رَوَى البُخارِيُّ (1196) وَمُسْلِمٌ (1391) وَغَيْرهُما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (ما بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي).
قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في التَّمْهِيدِ ج2/ص287:
"فَقالَ قَوْمٌ: مَعْناهُ أَنَّ البُقْعَةَ تُرْفَعُ يَوْمَ القَيامَةِ فَتُجْعَلُ رَوْضَةً في الجَنَّةِ. وَقالَ آخَرُونَ: هَذا عَلَى المجازِ.
قالَ أَبُو عُمَرَ: كَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّهُ لما كانَ جُلُوسُهُ وَجُلُوسُ النَّاسِ إِلَيْهِ، يَتَعَلَّمُونَ القُرْآنَ وَالإيمانَ وَالدِّينَ هُناكَ، شَبَّهَ ذَلِكَ الموْضِعَ بِالرَّوْضَةِ؛ لِكَرَمِ ما يُجْتَنَى فِيها، وَإِضافَتُها إِلَى الجَنَّةِ لأَنَّها تَقُودُ إِلَى الجَنَّةِ، كَما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الجَنَّةُ تَحْتَ ظِلالِ السُّيوفُ) يَعْنِي أَنَّهُ عَمَلٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الجَنَّةِ، وَكَما يُقالُ: الأُمُّ بابٌ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ، يُرِيدُونَ أَنَّ بِرَّها يُوصِلُ المسْلِمَ إِلَى الجَنَّةِ مَعَ أَداءِ فَرائِضِهِ، وَهَذا جائِزٌ سائِغٌ مُسْتَعْمَلٌ في لِسانِ العَرَبِ، وَاللهُ اعْلَمُ بِما أَرادَ مِنْ ذَلِكَ"اهـ.
وَقالَ ابْنُ حَزْمٍ في المحَلَّىج7/ص283:
"وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: (بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) ... عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: (سيحان وَجيحانُ وَالفُراتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهارِ الجَنَّةِ)...
قالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذانِ الحَدِيثانِ لَيْسَ عَلَى ما يَظُنُّهُ أَهْلُ الجَهْلِ مِنْ أَنَّ تِلْكَ الرَّوْضَةَ قِطْعَةٌ مُنْقَطِعَةٌ مِنَ الجَنَّةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الأَنْهارُ مُهْبَطَةٌ مِنَ الجَنِّةِ، هَذا باطِلٌ وَكَذِبٌ؛ لأَنَّ اللهَ تَعالَى يَقُولُ في الجَنَّةِ: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} (طه: 118-119) فَهَذِهِ صِفَةُ الجَنَّةِ بِلا شَكٍّ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ صِفَةُ الأَنْهارِ المذْكُورَةِ، وَلا تِلْكَ الرَّوْضَةِ، وَرَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يَقُولُ إِلَّا الحَقَّ، فَصَحَّ أَنَّ كَوْنَ تِلْكَ الرَّوْضَةَ مِنَ الجَنَّةِ إِنَّما هُوَ لِفَضْلِها، وَأَنَّ الصَّلاةَ فِيها تُؤَدِّي إِلَى الجَنَّةِ، وَأَنَّ تِلْكَ الأَنْهارَ لِبَرَكَتِها أُضِيفَتْ إِلَى الجَنَّةِ، كَما تَقُولُ في اليَوْمِ الطَّيِّبِ: هَذَا مِنْ أَيَّامِ الجَنَّةِ، وَكَما قِيلَ في الضَّأْنِ: إِنَّها مِنْ دَوابِّ الجَنَّةِ، وَكَما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: (إِنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ)..."اهـ.
قالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ ج9/ص161:
"قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ) ذَكَرُوا في مَعْناهُ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُما: أَنَّ ذَلِكَ الموْضِعَ بِعَيْنِهِ يَنْقِلُ إِلَى الجَنَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ العِبادَةَ فِيهِ تُؤَدَّى إِلَى الجَنَّةِ.
قالَ الطَّبَرِيُّ في المرادِ بِبَيْتِي هُنا قَوْلانِ: أَحَدُهُما القَبْرُ، قالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ كَما ر
رُوِيَ مُفَسَّرًا (بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي). وَالثَّانِي: المرادُ بَيْتُ سُكْناهُ عَلَى ظاهِرِهِ، وَرُوِيَ (ما بَيْنَ حُجْرَتِي وَمِنْبَرِي) قالَ الطَّبَرِيُّ: وَالقَوْلانِ مُتَّفِقانِ؛ لأَنَّ قَبْرَهُ في حُجْرَتِهِ، وَهِيَ بَيْتُهُ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) قالَ القاضِي: قالَ أَكْثَرُ العُلَماءِ: المرادُ مِنْبَرُهُ بِعَيْنِهِ الَّذِي كانَ في الدُّنْيا، قالَ: وَهَذا هُوَ الأَظْهَرُ،...وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ غَيْرَهُ...وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ هُناكَ مِنْبَرًا عَلَى حَوْضِهِ، وَقِيلَ: مَعْناهُ أَنَّ قَصْدَ مِنْبَرِهِ وَالحُضُورَ عِنْدَهُ لِمُلازَمَةِ الأَعْمالِ الصَّالِحَةِ يُورِدُ صاحِبَهُ الحَوْضَ، وَيَقْتَضِي شُرْبَهُ مِنْهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ"اهـ.
وَقالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في فَتْحِ البارِيّ ج4/ص100:
" قَوْلُهُ: (رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ) أَيْ: كَرَوْضَةٍ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ في نُزُولِ الرَّحْمَةِ، وَحُصُولِ السَّعادَةِ بِما يَحْصُلُ مِنْ مُلازَمَةِ حِلَقِ الذِّكْرِ، لا سِيَّما في عَهْدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ تَشْبِيهًا بِغَيْرِ أَداةٍ.
أَوِ المعْنَى أَنَّ العِبادَةَ فِيها تُؤَدَّي إِلَى الجَنَّةِ، فَيَكُونُ مَجازًا.
أَوْ هُوَ عَلَى ظاهِرِهِ، وَأَنَّ المرادَ أَنَّهُ رَوْضَةٌ حَقِيقَةٌ، بِأَنْ يَنْتَقِلَ ذَلِكَ الموْضِعَ بِعَيْنِهِ في الآخِرَةِ إِلَى الجَنَّةِ، هَذا مُحَصِّلُ ما أَوَّلَهُ العُلَماءُ في هَذا الحَدِيثِ، وَهِيَ عَلَى تَرْتِيبُها هَذا في القُوَّةِ"اهـ.
وَقالَ أَيْضًا ج11/ص475:
"وَالمرادُ بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ الموْضِعِ رَوْضَةٌ أَنَّ تِلْكَ البُقْعَةَ تَنْقِلُ إِلَى الجَنَّةِ فَتَكُونُ رَوْضَةً مِنْ رِياضِها، أَوْ أَنَّهُ عَلَى المجازِ؛ لِكَوْنِ العِبادَةِ فِيهِ تَئُولُ إِلَى دُخُولِ العابِدِ رَوْضَةَ الجَنَّةِ، وَهَذا فِيهِ نَظَرَ؛ إِذْ لا اخْتِصاصَ لِذَلِكَ بِتِلْكَ البُقْعَةِ، وَالخَبَرُ مَسُوقٌ لِمَزِيدِ شَرَفِ تِلْكَ البُقْعَةِ عَلَى غَيْرِها.
وَقِيلَ: فِيهِ تَشْبِيهٌ مَحْذُوفُ الأداةِ، أَيْ: هُوَ كَرَوْضَةٍ؛ لأَنَّ مَنْ يَقْعُدُ فِيها مِنَ الملائِكَةِ وَمُؤْمِنِي الإِنْسِ وَالجِنِّ يُكْثُرُونَ الذِّكْرَ وَسائِرَ أَنْواعِ العِبادَةِ.
وَقالَ الخَطَّابِيُّ: المرادُ مِنْ هَذا الحَدِيثِ التَّرْغِيبُ في سُكْنَى المدِينَةِ، وَأَنْ مَنْ لازَمَ ذِكْرَ اللهِ في مَسْجِدِها آلِ بِهِ إِلَى رَوْضَةِ الجَنَّةِ، وَسُقِيَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ الحَوْضِ"اهـ.