القاعدة السابعة والعشرون :المحترزات في القرآن تقع في كل المواضع في أشد الحاجة إليها
وهذه القاعدة جليلة النفع، وعظيمة الوقع .
وذلك أن كل موضع يسوق الله فيه حكماً من الأحكام أو خبراً من الأخبار فيتشوف الذهن فيه إلى شيء آخر، إلا وجدت الله قرَن به ذلك الأمر الذي يعلق في الأذهان، فيبينه أحسن بيان . وهذا أعلى أنواع التعليم، الذي لا يبقي إشكالاً إلا أزاله، ولا احتمالاً إلا أوضحه . وهذا يدل على سعة علم الله وحكمته . وذلك في القرآن كثير جداً .
ولنذكر بعض أمثلة توضح هذه القاعدة، وتحسن للداخل الدخول إليها .
فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} النمل: 91 لمَّا خصها بالذكر ربما وقع في بعض الأذهان تخصيص ربوبيته بها أزال هذا الوهم بقوله:{وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} النمل: 91 .
ومنها قوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} هود: 109 لمَّا كان قد يقع في الذهن أنهم على حجة وبرهان فأبان بقوله: {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} هود: 109 أنهم ضُلَّال اقتدوا بمثلهم، ثم لما كان قد يتوهم المتوهم أنهم في طمأنينة من قولهم، وعلى يقين من مذهبهم، وربما يتوهم أيضاً أن الأليق ألا يبسط لهم الدنيا احترز من ذلك بقوله: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَأنهم لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} هود: 109، 110
ولما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} النساء: 95 ربما يظن الظان أنهم لا يستوون مع المجاهدين ولو كان القاعدون معذورين . أزال هذا الوهم بقوله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} النساء: 95 .
وكذلك لما قال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الحديد: 10 ربما توهم أحد أن المفضولين ليس لهم عند الله مقام ولا مرتبة، فأزال هذا الوهم بقوله: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} الحديد: 10 ثم لما كان ربما يتوهم أن هذا الأجر يُستحق بمجرد هذا العمل المذكور، ولو خلا من الإخلاص، أزال هذا الوهم بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الحديد: 10 .
ومنها: قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} النمل: 48 ربما وقع في الذهن أنهم يفسدون وقد يصلحون، فأزال هذا الوهم بقوله: {وَلا يُصْلِحُونَ} النمل: 48 أي: لا خير فيهم أصلاً مع شرهم العظيم .
ومنها: أنه قال في عدة مواضع {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} فربما توهم أحد أنهم وإن لم يسمعوا فإنهم يفهمون الإشارة . فأزال هذا الاحتمال بقوله: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} النمل: 80 فهذه الحالة لا تقبل سماعاً ولا رؤية لتحصل الإشارة، وهذا نهاية الإعراض .
ومنها قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ربما توهم أحد أن هدايته تأتي جزافاً من غير سبب . فأزال هذا بقوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} القصص: 56 أي: بمن يصلح للهداية لزكاته وخيره ممن ليس كذلك، فأبان أن هدايته تابعة لحكمته التي هي وضع الأشياء مواضعها . ومن كان حسن الفهم رأى من هذا النوع شيئاً كثيراً .
القاعدة الثامنة والعشرون :في ذكر الأوصاف الجامعة التي وصف الله بها المؤمن
لما كان الإيمان أصل كل الخير كله والفلاح، وبفقده يفقد كل خير ديني ودنيوي وأخروي، أكثر الله من ذكره في القرآن جداً: أمراً به، ونهياً عن ضده، وترغيباً فيه، وبياناً لأوصاف أهله، وما لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي .
فأما إذا كان المقام مقامَ خطاب للمؤمنين بالأمر والنهي، أو مقامَ إثبات الأحكام الدنيويه بوصف الإيمان، فإنها تتناول كل مؤمن، سواء كان متمما لواجبات الإيمان وأحكامه، أو ناقصاً في شيءٍ منها .
