وقفةٌ مع المخيَّمات
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله
إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد .
فيا أيها الناسُ اتقوا اللهَ، فلا نجاةَ لكم إلا بتقواه، قال الله تعالى : ﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) سورة الزمر: (61)..
أيها الإخوة المؤمنون.
اعلموا أنَّ أغلى وأنفسَ ما تملكونه هو أوقاتُكم، التي هي حياتُكم ومزارعُ أعمالِكم، ومخازنُ حسناتِكُم وسيئاتِكُم، فاليومَ أنتم تزرعون، وغداً تحصُدون، وبين يدي اللهِ تعالى موقوفون، وعن أعمالِكم وأعمارِكم مسؤولون، وبها مجزيُّون.
فعن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ» أخرجه الترمذي (2416)، (2417) وقال : " حسن صحيح" .
أيها المؤمنون.
إن التاريخَ لم يشهدْ أمةً عظَّمت الوقتَ، ولا ملةً حافظتْ عليه، وحثَّت على اغتنامِه، كأُمَّتِكم هذه، فقد أقسَمَ ربُّكم سبحانه وتعالى بالوقتِ، فقال: ﴿والعصر (1) إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ سورة العصر: (1-2) ، وأمرنا سبحانه بمسابقةِ الأيامِ بالأعماِل الصالحاتِ، فقال تعالى: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ﴾ سورة إبراهيم: (31) .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» أخرجه الحاكم في المستدرك رقم ( 7846 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن أبي شيبة ( 34319 )، والقضاعي في مسند الشهاب (729)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1077)، وفي صحيح الترغيب والترهيب رقم ( 3355 ). .
والنصوصُ الحاثَّةُ على حفظِ الوقتِ، وصرفِهِ فيما ينفعُ العبدَ في دينِهِ ودنياه كثيرةٌ عديدةٌ، وقد فَقِه السلفُ رحمهم الله هذا الأمرَ، فحَرِصوا على أوقاتِهم حرصاً شديداً، وكانوا يقولون: من علامات المقْتِ إضاعةُ الوقتِ، فأثمر هذا الفقهُ في واقعِ الأمةِ علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وإيماناً صادقاً، وجهاداً دائباً، وفتحاً مبيناً، وحضارةً راسخةَ الجذورِ، باسقةَ الفروعِ.
فسادُوا العالمَ قروناً طويلةً، فخَلَفَ من بعدِهِم خلفٌ، أضاعُوا الأوقاتَ، وتفنَّنُوا في تبديدِ الساعاتِ، وتبذيرِ الطاقاتِ، فأرخصُ ما عِنْدَ كثيرٍ من هؤلاء أوقاتُهم، يصرفونها بلا حسابٍ، ولا تدقيقٍ، كأنما كُتِبَ لهم البقاءُ والخلودُ.
أيها المؤمنون..
إن آفةَ إضاعةِ الوقتِ إحدى أبرزِ سماتِ هذا الجيلِ، وتشتدُّ هذه السمةِ وتبدو للعيانِ في أوقاتِ الإجازاتِ، حين يتفرَّغُ قِطاعٌ كبيرٌ من الناسِ من الانشغالاتِ والارتباطاتِ، فتجدُ كثيراً من الناسِ يوقفون أوقاتَهم على الملاهي والملذاتِ، أو الرغباتِ والشهواتِ.
ولا شكَّ أن هذا من علاماتِ المقْتِ، ومن أسبابِ الخسرانِ والحِرمانِ، فإن اللهَ تعالى قد وجّه عبادَه، وأمرهم باغتنامِ الفراغاتِ، ومِلئِها بالصالحاتِ الباقياتِ، قال تعالى : ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) سورة الشرح: (7- 8) .
وقال صلى الله عليه وسلم حاثًّا على اغتنامِ الفراغِ: «نعمتان مغبُونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس: الصحةُ والفراغُ» أخرجه البخاري ( 6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. .
فاعمروا بارك الله فيكم هذه الإجازةَ بما يقرِّبُكم من الجنةِ، ويباعدُكم عن النارِ، واستغلوا أوقاتَكم بعلمٍ نافعٍ، أو عملٍ صالحٍ، أو دعوةٍ جادةٍ، أو صلةٍ للأرحامِ، أو غيرِ ذلك من أبوابِ البرِّ، ولا بأسَ باللهوِ المباحِ اليسيرِ، الذي لا يستوعبُ كلَّ الوقتِ، ويُعينُ على الطاعةِ، ويحقِّقُ راحةَ النفسِ، وإجمامَ الروحِ، وسعةَ الصدرِ، فإنَّ هذا قد يكونُ مما يؤجَرُ عليه العبدُ إذا أحسَنَ قصدَه، وأصلحَ نيتَه، فإنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى.
