إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعيِنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوُذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوُرِ أَنْفُسِنا وَمْنِ سَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَليًّا مُرْشِدًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَريِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرسوُلُهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإحسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدَ:
فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ؛ فَلَقَدْ أَوْصاكُمُ اللهُ تَعالَىَ بِتَقْواهُ فَقالَ: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ النساء:131، فَالْزَموُا التَّقْوَىَ فيِ السِّرِّ وَالعَلَنِ وَفيِ الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَفيِ حَقِّ اللهِ وَفيِ حَقِّ الخَلْقِ، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (3)﴾الطلاق:2-3.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ عِبادَ اللهِ, اللهُ يَصْطَفِيِ مِنَ الملائِكَةِ رُسَلًا وَمِنَ النَّاسِ، فَاللهُ جَلَّ في عُلاهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ؛ فاخْتارَ مِنْ بَنيِ آدَمَ ثُلَّةً مِنَ البَشَرِ جَعَلَهُمْ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ يُبَلِّغوُنَ رِسالاتِ اللهِ، يَدُلُّوُنَ الخَلْقَ عَلَىَ الطرَّيِقِ الموُصِلِ إِلَىَ اللهِ، يُعَرِّفوُنَ بِهِ جَلَّ في عُلاهُ، أُوُلِئِكَ هُمْ رُسُلُ اللهِ صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ، اصْطَفاهُمُ اللهُ تَعالَىَ وَوَهَبَهُمْ مِنَ الِهدايَةِ وَالزكاءِ وَالصَّلاحِ وَالاسْتِقامَةِ ما تَأَهَّلوُا بِهِ لهَذِهِ المهِمَّةِ العُظْمَىَ: وَهِيَ التَّعْريِفُ باِللهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَعْريِفُ الخَلْقِ بِاللهِ وَدَلالَتِهِمْ عَلَىَ الطَّريِقِ الموُصِلِ إِلَيْهِ جَلَّ في عُلاهُ.
أَهْلُ الِإسْلامِ يُؤْمِنوُنَ بِكُلِّ رَسوُلٍ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعالَىَ، لاَ يُفَرِّقوُنَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ في الإِيمِانِ، بَلْ يُؤْمِنوُنَ بهِمْ جَميعًا عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ، ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ البقرة:285، مَبْدَأُ الرُّسُلِ صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعيِنَ .نوُح؛ بَعَثَهُ اللهُ لِأَهْلِ الأَرْضِ فَهُوَ أَوَّلُ رَسوُلٍ أَرْسَلَهُ اللهُ لِأَهْلِ الأَرْضِ، وَخاتَمُهُمْ مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ، وَأوُلَئِكَ الرُّسُلُ قَصَّ اللهً خَبَرَ بَعْضِهِمْ في كِتابِهِ، وَطَوَىَ خَبَرَ آخريِنَ، ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾غافر:78، فَنُؤْمِنُ بِالجَميِعِ مَنْ سَمَّىَ اللهُ مِنْ رُسُلِهِ، وَمَنْ لمْ يُسَمِّ اللهُ مِنْ رُسُلِهِ، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بهمْ في الجُمْلَةِ وَأَنَّ اللهَ تَعالَىَ أَرْسَلَ رُسُلًا إِلَىَ النَّاسِ يُعَرِّفوُنَ بِهِ وَيَدُلُّوُنَ عَلَيْهِ جَلَّ في عُلاهُ.
مِنْ أوُلَئِكَ الرُّسُلِ صَفْوَةً, هُمْ أوُلوُ العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَهُمْ: نُوُحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَإِبْراهيِمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَموُسَىَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَعِيِسَىَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَمُحَمَّدُ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ صَلاةٍ وَأَزْكَىَ تَسْليِمٍ.
أوُلَئِكَ هُمْ أوُلوُ العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ الَّذيِنِ خَصَّهُمُ اللهُ بِالفَضائِلِ وَأَعْطاهُمْ مِمَّا مَيَّزَهُمْ بِهِ عَلَىَ المرْسِلَيِنَ مَنْزَلَةً عُظْمَىَ وَمَكانَةً كُبْرَىَ فَصَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَىَ الجَميِعِ.