وأما إذا كان المقام مقام مدح وثناء وبيان الجزاء الكامل للمؤمن: فإنما المراد بذلك المؤمن حقاً الجامع لمعاني الإيمان .
وهذا هو المراد بيانه هنا . فنقول: وصف الله المؤمن في كتابه باعترافه وتصديقه بجميع عقائد الدين وبإرادة ما يحبه الله ويرضاه، وبالعمل بما يحبه الله ويرضاه، وبترك جميع المعاصي، وبالمبادرة بالتوبة مما صدر منه منها، وبأن إيمانهم أثر في أخلاقهم وأقوالهم وأفعالهم الآثار الطيبة .
فوصف المؤمنين بالإيمان بالأصول الجامعة: وهي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأنهم يؤمنون بكل ما أتت به الرسل كلهم ويؤمنون بالغيب، ووصفهم بالسمع والطاعة، والانقياد ظاهراً وباطناً، ووصفهم بأنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} الأنفال: 2،3،4 .
ووصفهم بأن جلودهم تقشعر، وعيونهم تفيض من الدمع، وقلوبهم تلين وتطمئن لآيات الله وذكره، وبأنهم يخشون ربهم بالغيب والشهادة، وأنهم يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون .
ووصفهم بالخشوع في أحوالهم عموماً، وفي الصلاة خصوصاً وأنهم عن اللغو معرضون، وللزكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم . وأنهم بشهاداتهم قائمون، ولأماناتهم وعهدهم مُراعون .
ووصفهم باليقين الكامل الذي لا ريب فيه، وبالجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله .
ووصفهم بالإخلاص لربهم في كل ما يأتون ويذرون .
ووصفهم بمحبة المؤمنين والدعاء لإخوانهم من المؤمنين السابقين واللاحقين، وأنهم مجتهدون في إزالة الغل من قلوبهم على المؤمنين، وبأنهم يتولون الله ورسوله وعباده المؤمنين، ويتبرؤن من موالاة جميع أعداء الدين، وبأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله في كل أحوالهم .
فجمع الله لهم بين العقائد الحقة واليقين الكامل، والإنابة التامة التي آثارها الانقياد لفعل المأمورات وترك المنهيات، والوقوف الحدود الشرعية .
فهذه الأوصاف الجليلة هي وصف المؤمن المطلق الذي سلم من العقاب، واستحق الثواب، ونال كل خير رُتِّب على الإيمان .
فإن الله رتب على الإيمان في كتابه من الفوائد والثمرات ما لا يقل عن مائة فائدة، كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها .
رتب على الإيمان نيل رضاه الذي هو أكبر من كل شيء، ورتب عليه دخول الجنة والنجاة من النار، والسلامة من عذاب القبر ومن صعوبات القيامة وتعثر أحوالهم، والبشرى الكاملة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والثبات في الدنيا على الإيمان والطاعات وعند الموت وفي القبر على الإيمان والتوحيد والجواب النافع السديد، ورتب عليه الحياة الطيبة في الدنيا والرزق والحسنة وتيسيره العبدَ لليسرى وتجنيبه للعسرى، وطمأنينة القلوب وراحة النفوس والقناعة التامة، وصلاح الأحوال، وصلاح الذرية، وجعلهم قرة عين للمؤمن، والصبر عند المحن والمصائب .
وحمْل الله عنهم الأثقالَ، ومدافعة الله عنهم جميع الشرور، والنصر على الأعداء، ورفع المؤاخذة عن الناسي والجاهل والمخطئ منهم، وأن الله قد وضع عنهم الآصار والأغلال ولم يحملهم ما لا طاقة لهم فيه، ومغفرة الذنوب بإيمانهم والتوفيق للتوبة .
فالإيمان أكبر وسيلة للقرب من الله والقرب من رحمته، ونيل ثوابه، وأكبر وسيلة لمغفرة الذنوب، وإزالة الشدائد أوتخفيفها .
وثمرات الإيمان على وجه التفصيل كثيرة، وبالجملة خيرات الدنيا والآخرة مرتبة على الإيمان، كما أن الشرور مرتبة على فقده، والله أعلم .