قالَ النَّفْراوِيُّ المالِكِيُّ في الفَواكِهِ الدَّوانِي (1/50):
"وَحَقِيقَتُهُ ـ أَيُّ التَّضْمِينِ ـ أَنْ يَذْكُرَ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ أَوِ الحَدِيثِ، في كَلامِ لا بِلَفْظِ قالَ اللهُ، أَوْ رَسُولِهِ، بَلْ عَلَى وَجْهٍ يُتَوَهَّمُ مَعَهُ أَنَّهُ غَيْرُ قُرْآنٍ أَوْ حَدِيثٍ، وَيُغْتَفَرُ فِيهِ التَّغْييرُ اليَسِيرُ؛ لِنَحْوِ تَقَفِّيهِ أَوْ إِبْهامِ ما لا يَصِحُّ،...
وَاخْتُلِفَ في حُكْمِهِ، فَعَزا بَعْضُ الشُّيوخِ لمالِكٍ التَّشْدِيدَ في مَنْعِهِ، وَهُوَ السُّيوطِيُّ؛ حَيْثُ قالَ:
وَأَمَّا حُكْمُهُ في الشَّرْعِ فَمالِكٌ مُشَدَّدٌ في المنْعِ
وَنُسْبَ لابْنِ عَبْدِ البَرِّ وَالقاضِي عِياضٌ وَابْنِ المنَيِّرِ تَجْويزُهُ، فَلَعَلَّ المصَنِّفَ رَأْيُهُ مُوافِقٌ لِرَأْيِ هَؤُلاءِ الجَماعَةِ القائِلِينَ بِجَوازِ الاقْتِباسِ، وَلَيْسَ مِنْ نَقْلِ القُرْآنِ بِالمعْنَى؛ لِلاتِّفاقِ عَلَى عَدَمِ جَوازِهِ.
وَقَوْلُنا في حَدِّ الاقْتِباسِ: (عَلَى وَجْهٍ يُتَوَهَّمُ مَعْهُ أَنَّهُ غَيْرُ القُرْآنِ) إِشارَةً إِلَى شَرْطِ جَوازِهِ عِنْدَ مَنْ يَجُوزُهُ؛ لأَنَّ ما تَغْيَّرَ بَعْضُ لَفْظِهِ لا يَجُوزُ نَقْلُهُ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ قُرْآنٌ أَوْ حَدِيثٌ مٌطْلَقا.
وَإنِمَّا شَدَّدَ مالِكٌ في مَنْعِ الاقْتِباسِ ـ وَإِنْ خَلا مَنِ التَّغْيِيرِ ـ لإِيِهامِ السَّامِعِ عَدَمَ كَوْنِهِ قُرْآنًا أَوْ حَدِيثاً، وَإِنَّما حَرُمَ نَقْلُ المُغَيَّرِ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ؛ لما فِي ذَلِكَ مِنَ الكَذِبِ؛ لأَنَّ المُغَيَّرَ لَيْسَ كَلامُ اللهِ وَلا رَسُولُهُ...
وَأَمَّا نَقْلُ شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ في نَحْوِ الدُّعاءِ، أَوِ الثَّناءُ عَلَى اللهِ، أَوِ الخُطَب، مِنْ غَيْرِ تَغْييرِ لَفْظِهِ، عَلَى وَجْهٍ لا يُتَوَهَّمُ مَعَهُ عَدَمُ القُرْآنِيَّةِ، فَلا شَكَّ في جَوازِهِ، فَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصَّلاةِ وَغَيْرُها، فَقالَ: (( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لَّلذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ)) الآية ".
وَقالَ ابْنُ مُفْلِحٍ في الآدابِ الشَّرْعِيَّةِ (2/289):
" فَصْلٌ: في الاقْتِباسِ بِتَضْمِينِ بَعْضٍ مِنَ القُرْآنِ في النَّظْمِ وَالنَّثْرِ.
سُئِلَ ابْنُ عُقَيْلٍ عَنْ وَضْعِ كَلِماتٍ وَآياتٍ مِنَ القُرْآنِ في آخِرِ فُصُولِ خُطْبَة وَعْظِيَّةٍ؟ فَقالَ: تَضْمِينُ القُرْآنِ لمقاصِدَ تُضاهِيِ مَقْصُودَ القُرْآنِ لا بَأْسَ بِهِ؛ تَحْسِينًا لِلكَلامِ, كَما يُضَمِّنُ في الرَّسائِلِ إِلَى المشْرِكِينَ آياتٌ تَقْتَضِي الدَّعايَةَ إِلَى الإِسلْامِ, فَأَمَّا تَضْمِينُ كَلامٍ فاسِدٍ فَلا يَجُوزُ، كَكُتِبِ المبْتَدِعَةِ، وَقَدْ أَنْشَدُوا في الشِّعْرِ: (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمنِينَ) وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَىَ الشَّاعِرِ ذَلِكَ؛ لما قَصَدَ مَدْحَ الشَّرْعِ، وََتَعْظِيمِ شَأْنِ أَهْلِهِ، وَكانَ تَضْمِينُ القُرْآنِ في الشِّعْرِ سائِغا؛ لِصِحَّةِ القَصْدِ وَسلامَةِ الوَضْعِ ".
وَقالَ ابْنُ عابِدِينَ في حاشِيَتِهِ (4/153): " الاقْتِباسُ مِنَ القُرْآنِ جائِزٌ عِنْدَنا ".
وَنَظْمَ السُّيُوطِيُّ الخِلافَ فِيهِ بِقَوْلِهِ:
وَأَمَّــا حُـكْمُهُ في الشَّرْعِ فَمـالِكٌ مُشَدِّدٌ في المنـْــعِ
وَلَيْسَ فِيهِ عِـنْدَنـا صَراحَـهْ لَكِنَّ يَحْيَى النَّوَوِي أَباحَـــْه
في الوَعْظِ نَثْرًا دُونَ نَظْمِ مُطْلَقًا وَالشَّرَفُ المقْرِيُّ فِيهِ حَقَّـقـا
جَـوازَهُ في الزُّهْدِ وَالوَعْظِ وَفِي مَدْحِ النَّبِيِّ وَلَوْ بِمَدْحِ ما اقْـتُفِي
نَقَلَهُ عَنْهُ صاحِبُ الفَواكِهِ الدَّوانِي (2/358).