مِنْ رُسُلِ اللهِ الذيِنَ هُمْ أوُلوُ العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ: عِيَسَىَ ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فاللهُ تَعالَىَ قَدْ قَصّ خَبَرهُ في القُرآنِ مُنذُ بِدايَةِ ذِكْرِهِ إِلَىَ خاتِمِ أَمْرِهُ فَلَمْ يَجْعَلْ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا مُلْتَبِسًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ عِيسَىَ ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ اخْتَلَفَتْ فِيِهِ الأُمُمُ السَّابِقَةُ؛ فَمَنْهُمْ مَنْ غَلا فِيِهِ فَجَعَلَهُ ابْنًا للهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَفا عَنْهُ فَجَعَلَهُ ابْنًا لزِانِيَةٍ؛ تَعالَىَ عَمَّا ذَكَرَ أوُلَئِكَ في رُسُلِهِ عُلُوًّا كَبيرًا، فاللهُ يَصْطَفِيِ مِنَ الملائِكَةِ رُسلًا وَمِنَ النَّاسِ.
سَمَّىَ اللهُ تَعالَىَ سوُرَةً في كِتابِهِ بِاسْمِ الأُسْرَةِ الَّتِي تَحَدَّرَ مِنْها عِيِسَىَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهِيَ سوُرَةُ آلِ عِمْرانَ، قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:33 ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ آل عمران:33-34، ثُمَّ قَصَّ خَبَرَ امْرَأَةِ عِمْرانَ في نَذْرِها ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ آل عمران:35، عِمْرانُ هُوَ جَدُّ عِيِسَىَ ابنِ مَرْيَمَ لِأُمَّهِ، وَهَذِهِ المرْأَةِ الَّتيِ نَذَرَتْ ما فِي بَطْنِها هِيَ جِدَّتِهِ لِأُمِّهِ، هِيَ أُمُّ مَرْيَمَ عَلَيِهِ السَّلامُ، فَلَمَّا قَضَىَ ما قَضَىَ رَبُّ العالمينَ مِنْ أَنْ حَمَلَتْ امرَأَةُ عِمْرانَ وَنَذَرَتْ مَا في بَطْنِها أَنْ يَكوُنَ للهِ خَادِمًا قائِمًا بِطاعِتِهِ وَعِبادَتِهِ، وَسَأَلَتْ أَنْ يَتَقَبَّلَ اللهُ تَعالَىَ ذَلِكَ مِنْها وَضَعَتْ ما في بَطْنِها، ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ آل عمران:36، وَهَذا خِلافُ ما كَانَتْ تَظُنُّه أَوْ تُؤَمِّلُهُ، ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ آل عمران:36، فجاء الجواب من رب العالمين: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ آل عمران:37 تَقَبَّلها اللهُ تَعالَىَ بِقبوُلٍ حَسَنٍ لمَّا وَهَبَتْها لخِدْمَتِهِ وَالقِيامِ بِحقِّهِ جَلَّ وَعَلا.
ثُمَّ لمْ يَرْتَضِ جَلَّ وَعَلا في رِعايَةِ أُمِّ عِيِسَىَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَّا أَنْ جَعَلَها في كَفالَةِ رَسوُلٍ مِنْ رُسُلِهِ وَنَبِيٍّ مِنْ أَنْبيائِهِ وَهُوَ زَكرِيَّا عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ وَأَظْهَرَ مِنَ الآياتِ مَا يَدُلُّ عَلَىَ عَظيمِ شَأْنِ هَذِهِ المَرْأَةِ وَما سَيِكوُنُ مِنْ أَمْرِها قَبْلَ أَنْ يَكوُنَ وُلِدَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَكوُنَ حُمِلَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَكوُنَ شَيْءٌ ممَّا سَيَذْكُرُهُ اللهُ تَعالَىَ في كِتابِهِ، ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ أَيْ: مَوْضِعَ العِبادَةِ وَمكانَ التَّعَبُّدِ، ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ وَجَدَ عِنْدَ مَرْيَمَ طَعامًا عَلَىَ غَيْرِ المأَلوُفِ المُعْتادِ، يَجِدُ في الشِّتاءِ عِنَبًا وَفِي الصَّيْفِ مِنْ فاكِهَةِ الشَّتِاءِ.