أيها الإخوة.
إن مما اعتادَهُ كثيرٌ من الناسِ في هذهِ الإجازةِ الصيفيةِ أن يُمضُوا أوقاتَهم في النزهةِ، والمتعةِ في البرِّ أو في غيرِه، وكثيراً ما يصاحبُ هذا الاستمتاعَ بعضُ المظاهرِ السَّلبيةِ السيئةِ، التي تُفسِدُ القلوبَ، وتكدِّر صفوَها، وتُكسِبُ الآثامَ، وتغضبُ الحيَّ الذي لا ينامُ.
فمن ذلك: إضاعةُ بعضِ هؤلاءِ للصلاةِ، بتأخيرِها عن وقتِها، أو قلةِ المبالاةِ بها، وعدمِ الاهتمامِ بها، وقد حذَّر اللهُ تعالى من ذلك، فقال تعالى: ﴿فويل للمصلين . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ سورة الماعون: (4- 5) ، وقال جلّ ذكـره: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ سورة مريم: (59).
فقد توعَّدَ اللهُ من ضيَّع الصلاةَ، أو سها عنها بالغوايةِ والويلِ، وهذان هما بابا التعاسةِ في الدنيا، والشقاوةِ يومَ القيامةِ.
ومن السيئاتِ التي يقترفُها بعضُ المتنزِّهِين: إضاعةُ حقِّ الوالدينِ، أو الأهلِ، أو الأولادِ؛ وذلك أن كثيراً من هؤلاءِ يخرجُ إلى البرِّ مع زملائِه وأترابِه من أولِ الإجازةِ، وقد لا يدخلُ إلا نادراً لقضاءِ بعض أشغالِه وحوائجِه، ثم يعودُ أدراجَه إلى البرِّ، فيفرِّطُ في حقِّ والديه، اللذَيْن جعلَ اللهُ حقَّهُما بعضَ حقِّه، فلا يرعى شؤونَهما، ولا يقضي حوائجَهما، بل قد يكونُ سبباً لإزعاجِهما وإيذائِهما، بالقلقِ عليه، أو غيرِ ذلك، ويضيِّع حقَّ زوجِه وأولادِه، فلا يعرفُ من شؤونِهم إلا النزرَ القليلَ، الذي قد يعرفه الجيرانُ، فلا يدري عن أبنائِه، مع مَن يذهبون، ولا مَن يخالطون، وكم مِن الساعاتِ في خارجِ البيتِ يقضون، أو حتى مع من يخيِّمون، أو يسافرون، وهو أيضاً قد أدارَ ظهرَه لبناتِه في البيتِ، فلا يعلمُ متى يخرُجْن، ولا من يكلِّمن، ولا ماذا يشاهِدْن، أو يسمعن!!
فهل بعدَ هذا التفريطِ نلومُ الأبناءَ على العقوقِ والانحرافِ، أم هل بعدَ هذا نرجو من البناتِ الاستقامةَ والصلاحَ؟ لا واللهِ، فإن هذا بعيدٌ كبُعدِ المشرقين.
ومن المظاهرِ السيئةِ في بعضِ هذه الاجتماعاتِ، التي تكونُ في الإجازاتِ: إعمالُ اللسانِ فيما يضرُّ ولا ينفعُ، كالغيبةِ أو الكذبِ أو المزاحِ الساقطِ، والكلامِ الفاحشِ البذيءِ، وغير ذلك من آفات اللسانِ، وقد حذّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال لمعاذ رضي الله عنه: «ألا أدُلُّك على ملاكِ ذلك كلِّه – أي: على ملاكِ أبوابِ الخيرِ – كُفَّ عليك هذا، وأَمْسَكَ بلسانِ نفسِه صلى الله عليه وسلم ، فقال معاذٌ : يا رسولَ الله، أو إِنَّا لمؤَاخذون بما نتكلَّمُ به؟! فقال صلى الله عليه وسلم : ثكلتك أمُّكَ يا معاذُ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهِم إلا حصائدُ ألسنتِهم» أخرجه أحمد (22016)،والترمذي (2616)، وابن ماجه (3973) قال الترمذي" حسن صحيحنعوذ بالله من ذلك.
