قالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في فَتْحِ البارِي (11/206-208):
وَالمرادُ بِقَوْلِه:ِ ((وَإِنْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ)) الكِنايَةُ عَنِ المبالِغَةِ في الكَثْرَةِ، قالَ عِياضُ: قَوْلُهُ: ((حُطَّتْ خَطاياهُ وَإِنْ كانَتْ مِثْلُ زَبَدِ البَحْرِ)) مَعَ قَوْلِهِ في التَّهْلِيلِ: ((مُحِيَتْ عَنْهُ مائِةِ سَيِّئَةٌ)) قَدْ يَشْعُرُ بِأَفْضَلِيَّةِ التَّسْبِيحِ عَلَى التَّهْلِيلِ؛ لأَنَّ عَدَدَ زَبَدِ البَحْرِ أَضْعافَ أَضْعافَ المائِةِ. لَكِنْ تَقَدَّمَ في التَّهْلِيلِ ((وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جاءَ بِهِ)) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُما، بَأْن يَكُونَ التَّهْلِيلُ أَفْضَلَ، وَأَنَّهُ بِما زِيدَ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجاتِ، وَكَتْبِ الحَسناتِ، ثُمَّ ما جَعَلَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ عِتْقِ الرَّقابِ قَدْ يَزِيدُ عَلَى فَضْلِ التَّسْبِيحِ، وَتَكْفِيرِهِ جَمِيعَ الخَطايا؛ لأَنَّهُ قَدْ جاءَ ((مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْها عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ)) فَحَصَلَ بِهَذا العِتْقِ تَكْفِيرُ جَمِيعِ الخَطايا عُمُومًا، بَعْدَ حَصْرِ ما عُدَّدَ مِنْها خُصُوصًا، مَعَ زِيادَةِ مائَةِ دَرَجَةٍ، وَما زَادَهُ عِتْقُ الرِّقابُ الزِّيادَةُ عَلَى الواحِدِةِ، وَيُؤَيِّدُهُ الحَدِيثُ الآخِرُ ((أَفْضَلُ الذِّكْرِ التَّهْلِيلُ)) وَأَنَّهُ أَفْضَلُ ما قالَهُ وَالنَّبِيُّونَ مَنْ قَبْلَهُ، وَهُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَالإِخْلاصِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ.
وَقَدْ مَضَى شَرْحُ التَّسْبِيحِ، وَأَنَّهُ التَّنْزِيهِ عَمَّا لا يَلِيقُ بِاللهِ، وَذَلِكَ داخِلٌ في ضِمْنِ (لا إِلَهُ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الملْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قُلْتُ: وَحَدِيثُ ((أَفْضَلُ الذِّكْرِ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جابِرٍ، وَيُعارِضُهُ في الظَّاهِرِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ أَخْبَرْنِي بِأَحَبِّ الكَلامِ إِلَى اللهِ؟ قالَ: ((إِن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده)) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوايَةِ: سُئِلَ أَيُّ الكَلامِ أَفْضَلُ؟ قالَ: ((ما اصْطَفاهُ اللهُ لملائِكَتِهِ، سُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ)).
وَقالَ الطَّيِّبِيُّ في الكَلامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: فِيهِ تَلْمِيحٌ بِقَوْلِهِ تَعالَى حِكايَةٌ عَنِ الملائِكِةِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (البَقَرَة: مِنَ الآيَةِ30)، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ((سُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ)) مُخْتَصَرًا مِنَ الكِلِماتِ الأَرْبَعِ وَهِيَ: سُبْحانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ؛ لأَنَّ ((سُبْحانَ اللهِ)) تَنْزِيهٌ لَهُ عَمَّا لا يَلِيقُ بِجَلالِهِ، وَتَقْدِيسٌ لِصِفاتِهِ مِنَ النَّقائِصِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَعْنَى لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَبِحَمْدِهِ) صَرِيحٌ في مَعْنَى (وَالحَمْدُ للهِ)؛ لأَنَّ الإِضافَةَ فِيهِ بِمَعْنَى الَّلامِ في الحَمْدُ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ مَعْنَى (اللهُ أَكْبَرُ)؛ لأَنَّهُ إِذا كانَ كُلُّ الفَضْلِ وَالإِفْضالِ للهِ وَمِنَ اللهِ، وَلَيْسَ مِنْ غَيْرِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَكْبَرَ مِنْهُ، وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ أَفْضَلَ مِنَ التَّهْلِيلِ؛ لأَنَّ التَّهْلِيلَ صَرِيحٌ في التَّوْحِيدِ، وَالتَّسْبِيحِ مُتَضَمِّنٌ لَهُ؛ وَلأَنَّ نَفْيَ الآلِهَةِ في قَوْلِ: (لا إِلَهَ) نَفْيٌ لِمُضْمَنِهَا مِنْ فِعْلِ الخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالإِثابَةِ وَالعُقُوبَةِ.
