القاعدة الستون : أنواع التعليم القصصي في القرآن
من قواعد التعليم التي أرشد الله إليها في كتابه، أن القصص المبسوطة يجملها في كلمات يسيرة ثم يبسطها، وأن الأمور المهمة ينتقل في تقريرها نفياً وإثباتاً من درجة إلى أعلى أو أنزل منها.
وهذه قاعدة نافعة، فإن هذا الأسلوب العجيب يصير له موقع كبير، وتتقرر فيه المطالب المهمة، وذلك أن القصة إذا أجملت بكلام يكون لها كالأصل والقاعدة، ثم يقع التفصيل لذلك الإجمال، يحصل به الإيضاح والبيان التام الكامل الذي يقع ما يقاربه لو فصلت القصة الطويلة من دون تقدم صورة إجمالية لها، فإن الصورة تشوق إلى التفصيل.
وقد ورد هذا في القرآن في مَواضع:
منها: في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام: في قوله:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ،
يوسف: 3 ، ثم أخذ في تفصيلها: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} ، يوسف: 7 ، ثم ساق القصة بتمامها.
وكذلك قصة أهل الكهف: قال في تصويرها الإجمالي:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً {9} إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً {10} فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً {11} ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} الكهف: 9-12 ، فهذه الكلمات القليلة قد حوت مقصودها وزبدتها، ثم بسطها بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقّ} ، الكهف: 13 ، الآيات إلى آخر القصة.وكذلك قصة موسى: قال: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، {القصص: 3 ، إلى قوله: {يَحْذَرُونَ} ، القصص: 6 ، ثم أتى بعد ذلك بالتفصيل.
وقال في قصة آدم:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} ، طه: 115 ، ثم أتى بعد ذلك بالقصة. وأما التنقل في التقرير الأشياء من أمر إلى ما هو أولى منه، فكثير.
منه: قوله تعالى في الإنكار على من جعل مع الله إلهاً آخر، وإبطال زعمه الكاذب الذي هو أساس الوثنية: أن هؤلاء الأولياء والآلهةأبناء الله؛ لأنهم النور الذي انبثق منه تجسدوا بشراً ثم عادوا إلى النورانية، فيقول: {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ} ، الكهف: 5 ، فأبان أن قولهم هذا بلا علم ومن المعلوم: أنه كل قول بلا علم من الطرق الباطلة. ثم صرح بقبحه قولُه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} ، الكهف: 5 ، ثم ذكر له مرتبة من البطلان أسفل: {إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} ، الكهف: 5 ، وقال في حق المنكرين للعبث: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} ، النمل: 66 ، أيْ علمهم فيها علم ضعيف سافل إلى أحط الدركات، لا يعتمد عليه إلا سفيه ثم انتقل إلى ما هو ابلغ منه، فقال: {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} ، النمل: 66 ، والعمى آخر مراتب الحيرة والضلال.
وقال عن نوح في تقرير رسالته وإبطال قول من كذبه، وزعم أنه في ضلال مبين: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} ، الأعراف: 61 ، ثم لما نفى الضلالة من كل وجه أثبت الهدى الكامل له، فقال:{لَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ} ، الأعراف: 61 ، ثم انتقل إلى ما هو أعلى منه، وأن مادة هذا الهدى الذي جئت به من الوحي الذي هو أصل الهدى ومنبعه، فقال:{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ، الأعراف: 61 ، وكذلك هود عليه الصلاة والسلام، وقال في تقرير رسالة أفضل الرسل وخاتمهم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى {1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} ، النجم: 1-2 ، فنفى عنه ما ينافي الهدى من كل وجه ثم قال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ، النجم: 4 ، الآيات.
وهو في القرآن كثير جداً، كانتقاله من ذكر هبة الولد لزكريا على كبره وعقم زوجته، إلى ذكر مريم وعيسى، وكذلك أمر بالتوجيه إلى الكعبة بعد أن قرر في الآيات السابقة حرمتها وعظمتها، وهذا في القرآن كثير.
القاعدة الحادية والستون : معرفة الأوقات وضبطها حث الله عليه، حيث يترتب عليه حكم عام أو حكم خاص
وذلك أن الله رتب كثيرأ من الأحكام العامة والخاصة على مُدد وأزمنة تتوقف الأحكام عملاً وتنفيذاً على ضبط تلك المدة وإحصائها وتحديدها.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، البقرة: 189 ،.
فقوله: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} ، يدخل فيه مواقيت الصلوات والصيام والزكاة والعقود وغيرها، وخص بالذكر الحج لكثرة مل يترتب عليه من الأوقات العامة والخاصة. وكذلك مواقيت للعدد والديون والإجارات وغيرها، قال تعالى لما ذكر العدة: {وَأَحْصُوا العِدَّةَ} ، الطلاق: 1 ، وقوله في الصيام: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، البقرة: 184 ، وقال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، البقرة: 226 ، {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} ، النساء: 103 ، وقال تعالى:{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} ، الكهف: 12 ،. وذلك لمعرفة كمال قدرة الله في إفاقتهم، فلو استمروا على نومهم لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم، فمتى ترتب على ضبط الحساب وإحصاء المدة، مصلحة في الدين والدنيا، كان مما حث وأرشد إليه القرآن.