ويكفيك في حفظِ لسانِك ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمُتْ» أخرجه البخاري (6018)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وقد قال الأول: رُبَّ كلمةٍ قالت لصاحبِها دعني.
ولا تقلْ إنما هي سواليفُ، أو كلامٌ يحصلُ به إيناسُ الأصحابِ، فقد قالها قومٌ من قبلِك، فقال لهم اللهُ تعالى: ﴿لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ سورة التوبة: ( 66).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ، ما يتبين فيها، يزِلُّ بها إلى النار أبعدَ ما بين المشرقِ والمغربِ» أخرجه البخاري (6477)، ومسلم (2988) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم في النميمة: «لا يدخلُ الجنةَ نمَّامٌ» أخرجه مسلم (105) من حديث حذيفة رضي الله عنه .
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فإنَّ من المظاهرِ السيئةِ في بعضِ المجتمعاتِ والاجتماعاتِ: اصطحابَ آلاتِ اللهوِ وأجهزتِه، التي تبُثُّ الشرَّ، وتنشرُ الفسادَ، كالتلفازِ والفيديو وأجهزةِ البثِّ المباشرِ، وأشرطةِ الغناءِ وآلاتِه، فعلى إخوانِنا هؤلاء أن يتقوا اللهَ ربَّهم، وليذْكُروا قولَ الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) سورة لقمان: (6)، وليذكروا قول الله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُون﴾ سورة الأعراف: (97-99) .
ومن المظاهرِ السيئةِ: خروجُ الصغارِ إلى البرِّ بمفردِهم، في مخيماتٍ مستقلةٍ عن أهلِهم، ليس معهم مرشدٌ ولا مصلحٌ، أو خروجُهم مع أجـانبَ، فارقُ السِّنِّ بينَهم كبيرٌ.
فليتَّقِ اللهَ أولياءُ هؤلاءِ، فإن هذا من تضييعِ الأمانةِ.
أيها المؤمنون.
هذه بعضُ المظاهرِ السلبيةِ، التي قد توجدُ هنا وهناك في بعضِ المخيماتِ، فعلينا جميعاً أن نتقِيَ اللهَ تعالى، القاهرَ الغالبَ الطالبَ، الذي يُمهلُ ولا يُهْملُ، فإن تقوى اللهِ تعالى أعظمُ أسبابِ الوقايةِ، من هذه الخطايا والسيئات.
واحرصوا على شَغلِ أوقاتِكم بالطاعاتِ والصالحاتِ، حتى في البراري والمخيماتِ، وذلك من خلالِ اصطحابِ بعضِ الكتبِ النافعةِ الميسّرةِ، أو الأشرطةِ المفيدةِ الممتعةِ، أو من خلالِ قراءةٍ، تتفقون عليها بعد إحدى الصلواتِ، أو من خلالِ استضافةِ أهلِ الصَّلاحِ، من الدعاةِ وطلابِ العلمِ، والبحثِ معهم، وسؤالِهم عن بعضِ ما يُشكلُ، أو غيرِ ذلك من سُبلِ استثمارِ الأوقاتِ.
واعلموا أنكم إن لم تشغلوا أوقاتَكم بما يفيدُ وينفعُ، فسيقعُ ما قد يضرُّ ويفسدُ، فإن النفسَ لا تخلو من خيرٍ أو من شرٍّ، فاشغل نفسَك بالحقِّ وإلا شغلتك بالباطل، ولابدَّ من أحدِ هذين.
واعلموا أن من سُبُلِ تخفيفِ هذه السيئاتِ الأمرَ بالمعروفِ، والنهيَ عن المنكرِ، فإن هذا من الضماناتِ الضروريةِ، التي تُحفظ بها الأممُ والمجتمعاتُ، قال الله تعالى : ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ سورة آل عمران: (110) .
وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبِه، وذلك أضعفُ الإيمانِ» أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
فإذا رأى أحدُكم على أخيه أو بعضِ إخوانِه ما يضرُّهم في دينِهم أو دنياهم، فليأمرْهم بالمعروفِ، ولينْهَهم عن المنكر، فإن أطاعوه صلح الحالُ، وإن لم يطيعوه برئت ذمتُهُ وكُتِب أجرُه.