القاعدة الثانية والثلاثون :الأمر بالشيء نهي عن ضده
إذا أمر الله بشيء كان ناهياً عن ضده، وإذا نهى عن شيء كان آمراً بضده، وإذا أثنى على نفسه أو على أوليائه وأصفيائه بنفي شيء من النقائص كان ذلك إثباتاً للكمال .
وذلك: بأنه لا يمكن امتثال الأمر على وجه الكمال إلا بترك ضده، فحيث أمر بالتوحيد والصلاة والزكاة والصوم والحج وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والعدل والإحسان، كان ناهياً عن الشرك وعن ترك الصلاة وترك الزكاة وترك الصوم وترك الحج وعن العقوق والقطيعة والظلم والإساءة، وحيث نهى عن الشرك وترك الصلاة . . . إلى آخر المذكورات . كان آمراً بالتوحيد وفعل الصلاة إلى آخرها .
وحيث أمر بالصبر والشكر، وإقبال القلب على الله إنابة ومحبة وخوفاً ورجاء، كان ناهياً عن الجزع والسخط وكفران النعم وإعراض القلب عن الله في تعلق هذه الأمور بغيره . وحيث نهى عن الجزع وكفران النعم وغفلة القلب، كان آمراً بالصبر إلى آخر المذكورات .
وهذا ضربُ مثلٍ، وإلا فكل الأوامر والنواهي على هذا النمط، وكذلك المدح لا يكون إلا بإثبات الكمالات، فحيث أثنى على نفسه، وذكر تنزهه عن النقائص والعيوب: كالنوم والسِّنة واللُّغوب والموت، وخفاء شيء في العالم من الأعيان والصفات والأعمال وغيرها، والظلم والعبث واللعب وخلق شيء باطلاً وأن يكون عطاؤه أو جزاؤه جزافاً بلا حكمة، فَلتَضمن ذلك الثناء عليه بكمال حياته، وكمال قيوميته، وقدرته، وسعة علمه، وكمال عدله وحكمته؛ لأن العدم المحض لا كمال فيه، حتى ينفي تكميلاً للكمال .
وكذلك إذا نفى الله عن كتابه الريب والاختلافَ والشك والإخبارَ بخلاف الواقع كان ذلك لكمال دلالته على اليقين في جميع المطالب، واشتماله على الأحكام، والانتظام التام والصدق الكامل، إلى غير ذلك من صفات كتابه .
وكذلك إذا نفى عن رسوله صلى الله عليه وسلم الكذب، والتقول على الله، واتباع الهوى والجنون والسحر والشعر ونحوها، كان ذلك لأجل إثبات كمال صدقه، وأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، ولكمال عقله ولزوال كل ما يقدح في كمال نبوته ورسالته .
فتفطن لهذه القاعدة في كل ما يمر عليك من الآيات القرآنية في هذه الأمور وغيرها، تنل خيراً كثيراً . والله أعلم .
القاعدة الثالثة والثلاثون :المرض في القرآن ـ مرض القلوب ـ نوعان:
مرض شبهات وشكوك، ومرض شهوات ومحرمات
والطريق إلى تميز هذا من هذا ـ مع كثرة ورودهما في القرآن ـ يُدرك من السياق .
فإن كان هذا السياق في ذم المنافقين والمخالفين في شيء من أمور الدين، كان مرضَ الشكوك والشبهات، وإن كان السياق في ذكر المعاصي والميل كان مرضَ الشهوات . ووجه انحصار المرض في هذين النوعين: أن مرض القلب خلاف صحته، وصحة القلب الكاملة بشيئين: كمال علمه ومعرفته ويقينه، وكمال إرادته وحبه لما يحبه الله ويرضاه .
