قالَ ابْنُ حَجَرٍ في فَتْحِ البارِي (10/195):
" فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحاكِمُ مِنْ رِوايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كانَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِصالٍ) فَذَكَرَ فِيها (الرُّقَى إِلَّا بِالمعَوِّذاتِ) وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ قالَ البُخارِيُّ: لا يَصِحُّ حَدِيثُه،ُ وَقالَ الطَّبَرِيُّ: لا يُحْتَجُّ بِهَذا الخَبَرِ؛ لِجَهالَةِ رَاويِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالإِذْنِ في الرُّقْيَةِ بِفاتِحَةِ الكِتابِ. وَأَشارَ المهَلِّبُ إِلَى الجوابِ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ في الفاتَِحِةِ مَعْنَى الاسْتِعاذَةِ وَهُوَ الاسْتِعانَةُ، فَعَلَى هَذا يَخْتَصُّ الجَوازُ بِما يَشْتَمِلُ عَلَى هَذا المعْنَى. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: (كانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الجانِّ وَعَيْنِ الإِنْسانِ، حَتَّى نَزَلَتِ المعَوِّذاتُ، فَأَخَذَ بِها وَتَرَكَ ما سِواها) وَهَذا لا يَدُلُّ عَلَى المنْعِ مِنَ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِ هاتَيْنِ السُّوَرَتَيْنِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الأَوْلَوِيَّةِ، وَلا سِيَّما مَعَ ثُبُوتِ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِهِما، وَإِنَّما اجْتَزَأَ بِهِما لما اشْتَمَلَتا عَلَيْهِ مِنْ جَوامِعِ الاسْتِعاذَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً.
وَقَدْ أَجْمَعَ العُلَماءُ عَلَى جَوازِ الرُّقَى عِنْدَ اجْتِماعِ ثَلاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ بِكِلامِ اللهِ تَعالَى أَوْ بِأَسْمائِهِ وَصِفاتِهِ، وَبِاللِّسانِ العَرَبِيِّ، أَوْ بِما يُعْرَفُ مَعْناهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لا تُؤَثِّرُ بِذاتِها، بَلْ بِذاتِ اللهِ تَعالَى.
وَاخْتَلَفُوا في كَوْنِها شَرْطًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنَ اعْتِبارِ الشُّرُوطِ المذْكُورَةِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مالِكٍ قالَ: كُنَّا نَرْقَى في الجاهِلِيَّةِ، فَقُلْنا يا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرَى في ذَلِكَ؟ فَقالَ: (اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقاكُمْ، لا بَأْسَ بِالرُّقَى ما لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ) وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جابِرٍ: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى) فَجاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ كانَتْ عِنْدَنا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِها مِنَ العَقْرَبِ، قالَ: فَعَرَضُوا عَلَيْهِ فَقالَ: (ما أَرَى بَأْساً، مَنِ اسْتَطاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخاهُ فَلْيَنْفَعْهُ)، وَقَدْ تَمَسَّكَ قَوْمٌ بِهذا العُمُومِ فَأَجازُوا كُلَّ رُقْيَةٍ جَرَّبَتْ مَنْفَعَتُها، وَلَوْ لَمْ يَعْقِلْ مَعْناها، لَكِنْ دَلَّ حَدِيثُ عَوْفٍ أَنَّهُ مَهْما كانَ مِنَ الرُّقَى يُؤَدِّي إِلَى الشَّرْكِ يَمْنَعُ، وَما لا يَعْقِلُ مَعْناهُ لا يُؤْمِنُ أَنْ يُؤَدّي إِلَى الشِّرْكِ، فَيَمْتَنِعُ احْتِياطاً".
وَقالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ (14/168): "...وَفِي الحَدِيثُ الآخَرُ في الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسابٍ (لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فَقَدْ يَظُنُّ مُخالفٌ لِهَذِهِ الأَحادِيثِ (أَي: الأَحادِيثِ الَّتِي فِيها مَشْرُوعِيَّةُ الرُّقْيَةِ) وَلا مُخالَفَةَ، بَلِ المدْحُ في تَرْكِ الرُّقَى، المرادُ بِها الرُّقَى الَّتِي هِيَ مِنْ كَلامِ الكُفَّارِ، وَالرُّقَى المجْهُولَةُ، وَالَّتي بِغَيْرِ العَرَبِيَّةِ وَمالا يُعْرَفُ مَعْناها، فَهَذِهِ مَذْمُومَةٌ؛ لاحْتِمالِ أَنَّ مَعْناها كُفْرٌ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ، أَوْ مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا الرُّقَى بِآياتِ القُرْآنِ، وَبِالأَذْكارِ المعْرُوفَةِ فَلا نَهْيَ فِيهِ، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قالَ في الجَمْعِ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ: إِنَّ المدْحَ في تَرْكِ الرُّقَى لِلأَفْضَلِيَّةِ وَبَيانِ التَّوَكُّلِ، وَالَّذِي فَعَلَ الرُّقَى وَأَذِنَ فِيها لِبيانِ الجَوازِ، مَعَ أَنَّ تَرْكَها أَفْضَلُ، وَبِهَذا قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ وَحكاهُ عَمَّنْ حَكاهُ، وَالمخْتارُ الأَوَّلُ، وَقَدْ نَقَلُوا الإِجْماعَ عَلَى جَوازِ الرُّقَى بِالآياتِ وَأَذْكارُ اللهِ تَعالَى، قالَ المازِرِيُّ: جَمِيعُ الرُّقَى جائِزَةٌ إِذا كانَتْ بِكِتابِ اللهِ، أَوْ بِذِكْرِهِ، وَمَنْهِيٌّ عَنْها إِذا كانَتْ بِاللُّغَةِ العَجَمِيَّةِ، أَوْ بِما لا يُدْرَى مَعْناهُ؛ لِجَوازِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كُفْرٌ".
وَقالَ العِينِيُّ في عُمْدَةَ القارِي (21/265):
"وَما نُهِيَ عَنْهُ هُوَ رُقْيَةُ العَزَّامِينَ، وَمَنْ يَدَّعِي تَسْخِيرَ الجِنِّ".
وَقالَ أَيْضَا (21/262):
"فِيهِ (أَيْ: حَدِيثُ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ بِالمعَوِّذَتَيْنِ) إِباحَةُ النَّفْثِ في الرُّقَى، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الإِسْلامِيينَ، وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْراهِيمَ قالَ: إِذا رَقَيْتَ بِآيِ القُرْآنِ فَلا تَنْفُثْ، وَقالَ الأَسْوَدُ: أَكْرَهُ النَّفْثَ، وَكانَ لا يَرَى بِالنَّفْخِ بَأْسًا، وَكَرِهَهُ أَيْضًا عِكْرَمَةُ وَالحَكَمُ وَحَمَّادُ. قالَ أَبُو عُمَرَ: أَظُنُّ حُجَّةَ مَنْ كَرِهَهُ ظاهِرُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ في العُقَدِ) وَذَلِكَ نَفْثُ سِحْرٍ، وَالسِّحْرُ مُحَرَّمٌ، وَما جاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى، وَفِيهِ الخَيْرُ وَالبَرَكَةُ".