فَقالَ لَها مُسْتَغْرِبًا هَذا العَطاءَ وَهذهِ الحالَ: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ قالَتْ عَلَيْها السَّلامُ: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ آل عمران:37، اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بَشَّرَ مَرْيَمَ بِالاصْطِفاءِ قَبْلَ أَنْ يَأْتيَها الحَمْلُ الَّذيِ هُوَ خارجٌِ عَنِ المألوُفِ وَالمعْتادِ فَقال تَعالَىَ: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ آل عمران:43، فَبَشَّرَها اللهُ عَزَّ وَجَلَّ باِلاصْطِفاءِ وَالاخْتِيارِ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحانهُ أَمَرَها بِشُكْرِ هَذِهِ النَّعْمَةِ وَذَلِكَ بِتَحْقيِقِ العُبوُدِيَّةِ لَهُ ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ أديمي الطاعة ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾.
ثُمَّ قالَ جَلَّ وَعَلا فِي بِيانِ بِشارَةِ الملائِكِةِ لمريَمَ عَلَيْها السَّلامُ بِالوَلَدِ، ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ آل عمران:45 أَيِ: بمخلوُقٍ يَكوُنُ بِكَلَمَةٍ ممَّا يَتَكَلَّمُ بِهِ قَدْرًا، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يس:82 فَعيِسَىَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَلِمَةُ اللهِ أَيْ: أَنَّهُ خَلَقَ بِكَلِمَةِ اللهِ الَّتِي خَصَّهُ بِها، وَهِيَ أَنْ قالَ لَهُ: كُنْ فَكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ.﴿يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ آل عمران:45 وانظر إلى البشارة الإلهية بالفرج العاجل والمكانة السامية لهذا الولد ولأمه حيث إنه بشرها بأن يكون وجيهًا أي ذا وجاهة ومكانة في الدنيا والآخرة، ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ آل عمران:45.ثُمَّ يُجْرِيِ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الآياتِ ما يُبَيِّنُ بِراءَةَ مَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ، وَصِدْقِ ما كانَ مِنْ آيَةِ هذا الرَّسوُلِ الكريمِ قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ آل عمران:46 لَيْسِ غِريِبًا أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسَ وَهُوَ كَهْلٌ كَبيِرٌ، لَكِنِ الغَرابَةُ في أَنْ يُكَلِّمَهُمْ وَهُوَ في الَمهْدِ صَغيرًا وَهذا كُلُّهُ لِتَطْميِن وَتَبْشِيِرِ مَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ أَنَّ ما سَيَطْرِقُها مِنْ أَمْرٍ غَريِبٍ خارجٌ عَنِ المأْلوُفِ وَهُوَ أَنْ تَْحمِلَ بِلا زَوْجٍ وَأَنْ تَأْتِيِ بِوَلَدٍ بِلا أَبٍ؛ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ الذيِ سَيَجْعَلُ اللهُ تَعالَىَ لها فِيِهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَرِفْعَةً وَعَظيِمَ مَكانَةٍ وَمَنْزِلَةٍ.﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ مريم:16، بَعْدَ البِشارَةِ حَمَلَتْ هَمَّ ما حمَّلَها اللهُ تَعالَىَ مِنْ تِلْكَ البِشارةِ العَظيمَةِ، وَامْتَثَلَتْ أَمْرَ رَبِّها في قَوْلِهِ: ﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، ﴿إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ مريم:16، اعْتزَلَتْ أَهْلَها في مَكانٍ شَرْقَيٍّ لِطاعَةِ اللهِ وَعِبادَتِهِ وَالقِيامِ بِحَقِّهِ، ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ وَهُوَ جِبْريِلُ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ مريم:17، جَاءَها فيِ صوُرَةِ بَشَرٍ في صوُرَةِ إِنْسانٍ لِئَلَّا تَجْفَلَ مِنْهُ أَوْ تَخافَ مِنْهُ.﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا﴾ مريم:18، خَشِيَتْ مِنْهُ وَخافَتْ فَقالَتْ: أَحْتَمِيِ وَأَعْتَصِمُ بِاللهِ مِنْكَ وَما يَكوُنُ مِنَ الشَّرِّ الَّذيِ أَتَيْتَ بِهِ، ﴿إِنْ كُنتَ تَقِيًّا﴾ أَيْ: إِنْ كُنْتَ تَتَّقِيِ اللهَ وَتَخافُهُ وَتَرْقُبُهُ وَتَخْشَىَ عِقابَهُ، فَقالَ ذَلِكَ الرُّوُحُ جِبْريِلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ مريم:19، قَالَتْ مُسْتَغْرِبَةً مَعَ سَابِقِ البِشارةِ فِيما تَقَدَّمَ: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ مريم:20 كَيْفَ يَكوُنُ لِيِ وَلَدٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلمْ أَكُ بَغيًّا، ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ﴾ مريم:21، هَكذا حَكَمَ وَهَكذا قَضَىَ وَهَذِهِ كَلِمَتُهُ الَّتيِ بَشَّرَكَ بِها سَابِقًا، ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ مريم:21 عَلامَةٌ مِنَ العلاماتِ الدَّالَّةِ عَلَىَ عَظيِمِ صُنْعِ اللهِ الَّذِي أَوْجَدَنا فيِ أَصْلِ الخِلْقَةِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلا أُمٍّ في خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ جَعَلَ البَشَرَ جاريِنَ عَلَىَ أَنْ يَكوُنوُا مِنَ زَوْجَيْنِ، ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ أَيْ: مِنَ الزَّوْجَيْنِ، ﴿رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾النساء:1-ُ--ثُمَّ جاءَتْ الآيَةُ العُظْمَىَ أَيْضًا إِضَافَةً إِلَىَ ما تَقَدَّمَ في وُجوُدِ بَشرٍ مِنْ أمٍّ بِلا أَبْ، ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ مريم:21، حَملَتْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْها وَعَلَيْها السَّلامُ، ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ﴾ أَيْ: اعتزَلَتْ بِهِ، ﴿بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ مريم:22، بَعيِدًا عَنِ النَّاسِ، ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ تَمَّ حَمْلُها وَكانَتْ قَريِبًا مَنْ نَخْلَةٍ، فَقالَتْ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَىَ المسْتَقْبَلِ وَما سَيَكوُنُ مِنْ حالٍ قَوْمِها وَنَكارَتِهِمْ لما جَاءَتْ بِهِ مِنْ وَلَدَ، ﴿قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ مريم:23، ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا﴾ أَيْ: مِنْ قَريبٍ مِنْها ﴿أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾مريم:24-25، فَكانَ ذَلِكَ مِنْ تَطْميِنِها فيِ هذا الموْقِفِ العَصيِبِ مَوْقِفِ الوِلادَةِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيِهِ أَلَمُ الوِلادَةِ، إِضافَةً إِلَىَ أَلَمِ وهَمِّ ما سَيَكوُنُ مِنْ حالِ النَّاسِ، فَأَوْصاها بِهذا الأَمْرِ الَّذيِ ذَكَرَهُ اللهُ تَعالَىَ فيِ قَوْلِهِ: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا (26)﴾ مريم:24-26 كُلِيِ وَاشْرَبِيِ وَاطْمَئِنِّي، وَلا تَحْمِلِي هَمَّ ما يَكوُنُ فيِ المسْتَقْبَلْ.
وَأَمَّا في مُعامَلَةِ مَنْ سَتَريْنَ مِنَ النَّاسِ: ﴿فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ مريم:26، لماذا؟ لماذا نَذَرَتْ هَذا النَّذْرَ؟ لِأَنَّها لا يُمْكِنُ أَنْ تَأْتِيَ بِحُجَّةٍ تُبَرِّئُ بِها نَفْسَها عِنْدَ النَّاسَ؛ إِذْ إِنَّ هَذا خاَرجٌ عَنِ المأْلوُفِ، فَمَهْما كَانَ بَيانُها وَمَهْما كَانَتْ فَصاحُتَها وَمَهْما كانَ كَلامُها فَإِنَّها لَنْ تُقْنِعَ النَّاسَ بِأَنَّها طَاهِرَةٌ مِنْ بَغْيٍ أَوْ سوُءٍ إِلَّا أَنْ يُبَرِّئَها اللهُ، فَأَمَرها اللهُ أَنْ تُنْذِرَ الصَّمْتَ وَالسَّكوُتَ لِعَدمِ قُوَّةِ الحُجَّةِ في إِدْحاضِ وَإِبْطالِ ما يَتَوَهَّمُهُ أوُلَئِكَ فِيِها مِنَ الرَّيِبَةِ وَالشَّر، ﴿فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ مريم:26.