ويقارب هذا المعنى: قوله تعالى:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ،
البقرة: 259 ، الآية، وقوله:{وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} الإسراء: 12 ، ونحوها من الآيات.
القاعدة الثانية والستون : الصبر أكبر عون على جميع الأمور،
والإحاطة بالشيء علما وخبرا هو الذي يعين على الصبر.
وهذه القاعدة عظيمة النفع قد دل القرآن عليها صريحا وظاهرا في أماكن كثيرة:
قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} ، البقرة: 45 ، أيْ: استعينوا على جميع المطالب، وفي جميع شئونكم بالصبر، فبالصبر يسهل على العبد القيام بالطاعات، وأداء حقوق الله وحقوق عباده، وبالصبر يسهل عليه ترك ماتهواه نفسه من المحرمات، فينهاها عن هواها حذر شقاها، وطلباً لرضى مولاها، وبالصبر تخف عليه الكريهات.
ولكن لهذا الصبر وسيلته وآلته التي ينبني عليها، ولا يتم وجوده إلا بها: وهي معرفة الشيء المصبور عليه، ومعرفة ما فيه من الفضائل وما يترتب عليه من الثمرات.
فمتى عرف العبد ما في الطاعات من زيادة الإيمان، وصلاح القلوب واستكمال الفضائل، وما تثمره من الخيرات والكرامات، وما في المحرمات من الضرر والرذائل وما توجبه من العقوبات المتنوعة، وعلم ما في أقدار الله من البركة وما لمن قام بوظيفته فيها من الأجور. إذا عرف ذلك هان عليه الصبر على جميع الشدائد.
وبهذا فضل العلم، وأنه أصل الفضائل كلها ولهذا يذكر الله تعالى كثيراً في كتابه أن المنحرفين في الأبواب الثلاثة ما انحرفوا إلا لقصور علمهم، وعدم إحاطتهم التامة بها.
وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} ، فاطر: 28 ، وقال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} ، النساء: 17 ، ليس معناه: أنهم لا يعترفون أنها ذنوب وسوء، وإنما قصر عملهم وخبرتهم، بما توجبه الذنوب من العقوبات وأنواع المضرّات وزوال المانع.
وقال تعالى مبينا أنه متقرر أن الذي لا يعرف ما يحتوي عليه الشيء يتعذر عليه الصبر، فقال عن الخضر لما قال له موسى وطلب منه أن يتعين ليتعلم مما علمه الله قال: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً {66} قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً {67} وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} ، الكهف: 66-68 ، فعدم إحاطته به خبرا يمتنع معه الصبر، ولو تجلد ما تجلد فلابد أن يُعال صبره.
وقال تعالى مبيناً عظمة القرآن وما هو عليه من الجلالة والصدق الكامل: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} ، يونس: 39 ، فبين أن الأعداء المكذبين إنما كان تكذيبهم به لعدم إحاطتهم بما هو عليه، وأنهم لو أدركوه وأحاطوا به كما هو عليه، لألجأهم إلى التصديق والإذعان، فهم وإن كانت الحجة قد قامت عليهم ولكنهم لم يفقهوه الفقه الذي يطابق معناه، ولم يعرفوه حق معرفته، فقال في المعاندين الذين بان لهم علمه وخبروا صدقه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} ، النمل: 14 ، وقال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ، الأنعام: 33 ، والمقصود أن الله تعالى أرشد العباد إلى الاستعانة على كل أمورهم بملازمة الصبر، وأرشدهم إلى تحصيل الصبر بالنظر إلى الأمور، ومعرفة حقائقها وفضائلها ورذائلها. والله أعلم.
القاعدة الثالثة والستون : العبرة بصدق الإيمان وصلاح الأعمال يرشد القرآن إلى أن العبرة بحسن حال الإنسان وإيمانه الصحيح وعمله الصالح، وأن الاستدلال على ذلك بالدعاوى المجردة أوبإعطاء الله للعبد من الدنيا بالرياسات والأمور الدنيوية والتقاليد الموروثة: كل ذلك من طرق المنحرفين، والقرآن يكاد أن يكون أكثره تفصيلاً لهذا الأصل وقد قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} ، سبأ: 37 ، وقال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ {89} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء: 88-89 ،.وقد أكثر الله هذا المعنى في عدة مواضع. وأما حكاية المعنى الآخر عن المنحرفين فقال عن اليهود والنصارى:
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، البقرة: 111 ، ثم ذكر البرهان الذي من أقامه وأتى به فهو المستحق للجنة فقال:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، البقرة: 112 ، وقال:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ، النساء: من الآية123 ، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} مريم: 73 ،
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، الزخرف: 31 ، ونحوها من الآيات التي يستدل بها الكفار على حسن حالهم، بتفوقهم في الأمور الدنيوية، والرياسات ويذمون المؤمنين مستدلين بنقصهم في هذه الأمور الدنيوية الزائفة، وهذا من أكبر مواضع الفتن؛ فإن الرياسات والأمور الدنيوية مشتركة بين الخليقة: بَرِّها وفاجرها.