فالقلب الصحيح: هو الذي عرف الحق واتبعه، وعرف الباطل واجتنبه، فإن كان علمه شكاً وعنده شبهات تُعارض ما أخبر الله به من أصول الدين وفروعه، كان علمه منحرفاً وكان مرض قلبه قوة وضعفاً بحسب هذه الشكوك والشبهات . وإن كانت إرادته ومحبته مائلة لشيء من معاصي الله، كان ذلك انحرافا في إرادته ومرضاً .
وقد يجتمع الأمران فيكون القلب منحرفاً في علمه وفي إرادته .
فمن النوع الأول: قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} البقرة: 10 وهي التقاليد والشكوك والشبهات المعارضة لرسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} البقرة: 10 عقوبة على ذلك المرض الناتج عن أسباب متعددة، كلها منهم، وهم فيها غير معذورين .
ونظير هذا قوله تعالى في سورة براءة: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} التوبة: 125 .
وكذلك قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} الحج: 53 فإن مريض القلب بالشكوك وضعف العلم أقل شيء يريبه ويؤثر فيه ويفتتن به .
ومن الثاني: قوله تعالى في سورة الأحزاب: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} الأحزاب: 32 أي: مرض شهوة وإرادة للفجور، أقل شيء من أسباب الافتنان يوقعه في الفتنة طمعاً أو فعلاً . فكل من أراد شيئاً من معاصي الله فقلبه مريض مرض شهوة، ولو كان صحيحاً لاتصف بصفات الأذكياء الأبرياء الأتقياء الموصوفين بقوله في سورة الحجرات: {وَلكنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} الحجرات: من الآيتين 7، 8 .
فمن كان قلبه على هذا الوصف الذي ذكره الله، فليحمده على هذه النعمة التي لا يقاومها شيء من النعم . وليسأل الله الثبات على ذلك، والزيادة من فضل الله ورحمته .
القاعدة الرابعة والثلاثون : دلَّ القرآن في عدة آيات أنَّ من ترك ما ينفعه مع الإمكان
ابتلى بالاشتغال بما يضره، وحُرٍم الأمرَ الأول
وذلك أنه ورد في عدة آيات: أن المشركين لما زهدوا في عبادة الرحمن ابتلوا بعبادة الأوثان، ولما استكبروا عن الانقياد للرسل، بزعمهم: أنهم بشر، ابتلوا بالانقياد لكل مارج العقل والدين، ولما عرض عليهم الإيمان أول مرة فعرفوه، ثم تركوه، قلب الله قلوبهم، وطبع عليها وختم، فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم .
ولما بين لهم الصراط المستقيم، وزاغوا عنه اختياراً ورضىً بطريق الغي على طريق الهدى والرشد، عوقبوا بأن أزاغ الله قلوبهم، وجعلهم حائرين في طريقهم .
ولما أهانوا آيات الله ورسله أهانهم الله بالعذاب المهين .
ولما استكبروا عن الانقياد للحق أذلهم في الدنيا والآخرة .
ولما منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وأخربوها ما كان لهم بعد ذلك أن يدخلوها إلا خائفين .
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} التوبة:الآيات 75،76،77
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، يخبر الله فيها أن العبد كان قبل ذلك بصدد أن يهتدي الطريق المستقيم ثم تركها بعد أن عرفها، ونكص عنها بعد أن سلكها عوقب بإبعاده في طريق الضلالة الذي ارتضاه لنفسه وترك به طريق الهدى .
فالاهتداء غير ممكن في حقه ما دام سادراً في طريق غوايته ممعناً في سبيل ضلالته .
جزاء على فعله، كقوله في اليهود في سورة البقرة: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأنهم لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} البقرة: من الآيتان: 101، 102 فإنهم لما تركوا اتباع كتب الله المنزلة من عنده لهداية العباد، وإصلاح شئونهم وإسعادهم، ابتلوا باتباع أرذلها وأخسئها وأضرها للعقول، وأفتكها في إفساد المجتمع، ولما ترك المحاربون لله ورسوله إنفاق أموالهم في طاعة الرحمن، ابتلاهم بإنفاقها في طاعة الشيطان .