القاعدة الحادية والأربعون : قصر النظر على الحالة الحاضرة.
يرشد الله عباده في كتابه من جهة العمل إلى قصر نظرهم على الحالة الحاضرة التي هم فيها، ومن جهة الترغيب في الأمر والترهيب من ضده إلى ما يترتب عليها من المصالح، ومن جهة النعم إلى النظر إلى ضدها.
وهذه القاعدة الجليلة دعا إليها القرآن في آيات عديدة، وهي من أعظم ما يدل على حكمة الله، ومن أعظم ما يرقى العاملين إلى كل خير ديني ودنيوي، فإن العامل إذا اشتغل بعمله الذي هو وظيفة وقته، فإن قصر فِكره وظاهره وباطنه عليه نجح، ويتم له الأمر بحسب حاله.
وإن نظر وتشوقت نفسه إلى أعمال أخرى لم يحن وقتها بعدُ فترت عزيمته، وانحلت همته وصار نظره إلى الأعمال الأخرى ينقص من إتقان عمله الحاضر وجمع الهمة عليه.
ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت همته وقل نشاطه، وربما كان الثاني متوقفاً على الأول في حصوله أو تكميله، فيفوت الأول والثاني، بخلاف من جمع قلبه وقالبه، وصار أكبر همه هو القيام بعمله الذي هو وظيفة وقته؛ فإنه إذا جاء العمل الثاني فإذا هو قد استعد له بقوة ونشاط ويتلقاه بشوق، وصار قيامه بالأول معونة على قيامه بالثاني.
ومن هذا: قوله تعالى مصرحاً بهذا المعنى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} ، النساء: من الآية77 ،.
فانظر كيف حالهم الأولى وأمنيتهم وهم مأمورون بكف الأيدي، فلما جاء العمل الثاني ضعفوا عنه كل الضعف.
ونظير هذا ما عاتب الله به أهل أُحد في قوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ، آل عمران: 143 ، وقد كشف هذا المعنى كل الكشف قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} ، النساء: 66 ، لأن فيه تكميلاً للعمل الأول، وتثبيتاً من الله، وتمرناً على العمل الثاني.
ونظيره قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ {76} فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِم} ، التوبة: 75/77 ،. فالله أرشد العباد أن يكونوا أبناء وقتهم، وأن يقوموا بالعمل الحاضر ووظيفته، ثم إذا جاء العمل الآخر صار وظيفة ذلك الوقت، فاجتمعت الهمة والعزيمة الصادقة عليه، وصار القيام بالعمل الأول معيناً على الثاني، وهذا المعنى في القرآن كثير.
وأما الأمور المتأخرة فإن الله يرشد العاملين إلى ملاحظتها لتقوى هممهم على العمل المثمر للمصالح والخيرات. وهذا كالترغيب المتنوع من الله على أعمال الخير، والترهيب من أفعال الشر، بذكر عقوباتها، وثمرتها الذميمة.
فاعرف الفرق بين النظر إلى العمل الآخر الذي لم يجىء وقته، وبين النظر إلى ثواب العمل الحاضر الذي كلما فترت همة صاحبه، وتامل ما يترتب عليه من الخيرات استجد نشاطه، وقوي عليه وهانت عليه مشقته، كما قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} ، النساء: 104 ،.
وأما إرشاده من جهة النعم التي على العبد مِنَ الله بالنظر إلى ضدها ليعرف قدرها، ويزداد شكره لله تعالى عليها، ففي القرآن منه كثير، يُذكِّر عباده نعمته عليهم بالدين والإسلام وما ترتب على ذلك من النعم، كقوله في سورة آل عمران:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، آل عمران: 164 ، وفي قوله في سورة آل عمران:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، آل عمران: 103 ، أي إلى الزيادة لشكر نعم الله .
وقوله في سورة الأنفال:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، لأنفال: 26 ،.
وقوله في سورة القصص:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ...} ،
القصص: 72 ، إلى آخر الآيات، حيث يذكرهم أن ينظروا إلى ضد ما هم فيه من النعم والخير، ليعرفوا قدر ما هم فيه منها.
وهذا الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " وقوله تعالى:{فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، الأعراف:من الآية69 ، وقوله:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى
{6} وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى {7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} ، الضحى: 6/8 ، إلى آخرها.
القاعدة الثانية والأربعون : الحقوق لله ولرسوله
قد ميز الله في كتابه بين حقه الخاص وحق رسوله الخاص والحق المشترك.
واعلم بذلك أن الحقوق ثلاثة:
حق لله وحده، لا يكون لغيره: وهو عبادته وحده لا شريك له بجميع أنواع العبادات.
وحق خاص لرسوله صلى الله عليه وسلم: وهو التعزير والتوقير والقيام بحقه اللائق واتباعه والاقتداء به.
وحق مشترك: وهو الإيمان بالله ورسوله وطاعة الله ورسوله ومحبة الله ومحبة رسوله.
وقد ذكر الله الحقوق الثلاثة في آيات كثيرة من القرآن، فأما حقه الخاص: فكل آية فيها الأمر بعبادته وإخلاص العمل له، والترغيب في ذلك، وهذا شيء لا يحصى.
وقد جمع الله ذلك في قوله في سورة الفتح: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، فهذا مشترك {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} ، فهذا خاص بالرسول {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، الفتح: 9 ، فهذا حق لله وحده.
وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، في آيات كثيرة.
وكذلك: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} .وكذلك قوله في سورة التوبة: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه} التوبة: 62 ، وقوله تعالى:{سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} ، فهذا مشترك {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} التوبة: 59 ، وهذا مختص بالله تعالى.
ولكن ينبغي أن يعرف العبد أن الحق المشترك ليس معناه أن ما لله منه يثبت لرسوله مثله ونظيره في كل خصائصه، بل المحبة والإيمان والطاعة لله لابد أن يصحبها التعبد والتعظيم لله والخضوع رغبة ورهبة.
وأما المتعلق بالرسول من ذلك: فإنه حب في الله، وطاعة لله فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله بل حق الرسول على أمته من حق الله تعالى عليهم، فيقوم المؤمن بحق رسوله وطاعته امتثالاً لأمر الله، وعبودية له.
وإنما قيل له حق الرسول، لتعلقه بالرسول، وإلا فجميع ما أمر الله به وحث عليه من القيام بحقوق رسوله، وحقوق الوالدين والأولاد والأزواج والأقارب والجيران والعلماء والولاة والأمراء، والكبير على الصغير والصغير على الكبير وغيرهم، كله حق لله تعالى، فيقوم به العبد امتثالا لأمر الله وتعبداً له، وقياماً بحق ذي الحق، وإحساناً إليه، إلا الرسول فإن الإحسان منه كله إلى أمته فما وصل إليهم خير إلا على يديه صلى الله عليه وسلم تسليماً.