وَقَالَ تَعَالَى : {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ تَعَالَى : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى : {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} . وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَاءَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ وَأَنَّ الْمَلَكَ تَمَثَّلَ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَفِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَيَرَاهُمْ النَّاسُ كَذَلِكَ . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ ذُو قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ؛ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ {شَدِيدُ الْقُوَى} {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} {إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّهُ لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ مَرَّتَيْنِ} " يَعْنِي الْمَرَّةَ الْأُولَى بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَالنَّزْلَةَ الْأُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَوَصَفَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَأَنَّهُ رُوحُ الْقُدُسِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ وَأَنَّهُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ خَيَالًا فِي نَفْسِ النَّبِيِّ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْمُدَّعُونَ وِلَايَةَ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . وَغَايَةُ حَقِيقَةِ هَؤُلَاءِ إنْكَارُ " أُصُولِ الْإِيمَانِ " بِأَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ جَحْدُ الْخَالِقِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ وَقَالُوا : الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ كَمَا تَشْتَرِكُ الْأَنَاسِيُّ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانَاتُ فِي مُسَمَّى الْحَيَوَانِ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَإِلَّا فالحيوانية الْقَائِمَةُ بِهَذَا الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ هِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْفَرَسِ وَوُجُودُ السَّمَوَاتِ لَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ وُجُودُ الْإِنْسَانِ فَوُجُودُ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ لَيْسَ هُوَ كَوُجُودِ مَخْلُوقَاتِهِ .
وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ قَوْلُ فِرْعَوْنَ الَّذِي عَطَّلَ الصَّانِعَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا هَذَا الْوُجُودَ الْمَشْهُودَ ؛ لَكِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ لَا صَانِعَ لَهُ وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوهُ فِي ذَلِكَ ؛ لَكِنْ زَعَمُوا بِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ فَكَانُوا أَضَلَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ هَذَا هُوَ أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْهُمْ وَلِهَذَا جَعَلُوا عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ وَقَالُوا : " لَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ صَاحِبَ السَّيْفِ وَإِنْ جَارَ فِي الْعُرْفِ النَّامُوسِي كَذَلِكَ قَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى - أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْكُمْ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْحُكْمِ فِيكُمْ " . قَالُوا : " وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَ فِرْعَوْنَ فِيمَا قَالَهُ أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ وَقَالُوا : {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} قَالُوا : فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَيْنَ الْحَقِّ " ثُمَّ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَجَعَلُوا أَهْلَ النَّارِ يَتَنَعَّمُونَ كَمَا يَتَنَعَّمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَصَارُوا كَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ خُلَاصَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إنَّمَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ مِنْ مِشْكَاتِهِمْ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ إلْحَادِ هَؤُلَاءِ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي " أَوْلِيَاءِ اللَّهِ " وَالْفَرْقُ بَيْنَ " أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ " وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ ادِّعَاءً لِوِلَايَةِ اللَّهِ وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وِلَايَةً لِلشَّيْطَانِ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ . وَلِهَذَا عَامَّةُ كَلَامِهِمْ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَالَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَيَقُولُونَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْفُتُوحَاتِ : بَابُ أَرْضِ الْحَقِيقَةِ وَيَقُولُونَ هِيَ أَرْضُ الْخَيَالِ . فَتُعْرَفُ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا هِيَ خَيَالٌ وَمَحَلُّ تَصَرُّفِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُخَيِّلُ لِلْإِنْسَانِ الْأُمُورَ بِخِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى : {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} {حَتَّى إذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى : {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} إلَى قَوْلِهِ : - {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا} . وَقَالَ تَعَالَى : {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى : {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " {إنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ} " وَالشَّيَاطِينُ إذَا رَأَتْ مَلَائِكَةَ اللَّهِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا عِبَادَهُ هَرَبَتْ مِنْهُمْ وَاَللَّهُ يُؤَيِّدُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَلَائِكَتِهِ . قَالَ تَعَالَى : {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} . وَقَالَ تَعَالَى : {إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} وَقَالَ تَعَالَى : {إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وَهَؤُلَاءِ تَأْتِيهِمْ أَرْوَاحٌ تُخَاطِبُهُمْ وَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ وَهِيَ جِنٌّ وَشَيَاطِينُ فَيَظُنُّونَهَا مَلَائِكَةً كَالْأَرْوَاحِ الَّتِي تُخَاطِبُ مَنْ يَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَكَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا ظَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْإِسْلَامِ : الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " {سَيَكُونُ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ} " وَكَانَ الْكَذَّابُ : الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْمُبِيرُ : الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ . فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَيْهِ فَقَالَا : صَدَقَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . وَقَالَ الْآخَرُ وَقِيلَ لَهُ إنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} . وَهَذِهِ الْأَرْوَاحُ الشَّيْطَانِيَّةُ هِيَ الرُّوحُ الَّذِي يَزْعُمُ صَاحِبُ " الْفُتُوحَاتِ " أَنَّهُ أُلْقِيَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْكِتَابُ ؛ وَلِهَذَا يَذْكُرُ أَنْوَاعًا مِنْ الْخَلَوَاتِ بِطَعَامِ مُعَيَّنٍ وَشَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَهَذِهِ مِمَّا تَفْتَحُ لِصَاحِبِهَا اتِّصَالًا بِالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ فَيَظُنُّونَ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَدَدًا وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْمِلُ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ وَيَعُودُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُؤْتَى بِمَالِ مَسْرُوقٍ تَسْرِقُهُ الشَّيَاطِينُ وَتَأْتِيه بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَتْ تَدُلُّهُ عَلَى السَّرِقَاتِ بِجُعْلِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ النَّاسِ أَوْ بِعَطَاءِ يعطونه إذَا دَلَّهُمْ عَلَى سَرِقَاتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَمَّا كَانَتْ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ شَيْطَانِيَّةً كَانُوا مُنَاقِضِينَ لِلرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " وَ " الْفُصُوصِ " وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ يَمْدَحُ الْكُفَّارُ مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ وَيَتَنَقَّصُ الْأَنْبِيَاءُ : كَنُوحِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَيَذُمُّ شُيُوخَ الْمُسْلِمِينَ الْمَحْمُودِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ : كالْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَيَمْدَحُ الْمَذْمُومِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ : كَالْحَلَّاجِ وَنَحْوِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تَجَلِّيَاتِهِ الْخَيَالِيَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ ؛ فَإِنَّ الْجُنَيْد - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى فَسُئِلَ عَنْ التَّوْحِيدِ فَقَالَ : " التَّوْحِيدُ " إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ . فَبَيَّنَ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَنْ تُمَيِّزَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَبَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ . وَصَاحِبُ " الْفُصُوصِ " أَنْكَرَ هَذَا ؛ وَقَالَ فِي مُخَاطَبَتِهِ الْخَيَالِيَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ لَهُ : يَا جنيد هَلْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ إلَّا مَنْ يَكُونُ غَيْرَهُمَا ؟ فَخَطَّأَ الْجُنَيْد فِي قَوْلِهِ : ( إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ : إنَّ وُجُودَ الْمُحْدَثِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْقَدِيمِ كَمَا قَالَ فِي فُصُوصِهِ : " وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى " الْعَلِيُّ " عَلَى مَنْ ؟ وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ وَعَنْ مَاذَا ؟ وَمَا هُوَ إلَّا هُوَ فَعَلُوهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهِ وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ " إلَى أَنْ قَالَ : " هُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ وَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ وَمَا ثَمَّ مِنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ وَمَا ثَمَّ مَنْ يَنْطِقُ عَنْهُ سِوَاهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُحْدَثَاتِ " . فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُلْحِدِ : لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُمَيِّزِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِالْعِلْمِ وَالْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ ثَالِثًا غَيْرُهُمَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ هُوَ ثَالِثٌ فَالْعَبْدُ يَعْرِفُ أَنَّهُ عَبْدٌ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ خَالِقِهِ وَالْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ مَخْلُوقَاتِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَأَنَّهُمْ عِبَادُهُ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالِاسْتِشْهَادُ بِالْقُرْآنِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ فَيَزْعُمُونَ مَا كَانَ يَزْعُمُهُ التلمساني مِنْهُمْ - وَهُوَ أَحْذَقُهُمْ فِي اتِّحَادِهِمْ - لَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ " الْفُصُوصُ " فَقِيلَ لَهُ : الْقُرْآنُ يُخَالِفُ فُصُوصَكُمْ . فَقَالَ : الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا . فَقِيلَ لَهُ : فَإِذَا كَانَ الْوُجُودُ وَاحِدًا فَلِمَ كَانَتْ الزَّوْجَةُ حَلَالًا وَالْأُخْتُ حَرَامًا ؟ فَقَالَ : الْكُلُّ عِنْدَنَا حَلَالٌ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ . وَهَذَا مَعَ كُفْرِهِ الْعَظِيمِ مُتَنَاقِضٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْوُجُودَ إذَا كَانَ وَاحِدًا فَمَنْ الْمَحْجُوبُ وَمَنْ الْحَاجِبُ ؟ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ لِمُرِيدِهِ : مَنْ قَالَ لَك : إنَّ فِي الْكَوْنِ سِوَى اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ . فَقَالَ لَهُ مُرِيدُهُ : فَمَنْ هُوَ الَّذِي يَكْذِبُ ؟ وَقَالُوا لِآخَرَ : هَذِهِ مَظَاهِرُ . فَقَالَ لَهُمْ : الْمَظَاهِرُ غَيْرُ الظَّاهِرِ أَمْ هِيَ ؟ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا فَقَدْ قُلْتُمْ بِالنِّسْبَةِ وَإِنْ كَانَتْ إيَّاهَا فَلَا فَرْقَ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى كَشْفِ أَسْرَارِ هَؤُلَاءِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ قَوْلِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَأَنَّ صَاحِبَ " الْفُصُوصِ " يَقُولُ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ ؛ وَوُجُودُ الْحَقِّ قَاضٍ عَلَيْهِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ . وَالْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ قَالُوا : الْمَعْدُومُ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ مَعَ ضَلَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْهُ فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا : إنَّ الرَّبَّ خَلَقَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ وُجُودًا لَيْسَ هُوَ وُجُودُ الرَّبِّ . وَهَذَا زَعَمَ أَنَّ عَيْنَ وُجُودِ الرَّبِّ فَاضَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عِنْدَهُ وُجُودُ مَخْلُوقٍ مُبَايِنٌ لِوُجُودِ الْخَالِقِ وَصَاحِبُهُ الصَّدْرُ القونوي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْفَلْسَفَةِ فَلَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ؛ لَكِنْ جَعَلَ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَصَنَّفَ " مِفْتَاحَ غَيْبِ الْجَمْعِ وَالْوُجُودِ " . وَهَذَا الْقَوْلُ أُدْخِلَ فِي تَعْطِيلِ الْخَالِقِ وَعَدَمِهِ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - وَهُوَ الْكُلِّيُّ الْعَقْلِيُّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَالْمُطْلَقِ لَا بِشَرْطِ وَهُوَ الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ - وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِثُبُوتِهِ فِي الْخَارِجِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الرَّبِّ إمَّا مُنْتَفِيًا فِي الْخَارِجِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ . وَهَلْ يَخْلُقُ الْجُزْءُ الْكُلَّ أَمْ يَخْلُقُ الشَّيْءُ نَفْسَهُ ؟ أَمْ الْعَدَمُ يَخْلُقُ الْوُجُودَ ؟ أَوْ يَكُونُ بَعْضُ الشَّيْءِ خَالِقًا لِجَمِيعِهِ . وَهَؤُلَاءِ يَفِرُّونَ مِنْ لَفْظِ " الْحُلُولِ " لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَالًا وَمَحَلًّا وَمِنْ لَفْظِ " الِاتِّحَادِ " لِأَنَّهُ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَعِنْدَهُمْ الْوُجُودُ وَاحِدٌ . وَيَقُولُونَ : النَّصَارَى إنَّمَا كَفَرُوا لَمَّا خَصَّصُوا الْمَسِيحَ بِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَلَوْ عَمَّمُوا لَمَا كَفَرُوا . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي عُبَّادِ الْأَصْنَامِ : إنَّمَا أَخْطَئُوا لَمَّا عَبَدُوا بَعْضَ الْمَظَاهِرِ دُونَ بَعْضٍ فَلَوْ عَبَدُوا الْجَمِيعَ لَمَا أَخْطَئُوا عِنْدَهُمْ . وَالْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ عِنْدَهُمْ لَا يَضُرُّهُ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ . وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ الْعَظِيمِ فَفِيهِ مَا يَلْزَمُهُمْ دَائِمًا مِنْ التَّنَاقُضِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ : فَمَنْ الْمُخْطِئُ ؟ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّبَّ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِجَمِيعِ النَّقَائِصِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْمَخْلُوقُ . وَيَقُولُونَ : إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تُوصَفُ بِجَمِيعِ الكمالات الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْخَالِقُ وَيَقُولُونَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " : " فَالْعَلِيُّ لِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَوْعِبُ بِهِ جَمِيعَ النُّعُوتِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا أَوْ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمُسَمَّى اللَّهِ خَاصَّةً " . وَهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ هَذَا لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ التَّنَاقُضُ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ ذَاكَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ مَا كَانَ يَقُولُهُ التلمساني : إنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي الْكَشْفِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ . وَيَقُولُونَ : مَنْ أَرَادَ التَّحْقِيقَ - يَعْنِي تَحْقِيقَهُمْ - فَلْيَتْرُكْ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ . وَقَدْ قُلْت لِمَنْ خَاطَبْته مِنْهُمْ : وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَشْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمُ وَأَتَمُّ مِنْ كَشْفِ غَيْرِهِمْ وَخَبَرَهُمْ أَصْدَقُ مِنْ خَبَرِ غَيْرِهِمْ ؛ وَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يُخْبِرُونَ بِمَا تَعْجِزُ عُقُولُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ ؛ لَا بِمَا يَعْرِفُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فَيُخْبِرُونَ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي إخْبَارِ الرَّسُولِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعُقُولِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ : سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا فَكَيْفَ بِمَنْ ادَّعَى كَشْفًا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ ؟ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ لَكِنْ يُخَيَّلُ لَهُمْ أَشْيَاءُ تَكُونُ فِي نُفُوسِهِمْ وَيَظُنُّونَهَا فِي الْخَارِجِ وَأَشْيَاءَ يَرَوْنَهَا تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ لَكِنْ يَظُنُّونَهَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَتَكُونُ مِنْ تَلْبِيسَاتِ الشَّيَاطِينِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْوَحْدَةِ قَدْ يُقَدِّمُونَ الْأَوْلِيَاءَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَيَذْكُرُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَمْ تَنْقَطِعْ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ سَبْعِينَ وَغَيْرِهِ وَيَجْعَلُونَ الْمَرَاتِبَ " ثَلَاثَةً " يَقُولُونَ : الْعَبْدُ يَشْهَدُ أَوَّلًا طَاعَةً مَعْصِيَةً ثُمَّ طَاعَةً بِلَا مَعْصِيَةٍ ثُمَّ لَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ وَ " الشُّهُودُ الْأَوَّلُ " هُوَ الشُّهُودُ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَأَمَّا " الشُّهُودُ الثَّانِي " فَيُرِيدُونَ بِهِ شُهُودَ الْقَدَرِ كَمَا أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ يَقُولُ : أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى وَهَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُخَالَفَةُ الْإِرَادَةِ الَّتِي هِيَ الْمَشِيئَةُ . وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ حُكْمِ الْمَشِيئَةِ وَيَقُولُ شَاعِرُهُمْ :
أَصْبَحَتْ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ * * * مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ ؛ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبَهَا الذَّمُّ وَالْعِقَابُ مُخَالَفَةُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}.