لم يسكت قومها بل لما جاءت به تحمله ﴿قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ مريم:27، شَيْئًا عَظيِمًا خارجًا عَنِ المأْلوُفِ، شَيْئًا عَظيمًا خارِجًا عَنِ المعْتادِ في بِيِئَتِكَ وَفي نَشْأَتِكَ وَفيِ أُسْرَتِكَ، ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ مريم:28، بِيئَةٌ طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ أَبٌ وَأُمْ وَإِخْوةٌ عَلَىَ صَلاحٍ وَهُدَىَ، فَكَيْفَ جِئْتَ بِهذا الولَدِ، أَمَرَها اللهُ بِالصَّمْتِ، فَلَمْ تَتَكَلَّمْ لِكِنَّها أَشارَتْ إِلَيْهِ، ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ مريم:29.
جاءَ الفَرَجُ مِنَ الكريِمِ المنَّانِ، جاءَ الفَرَجُ مِنْ رَبِّ العالمينَ، فَتَكَلَّمَ مِنَ في المهْدِ، ﴿يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ آل عمران:46، ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُوَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)﴾ مريم:30-33، بَرَّأَ اللهُ مَرْيَمَ مِنَ الرِّيِبَةِ وَالشَّكِّ بِآيَةٍ مُعْجِزَةٍ لا يَتَمَكَّنُ أوُلئِكَ أَنْ يُكِذِّبوُها وَلا أَنْ يَحْجِبوُها: نَطَقَ مَنْ في المَهْدِ وَقالَ: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾.
قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ مريم:34، هَذا هُوَ خَبَرُهُ وَهَذِهِ هِيَ قِصَّتُهُ، وَهَذا هُوَ شَأْنُهُ، وَالمؤْمِنُ مَأْموُرٌ بِأَلَّا يِلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِ خَبَرِ اللهِ، قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)﴾مريم:34-35، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)﴾ الإخلاص:1-4، أَقوُلُ هذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العظيمَ ليِ وَلَكُم فاستْغَفْروُهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفوُرُ الرَّحيمُ.
***
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ رَبَّ العالمينَ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ لَهُ الحَمْدُ في الأُوُلَىَ وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجعوُنَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَريِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرسوُلُهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ تَعالَىَ حَقَّ التَّقْوَىَ وَتَأَمَّلوُا مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَىَ فِي كِتابِهِ مِنْ قَصَصِ أَنْبيائِهِ، نَشَأَ عِيِسَىَ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَىَ اسْتِقامَةٍ وَصَلاحٍ، وَعَلَىَ هَدْي سَارَ عَلَيْهِ بَنوُ إِسْرائيِلَ فيِ طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَوْحيِدِهِ وَعِبادَتِهِ وَحْدَهُ لا شرِيِكَ لَهُ، جاءَ بَنيِ إِسْرائيِلَ بِآياتٍ عُظْمَىَ، دَعاهُمْ إِلَىَ عِبَادَةِ اللهِ تَعالَىَ وَحْدَهُ، أَيَّدَهُ اللهُ بِالآياتِ، قالَ تَعالَىَ فيِما جاءَ بِهِ عِيِسَىَ: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)﴾ آل عمران:50، جَاءَ بِآياتٍ عُظْمَىَ، إِلَّا أَنَّ بَنِيِ إِسْرائِيِلَ عَلَىَ ما كانوُا عَلَيْهِ مِنْ صَلَفٍ وَتَكْذيِبٍ لِلمُرْسليِنَ مَضوْا عَلَىَ ما كانوُا عَلَيْهِ مِنَ الأَذَىَ لأَنْبِياءِ اللهِ، فآذَوْا عِيِسَىَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَسَعَوْا في قَتْلِهِ حَتَّىَ نَجاهُ اللهُ تَعالَىَ مِنْ مَكيِدَتِهِمْ وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ كَما قالَ تَعالَىَ: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أَيْ: قابِضُكَ، ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾آل عمران:55، فَلَمْ يَتَمَكَّنوُا مِنْ قَتْلِهِ بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ آيةٌ عُظْمَىَ، ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ النساء:157 فَكانَ أَنْ تَوَهَّمَ هؤُلاءِ أَنَّهُمْ قَتَلوُهُ وَلَمْ يَكُنْ قَتْلٌ وَلا صَلْبٌ.