وَقَوْلُ: (إِلَّا اللهُ) إِثْباتٌ لِذَلِكَ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ ما يُضادُّهُ وَيُخالِفُهُ مِنَ النَّقائِصِ، فَمَنْطُوقُ (سُبْحانَ اللهِ) تَنْزِيهٌ، وَمَفْهُومُهُ تَوْحِيدٌ، وَمَنْطُوقُ (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) تَوْحِيدٌ، وَمَفْهُومُهُ تَنْزِيهٌ، يَعْنِي فَيَكُونُ (لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) أَفْضَلُ؛ لأَنَّ التَّوْحِيدَ أَصْلٌ، وَالتَّنْزِيهُ يَنْشَأُ عَنْهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَمَعَ القُرْطُبِيُّ بِما حاصِلُهُ: أَنَّ هَذِهِ الأَذْكارَ إِذا أُطْلِقَ عَلَى بَعْضِها أَنَّهُ أَفْضَلُ الكَلامِ، أَو أَحَبُّهُ إِلَى اللهِ، فَالمرادُ إِذا انْضَمَّتْ إِلَى أَخَواتِها؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: ((أَحَبُّ الكَلامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ، لا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ)) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكْتَفِيَ في ذَلِكَ بِالمعْنَىَ، فَيَكُونُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِها كَفَى؛ لأَنَّ حاصِلُها التَّعْظِيمُ وَالتَّنْزِيهُ، وَمِنْ نَزَّهَهُ فَقَدْ عَظَّمَهُ، وَمَنْ عَظَّمَهُ فَقَدْ نَزَّهَهُ، انْتَهَىَ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ: هَذا الإِطْلاقُ في الأَفْضَلِيَّةِ مَحْمُولُ عَلَى كَلامِ الآدِمِيِّ، وَإِلاَّ فَالقُرْآنُ أَفْضَلُ الذِّكْرِ.
وَقالَ البَيْضاوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ المرادَ مِنْ الكَلامِ كَلامُ البَشَرِ؛ فَإِنَّ الثَّلاثَ الأُوَلَ وَإِنْ وُجِدَتْ في القُرْآنِ، لَكِنَّ الرَّابِعَةَ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ، وَلا يَفْضُلُ ما لَيْسَ فِيهِ عَلَى ما هُوَ فِيهِ.
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجْمَعَ بِأَنْ تَكُونَ (مِنْ) مُضْمَرَةٍ في قَوْلِهِ: (أَفْضَلُ الذِّكْرِ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَفِي قَوْلِهِ: (أَحَبُّ الكَلامِ) بِناءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ أَفْضَلُ وَأَحَبُّ مُتَساوِيانِ في المعْنَى، لَكِنْ يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ تَفْضِيلٌ (لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)؛ لأَنَّها ذَكَرَتْ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْها بِالأَفْضَلِيَّةِ الصَّرِيحَةِ، وَذُكِرَتْ مَعَ أَخَواتِها بِالأَحَبِّيَّةِ، فَحَصَلَ لَها التَّفْضِيلُ تَنْصِيصًا وَانْضِمامًا، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ باباهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ قالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذا قالَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَهِيَ كَلِمَةُ الإِخْلاصِ الَّتِي لا يَقْبَلُ اللهُ عَمَلاً حَتَّى يَقُولُها، وَإِذا قالَ: الحَمْدُ للهِ، فَهِيَ كَلِمَةُ الشُّكْرِ الَّتِي لَمْ يَشْكُرِ اللهَ عَبْدٌ حَتَّى يَقُولَها) وَمِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ عَنْ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قالَ: (مَنْ قالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَلْيَقُلْ عَلَى إِثْرَها الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمينَ).
تَكْمِيلٌ: أَخْرَجَ النَّسائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قالَ مُوسَى: يا رَبِّ عَلَّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ، قالَ: قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) الحَدِيثُ، وَفِيهِ ((لَوْ أَنَّ السَّماواتِ السَّبْعَ وَعامِرَهُنَّ، وَالأَرْضِينَ السَّبْعَ، جُعِلْنَ في كِفَّةٍ، وَلا إِلَهَ إِلَّا اللهُ في كِفَّةٍ، لمالَتْ بِهِنَّ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الذِّكْرَ بِلا إِلَهَ إِلَّا اللهُ أَرْجَحُ مِنَ الذِّكْرِ بِالحَمْدِ للهِ، وَلا يُعارِضُهُ حَدِيثُ أَبِي مالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رَفَعَهُ ((وَالحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الميزانِ)) فَإِنَّ الملْءَ يَدُلُّ عَلَى المساواةِ، وَالرُّجْحانِ صَرِيحٌ في الزِّيادَةِ، فَيَكُونُ أَوْلَى، وَمَعنْىَ (مِلْءُ الميزانِ) أَنَّ ذاكِرَها يَمْتَلِئُ مِيزانُه ثَوابًا.
وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ العُلَماءِ أَنَّ الفَضْلَ الوارِدَ في حَدِيثِ البابِ وَما شَابَهَهُ، إِنَّما هُوَ لأَهْلِ الفَضْلِ في الدِّينِ، وَالطَّهارَةِ مِنَ الجَرائِمِ العِظامِ، وَلَيْسَ مَنْ أَصَرَّ عَلَى شَهَواتِهِ، وَانْتَهَكَ دِينَ اللهِ وَحُرُماتِهِ بِلا حَقٍّ، بِالأَفاضِلِ المطَهَّرِينَ في ذَلِكَ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعالَى:أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (الجاثـية:21).