه ذلك.
الكفر ليس بمحصور، صور الكفر كثيرة، فيه ضوابط لكنه صوره كثيرة، فهٰذه لا تحل الإشكال، لكن ما قاله العلماء الحمد لله واضح، وهم مع ذلك لا يكفرون بمطلق المعصية، مطلق المعصية يعني بأي معصية والكبائر كما يفعله الخوارج.
يقول: (وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ). هٰذه العبارة من المؤلف رحمه الله فيها الرد على المرجئة، وهم من قابل الخوارج، وانظر يا أخي البدع ينشأ عنها بدع ويتولد عنها شرور، ومن الشرور التي تتولد عن البدع أن البدعة تسبب بدعة أخرى وتدعو إلى بدعة أخرى، فبدعة الخوارج الذين غلوا في التكفير فكفروا الزاني، وكفروا شارب الخمر، وكفروا المرابي، وكفروا كل من وقع في كبيرة، بل كفروا فيما يرون أنه ذنب وليس بذنب، حتى كفروا أفاضل الصحابة رضي الله عنهم قابلتهم بدعة المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمَان ذنب لمن عمله مهما كان الذنب. يعني لو جاء -نعوذ بالله- ورمى المصحف وداسه ووطأه وبال عليه وتغوط أعوذ بالله ما يكفر؛ لأن هٰذا ذنب ما يحصل به الكفر عند هٰؤلاء، ما دام مصدقاً بقلبه فلا يضر ما يفعل من الأفعال، لو سب الله يمسي ويصبح على سب الله والرسول، ما يكفر؛ لأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، والإيمان ما هو عندهم؟ الإيمَان مجرد المعرفة، فمن عرف الله فهو مؤمن ولو لم يركع لله ركعة، ولو لم يقم بعمل صالح، بل ولو قام بما قام به من الكفر، فلو سجد للصنم وهو مؤمن على زعمهم لا يضره مع الإيمان ذنب. وهٰذا قول خطير، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ). بل الذنوب تضر، وضررها متفاوت: منها ما يضاد الإيمان ويرفعه، وهٰذا في الاعتقاد والعمل، في الاعتقاد كأن يعتقد أن غير الله وينفع ويضر، أو أن يجحد ما تيقنا أنه جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وفي العمل كأن يسجد للصنم، أو يدعو غير الله، أو ما أشبه ذلك من المكفرات العملية، فهٰذا يضر الإيمان ويرفعه.
إذاً من الذنوب ما يضاد الإيمان في الاعتقاد والعمل، ومنها ما ينقص الإيمان ولا يضاده، وهٰذا يشمل كل الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن الذنوب صغيرها وكبيرها -على تفاوتها واختلافها- تضر صاحبها، وتنقص مرتبته، ولكنها لا ترفع عنه وصف الإيمان: فالزاني مؤمن بإيمانه وفاسق بكبيرته، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمَ الإيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ". يعني: من كان فاسقاً من أهل الملة لا يسلب عنه مطلق الإيمان، يعني الإيمان بالكلية، ولا يثبتون له الإيمان المطلق، فلا نقول: هو مؤمن كامل الإيمَان كما تقول المرجئة، ولا نقول: إنه لا إيمان معه كما تقول الخوارج، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
نقف على هٰذا ونكمل إن شاء الله البحث في هٰذه المسألة غداً بإذن الله.
([4]) البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، حديث رقم (3276).
مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، حديث رقم (134).