وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ . وَكَانَتْ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " قَدْ اشْتَبَهَتْ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فَبَيَّنَهَا الْجُنَيْد رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُمْ مَنْ اتَّبَعَ الْجُنَيْد فِيهَا كَانَ عَلَى السَّدَادِ وَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِي شُهُودِ هَذَا التَّوْحِيدِ وَهَذَا يُسَمُّونَهُ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ فَبَيَّنَ لَهُمْ الْجُنَيْد أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شُهُودِ الْفَرْقِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ شُهُودِ كَوْنِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مُشْتَرَكَةً فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَبَيْنَ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ؛ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَمَرَ بِالطَّاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَإِنْ كَانَتْ وَاقِعَةً بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَاهَا بَلْ يُبْغِضُهَا وَيَذُمُّ أَهْلَهَا وَيُعَاقِبُهُمْ . وَأَمَّا " الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَشْهَدَ طَاعَةً وَلَا مَعْصِيَةً - فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَالْوِلَايَةُ لِلَّهِ ؛ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ غَايَةُ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَغَايَةُ الْعَدَاوَةِ لِلَّهِ فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَشْهَدِ يَتَّخِذُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَسَائِرَ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وَلَا يَتَبَرَّأُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ فَيَخْرُجُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ : {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى : {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} . وَهَؤُلَاءِ قَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ كُتُبًا وَقَصَائِدَ عَلَى مَذْهَبِهِ مِثْلِ قَصِيدَةِ ابْنِ الْفَارِضِ الْمُسَمَّاةِ بِ " نَظْمِ السُّلُوكِ " يَقُولُ فِيهَا :
لَهَا صَلَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا * * * وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتْ
كِلَانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إلَى * * * حَقِيقَتِهِ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةِ
وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَائِي وَلَمْ تَكُنْ * * * صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أدا كُلِّ رَكْعَةِ
إلَى أَنْ قَالَ :
وَمَا زِلْت إيَّاهَا وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ * * * وَلَا فَرْقَ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتْ
إلَيَّ رَسُولًا كُنْت مِنِّي مُرْسَلًا * * * وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ اسْتَدَلَّتْ
فَإِنْ دُعِيت كُنْت الْمُجِيبَ وَإِنْ * * * أَكُنْ مُنَادًى أَجَابَتْ مَنْ دَعَانِي وَلَبَّتْ
إلَى أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْقَائِلُ عِنْدَ الْمَوْتِ يَنْشُدُ وَيَقُولُ :
إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحُبِّ عِنْدَكُمْ * * * مَا قَدْ لَقِيت فَقَدْ ضَيَّعْت أَيَّامِي
أُمْنِيَةً ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا * * * وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامِ
فَإِنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ فَلَمَّا حَضَرَتْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ لِقَبْضِ رُوحِهِ تَبَيَّنَ لَهُ بُطْلَانُ مَا كَانَ يَظُنُّهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ؛ لَيْسَ هُوَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " {اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَاغْنَنِي مِنْ الْفَقْرِ} " . ثُمَّ قَالَ : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فَذَكَرَ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ - وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ - ( وَمَا بَيْنَهُمَا ) مَخْلُوقٌ مُسَبِّحٌ لَهُ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُ ( وَهُوَ مَعَكُمْ ) فَلَفْظُ ( مَعَ ) لَا تَقْتَضِي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مُخْتَلِطًا بِالْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} . وَلَفْظُ ( مَعَ ) جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ عَامَّةً وَخَاصَّةً فَ " الْعَامَّةُ " فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ الْمُجَادَلَةِ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَهُ بِالْعِلْمِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : هُوَ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ . وَأَمَّا " الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ " فَفِي قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقَوْله تَعَالَى لِمُوسَى : {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَقَالَ تَعَالَى : {إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ دُونَ فِرْعَوْنَ وَمَعَ مُحَمَّدٍ وَصَاحِبِهِ دُونَ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَمَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ دُونَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ . فَلَوْ كَانَ مَعْنَى " الْمَعِيَّةِ " أَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ تَنَاقَضَ الْخَبَرُ الْخَاصُّ وَالْخَبَرُ الْعَامُّ ؛ بَلْ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَعَ هَؤُلَاءِ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ دُونَ أُولَئِكَ . وقَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} أَيْ هُوَ إلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَكَذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} كَمَا فَسَّرَهُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَأَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ صِفَاتِ النَّقْصِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ( الصَّمَدُ الْعَلِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ الْعَظِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ الْقَدِيرُ الْكَامِلُ فِي قُدْرَتِهِ الْحَكِيمُ الْكَامِلُ فِي حِكْمَتِهِ السَّيِّدُ الْكَامِلُ فِي سُؤْدُدِهِ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ : هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ . وَ الْأَحَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ . فَاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ عَنْهُ وَاسْمُهُ الْأَحَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي كَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ .
فَصْلٌ :
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ تُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ الْحَقَائِقُ الْأَمْرِيَّةُ الدِّينِيَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ بِالْحَقَائِقِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَكَلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ فَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رُسُلِهِ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَنَهَى عَنْ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ فَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ التَّوْحِيدُ وَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ الشِّرْكُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَقَالَ تَعَالَى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " {قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}} . وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَنَهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ؛ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ وَهُوَ يَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} وَقَدْ نَهَى عَنْ الشِّرْكِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ ؛ وَأَمَرَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى الْحُقُوقَ وَنَهَى عَنْ التَّبْذِيرِ ؛ وَعَنْ التَّقْتِيرِ ؛ وَأَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِهِ ؛ وَأَنْ يَبْسُطَهَا كُلَّ الْبَسْطِ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَعَنْ الزِّنَا وَعَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَى أَنْ قَالَ {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ .
وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى دَائِمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " {أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبَ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً} " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " {إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ} .