قالَ السَّرْخَسِيُّ: " وَقَدْ بَيَّنا أَنَّ المحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَقَدْ ذَكَرَ هِشامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُما اللهُ تَعالَى - أَنَّهُ إِذا لَمْ يَجِدِ الإِزارَ فَفَتَقَ السَّراوِيلَ إِلَّا مَوْضِعَ التِّكَّةِ، فَلا بَأْسَ حِيَنَئِذٍ بِلِبْسِهِ بِمَنْزِلَةِ المئْزِرِ، وَهُوَ نَظِيرُ ما وَرَدَ بِهِ الأَثَرُ فِيِما لَمْ يَجِدِ المحْرِمُ نَعْلَيْنِ قَطَعَ خُفَّيْهِ أَسْفَلَ مِنْ الكَعْبَيْنِ، لِيصِيرَ في مَعْنَى النَّعْلَيْنِ.
وَفَسَّرَ هِشامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُما اللهُ تَعالَى - الكَعْبَ في هَذا الموْضِعِ بِالمفَصَّلِ الَّذِي في وَسَطِ القَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّراكِ، وَعَلَى هَذا قالَ المتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشايِخِنا: لا بَأْسَ لِلمُحْرِمِ بِأَنْ يَلْبِس المشْكَّ ; لأَنَّهُ لا يَسْتُرُ الكَعْبَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّعْلَيْنِ فَإِنَّ لُبْسَ القَمِيصِ وَالقَلَنْسُوَةِ وَالقُباءِ وَالسَّراوِيلَ يَوْماً إِلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ; لأَنَّ جِنْسَ الجِنايَةِ وَاحِدٌ، وَالمقْصُودُ وَاحِد وَهُوَ الاسْتِمْتاعُ بِلِبْسِ المخِيطِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَما لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ كُلَّهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ غَطَّىَ وَجْهَهُ يَوْما فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَدْ بَيَّنا فِيما سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلمُحْرِمِ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ وَلا رَأْسَهُ عِنْدَنا، خِلافاً لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى، وَقَدْ وَرَدَ الأَثَرُ بِالنَّهْيِ عَنْ تَغْطِيَةِ اللِّحْيَةِ في الإِحْرامِ; لأَنَّهُ مِنَ الوَجْهِ فَعَرَفْنا أَنَّهُ لا يُغَطِّي وَجْهَهُ". المبْسُوطُ (4/126-127)، وانْظُرْ بَدائِعَ الصَّنائِعِ (2/184).
قالَ في النَّوَوِيِّ: (فَرْعٌ) اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالمصَنِّفُ وَالأَصْحابُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الِإزارَ وَيَشُدُّ عَلَيْهِ خَيْطا، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ مِثْلُ الحُجْزَةِ وَيُدْخِلُ فِيها التِّكَّةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ; لأَنَّ ذَلِكَ ِمنْ مَصْلَحَةِ الإِزارِ فَإِنَّهُ لا يَسْتَمْسِكُ إِلَّا بِنَحْوِ ذَلِكَ هَكَذا صَرَّحَ بِهِ المصَنِّفُ وَالأَصْحابُ في جَمِيعِ طُرُقِهِمْ، وَكَذا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في الأُمِّ، وَنَقَلَ القاضِي أَبُو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لِلإِزارِ حُجْزَةً وَيَدْخُلَ فِيها التِّكَّةَ ; لأَنَّهُ يِصِيرُ كالسَّراوِيلِ وَهَذا نَقْلٌ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ.
وَنَقَلَ ابْنُ المنْذِرِ في الإِشْرافِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قالَ: لا يَعْقِدُ عَلَى إِزارِهِ، وَهَذا نَقْلٌ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ مُخالِفٌ لِلمَعْرُوفِ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَطُرُقِ الأَصْحابِ قالَ الشَّافِعِيُّ في الأُمِّ: وَيَعْقِدُ المحْرِمُ عَلَيْهِ إِزارَهُ ; لأَنَّهُ مِنْ صَلاحِ الإِزارِ، قالَ: وَالإِزارُ ما كانَ مَعْقُودًا، هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ ويُمْكِنُ أَنْ يَتَأَوَّلَ ما نَقَلَهُ ابْنُ المنْذِرِ عَلَى أَنَّ المرادَ بِالعَقْدِ العَقْدُ بِالخِياطَةِ، فَهَذا حَرامٌ كَما ذَكَرَهُ المصَنَّفُ في الكِتابِ وَالأَصْحابِ، قالَ أَصْحابُنا: وَلَهُ غَرْزُ رِدائِهِ في طَرْفِ إِزارِهِ، وَهَذا لا خَلافَ فِيهِ ; لأَنَّهُ يَحْتاجُ إِلَيْهِ لِلاسْتِمْساكِ". المجْمُوعُ شَرْحُ المهَذَّبِ (7/270-271)، وَانْظُرْ تُحْفَةَ المحْتاجِ (4/162).
قالَ ابْنُ القَيِّمِ: " وَأَبُو حَنِيفَةَ طَرَّدَ القِياسَ وَقالَ: يَفْتِقُ السَّراوِيلَ حَتَّى يَصِيرَ كالإِزارِ، وَالجُمْهُورُ قالُوا: هَذا خِلافُ النَّصِ، لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: السَّراوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزارَ، وَإِذا فَتَقَ لَمْ يَبْقَ سَراوِيلُ". حاشِيَةُ السُّنَنِ 5(/195).