قالَ اللهُ تَعالَىَ :﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ النساء:157-158، قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ هَمَّ بِهِ قَوْمُهُ أَنْ يَقْتُلوُهُ، وَجَعَلَهُ آيةً في آخِرِ الزَّمانِ كَما قالَ تعالىَ: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ الزخرف:61 أَيْ: عَلامَةٌ مِنْ عَلاماتِها وَهُوَ ما يِكوُنُ مِنْ نُزوُلِهِ في آخِرِ الزَّمانِ كَما أَخْبَرَ سَيِّدُ المرْسَليِنَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ عِيِسَىَ ابْنِ مَرْيَمَ يِنْزِلُ في آخِرِ الزَّمانِ فَيَحْكُمُ بِشَرِيِعَةِ الإِسْلامِ وَيَكوُنُ مِنْهُ ما يَكوُنُ مِنْ نَصْرِ الحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَيُؤْمِنُ أَهْلُ الكتابِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَسوُلُ اللهِ، وَأَنَّ ما جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ في شَأْنِ عِيِسَىَ ابْنِ مَرْيِمْ، فَلَمْ يِكُنْ وَلدًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَعالَىَ اللهُ عَمَّا يَقوُلوُنَ، وَلَمْ يَكُنْ ابْنَ بَغِيٍّ كَما قالتْ فِئَةٌ أُخْرَىَ، بَلْ كانَ رسوُلًا كَريمًا، وَكَانَ آيةً مِنْ آياتِ اللهِ: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ آل عمران:59.والذي ينسبون إلى الله الولد أتوا بأمر عظيم قال فيه رب العالمين: ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ أي: يتشققن، ﴿وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ مريم:90، لماذا كُلُّ هذا؟ قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ مريم:91-92، سُبْحانَهُ وَبحَمْدِهِ؛ فَهُوَ المنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَكوُنَ لَهُ وَلَدٌ وَأَنْ يَكوُنَ لَهُ صَاحِبةٌ فَهُوَ الأَحَدُ الصَّمَدُ، ﴿إِنمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ الأنبياء:108، ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)﴾ الحشر:22-24، ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ البقرة:255، ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ﴾يونس:32.
الَّلهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا، الَّلهُمَّ أَعِذْ قُلوُبَنا مِنْ مُضِلاتِ الفِتَنَ وَلا تُزِغْ قَلوُبَنا بَعْدِ إِذْ هَدَيْتَنا، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ.
الَّلهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تُعيِذَنا مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، الَّلهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا، رَبَّنا لا تُزِغْ قُلوُبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّاب .
الَّلهُمَّ وَفِّقْنا لما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، خُذْ بِنواصيِنا إِلَىَ البِرِّ وَالتَّقْوَىَ، وَاصْرِفْ عَنَّا السَّوُءَ وَالفَحْشاءَ يا رَبَّ العالمينَ.
الَّلهُمَّ آمِنَّا فيِ أَوْطانِنا وَأَصْلِحْ أئَِمَّتَنا وَوُلاةَ أُموُرِنا وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فيِمَنْ خافَكَ واتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَّب العالميَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلاةَ أُموُرِنا إِلَىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، خُذْ بِنواصِيِهِمْ إِلَىَ البِرِّ وَالتَّقْوَىَ، أَعِنْهُمْ وَسَدِّدْهُمْ يا ذا الجَلالِ وَالإِكرْامِ.
الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلَيَّ أَمْرِنا خَادِمَ الحَرَمَيْنِ الشَّريِفيْنِ وَوَلِيَّ عَهْدَهِ إِلَىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، وَوَفِّقْ وُلاةَ أَموُرَ المسْلِمينَ إِلَىَ ما فِيِهِ خَيْرُ العِبادِ وَالبلادِ؛ إِلَىَ تَحْكيِمِ الكتابِ وَالسُّنَّةِ وَالعَمَلِ بَهَدْيِ سَيِّدِ الأُمَّةِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الَّلهُمَّ صَلِّ عَلَىَ مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَما صَلَّيْتَ عَلَىَ إِبَراهيم وَعَلَىَ آلِ إِبْراهيِمَ؛ إِنَّكَ حَميِدٌ مَجيِدٌ.