مَراتِبُ الهِدايَةِ الخاصَّةِ وَالعامَّةِ، وَهِيَ عَشْرُ مَراتِبَ:
المرْتَبَةُ الأُولَى: مَرْتَبَةٌ تَكْلِيمُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِعَبْدِهِ يَقَظَةً بِلا واسِطَةٍ، بَلْ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ أَعْلَى مَراتِبِها، كَما كَلَّمَ مُوسَى بْنِ عِمْرانَ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَى نَبِيِّنا وَعَلَيْهِ قالَ اللهُ تَعالَى:}وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً{ النِّساءُ: مِنَ الآيَةِ164.
المرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مَرْتَبَةُ الوَحْيِ المخْتَصِّ بِالأَنْبِياءِ.
قالَ اللهُ تَعالَى:}إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ{ النِّساءُ: مِنَ الآيَةِ163 وَقالَ:}وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ{ الشُّورَى:51 فَجَعَلَ الوَحْيَ في هَذِهِ الآيَةِ قِسْمًا مِنْ أَقْسامِ التَّكْلِيمِ، وَجَعَلَهُ في آيَةِ النِّساءِ قَسِيمًا لِلتَّكْلِيمِ وَذَلِكَ بْاعْتِبارَيْنِ فَإِنَّهُ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ الخاصِّ الَّذِي هُوَ بِلا واسِطَةٍ، وَقِسْمٌ مِنَ التَّكْلِيمِ العامِّ الَّذِي هُوَ إِيصالُ المعْنَى بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَالوَحْيُ في اللُّغَةِ هُوَ الإِعْلامُ السَّرِيعُ الخَفِيُّ.
المرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: إِرْسالُ الرَّسُولِ الملَكِيِّ إِلَى الرَّسُولِ البَشَرِيِّ.
وَهَذا الرَّسُولُ الملَكِيُّ قَدْ يَتَمَثَّلُ لِلرَّسُولِ البَشَرِيِّ رَجُلاً يَراهُ عَيانًا وَيُخاطِبُهُ، وَقَدْ يَراهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتي خُلِقَ عَلَيْها، وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهِ الملِكُ وَيُوحِي إِلَيْهِ ما يُوحِيهِ ثُمَّ يُفْصَمُ عَنْهُ، وَالثَّلاثَةُ حَصَلَتْ لِنَبِيِّنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
وَهَذِهِ المراتِبُ الثَّلاثُ خاصَّةً بِالأَنْبِياءِ، لا تَكُونُ لِغَيْرِهِمْ.
المرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مَرْتَبَةُ التَّحْدِيث.
وَهَذِهِ دُونَ مَرْتَبَةِ الوَحْيِ الخاصِّ،وَتَكُونُ دُونَ مَرْتَبَةِ الصِّدِّيقِينَ كَما كانَتْ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَما قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنَّهُ كانَ في الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ فَعُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ)) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (3469) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَالمحَدَّثُ هُوَ الَّذِي يُحَدَّثُ فِي سِرِّهِ وَقَلْبِهِ بِالشَّيْءِ فَيَكُونُ كَما يُحَدَّثُ بِهِ.
قالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مِنَ المحَدَّثِ؛ لأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِكمالِ صِدِّيقِيَّتِهِ.
المرْتَبَةُ الخامِسَةُ: مَرْتَبَةُ الإِفْهامِ.
قالَ اللهُ تَعالَى:} وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً{ الأنبياء: 78_79 فَذَكَرَ هَذَيْنِ النَّبِيِّيْنِ الكَرِيمَيْنِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِما بِالعِلْمِ وَالحُكْمِ، وَخَصَّ سُلَيْمانَ بِالفَهْمِ في هَذِهِ الواقِعِةِ المعَيَّنَةِ، وَقالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طالِبٍ، وَقَدْ سُئِلَ هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللهِ بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ؟ فَقالَ: ( لا، وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسْمَةَ، إِلَّا فَهْماً يُؤْتِيهِ اللهُ عَبْدَاً في كِتابِهِ...) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (3047).
فالفَهْمُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَنُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ في قَلْبِهِ، يَعْرِفُ بِهِ وَيُدْرِكُ مالا يُدْرِكُهُ غَيْرُهُ وَلا يَعْرِفُهُ، فَيَفْهَمُ مِنَ النَّصِّ مالا يَفْهَمُهُ غَيْرُهُ، مَعَ اسْتِوائِهِما في حِفْظِهِ وَفَهْمِ أَصْلِ مَعْناهُ، فَالفَهْمُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ عُنْوانُ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَمَنْشُورُ الوِلايَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَفِيهِ تَفاوَتَتْ مَراتِبُ العُلَماءِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِواحِدٍ.
المرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: مَرْتَبَةُ البَيانِ العامِّ.
وَهُوَ تبَيْينُ الحَقِّ، وَتَمْييزُهُ مِنَ الباطِلِ بِأَدِلَّتِهِ وَشواهِدِهِ وَأَعْلامِهِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ مَشْهُودًا لِلقَلْبِ، كَشُهُودِ العَيْنِ لِلمَرْئِيَّاتِ. وَهَذِهِ المرْتَبَةُ هِيَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ الَّتِي لا يُعَذِّبُ أَحَدًا وَلا يُضِلُّهُ إِلَّا بَعْدَ وُصُولِها إِلَيْهِ.
وَتَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ: الآياتِ المتْلُوُّةِ المسْمُوعَةِ، وَ الآياتِ المرْئِيَّةِ المشْهُودَةِ.
المرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: البَيانُ الخَاصُّ.
وَهُوَ البَيانُ المسْتَلْزِمُ لِلهِدايَةِ الخاصَّةِ، وَهُوَ بَيانٌ تُقارِنُهُ العِنايَةُ وَالتَّوْفِيقُ وَالاجْتِباءُ، وَقَطْعُ أَسْبابِ الخِذْلانِ وَمَوادِّها عَنِ القَلْبِ، فَلا تَتَخَلَّفُ عَنْهُ الهِدايَةُ البَتَّةُ.
المرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ : مَرْتَبَةُ الإِسْماعِ.
قال الله تعالى: }وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ{ الأَنْفالُ:23 وَهَذا الإِسْماعُ أَخَصُّ مِنْ إِسْماعِ الحُجَّةِ وَالتَّبْلِيغِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حاصِلٌ لَهُمْ، وَبِهِ قامَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ ذَاكَ إِسْماعُ الآذانِ، وَهَذا إِسْماعُ القُلُوبِ.
المرْتَبَةُ التَّاسِعَةُ: مَرْتَبَةُ الإِلْهامِ.
قالَ تَعالَى:}وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{ الشَّمْسُ:7_8 وَتَقْواها، وَقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصَيْنِ بْنِ مُنْذِرِ الخُزاعِيِّ لما أَسْلَمَ: (( قُلْ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (19940).
وَالإِلْهامُ عامٌّ لِلمُؤْمِنينَ بِحَسْبِ إِيمانِهِمْ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ فَقَدْ أَلْهَمَهُ اللهُ رُشْدَهُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ الإِيمانُ.
المرْتَبَةُ العاشِرَةُ: الرُّؤْيا الصَّادِقَةُ.
وَهِيَ مِنْ أَجْزاءِ النُّبُوَّةِ، كَما ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قالَ: (( الرُّؤْيا الصَّادِقَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبَوَّةِ )) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (6989) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَدْ قِيلَ في سَبَبِ هَذا التَّخْصِيصِ المذْكُورِ: إِنَّ أَوَّلَ مُبْتَدَأِ الوَحْيِ كانَ هُوَ الرُّؤْيا الصَّادِقَةِ، وَذَلِكَ نِصْفُ سَنَةٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى وَحْيٍ اليَقَظَةِ مُدَّةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةٍ، مِنْ حِينَ بُعِثَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، فَنِسْبَةُ مُدَّةِ الوَحْيِ في المنامِ مِنْ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا. مَدارِجُ السَّالِكِينَ لابْنِ القَيِّمِ (1/37_50) بِتَصَرُّفٍ.