الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
فيا أيها المؤمنون، اتقوا اللهَ ربَّكم، فإن اللهَ -جل ذكره خلقكم ببالغِ قدرتِه ونافذِحكمتِه، لأمرٍ عظيمٍ جليلٍ، ألا وهو توحيدُه جلّ وعلا، وإفرادُه بالعبادةِ دونَ غيره، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾([1])وقد أنزلَ اللهُ لذلك الكتبَ وأرسل الرُّسلَ، قال تبارك وتعالى: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾([2]).
فالله -عز وجلَّ-خلقكم أيها الناسُ لعبادتِه وحده لا شريك له، لا ليتقوَّى بكم من ضعفٍ، فهو القويُّ العزيزُ، ولا ليتكثَّرَ بكم من قلةٍ، فهو الغنيُّ الحميدُ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد﴾([3])،و قال تعالى في الحديث الإلهي: (يا عبادي، إنكم لن تبلغُوا ضُرِّي فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعِي فتنفعوني، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم،ما زادَ ذلك في مُلكي شيئاً»([4]).قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾([5]).
أيها المؤمنون، إن أساسَ العبادةِ التي خلقَكُم اللهُ من أجلِها، هو شهادةُ أن لا إله إلا الله،فـ:"لا إله إلا الله" كلمةٌ قامتْ بها السماواتُ والأرضُ، و"لا إله إلا الله" فطرةُ اللهِ التي فطرَ الناسَ عليها،و"لا إله إلا الله" دعوةُ الرسلِ جميعاً، و"لا إله إلا الله" كلمةُ التقوى وشعارُ الإسلامِ، و"لا إله إلا الله" مفتاحُ الجنةِ دارِ السلامِ.
عباد الله، أيها المؤمنون..
إن لكلمةِ التقوى والإخلاص فضائلَ عديدةً، ومناقبَ كثيرةً، فحقيقٌ بمن نصح نفسه، وأحب سعادته ونجاتَه أن يتعرفَ على هذه الفضائلِ، وتلك المناقبِ، عسى أن يكونَ من أهلِ لا إله إلا الله.
فمن فضائلِ هذه الكلمةِ المباركةِ، كلمة: "لا إله إلا الله": أنها أوَّلُ ما يُطالبُ به العبدُ ليدخلَ في دينِ الإسلامِ الذي قال الله عنه: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾([6]).
ففي قصة بعْثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمنِ قال له صلى الله عليه وسلم: «إنك تأتي قوماً أهلَ كتابٍ، فليكنْ أوَّلَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسولُ الله»([7]).
عبادَ اللهِ، إن من فضائلِ كلمةِ التقوى والإخلاصِ: أن بها تحصُلُ عِصمةُ دمِ العبدِ ومالِه، ففي صحيح مسلمٍ قال صلى الله عليه وسلم: «من قالَ: لا إلهَ إلا اللهُ، وكفَرَ بما يُعبدُ من دونِ اللهِ حرُم مالُه ودمُه، وحسابُه على اللهِ عز وجل»([8]).
أيها المسلمون..
إن من فضائلِ هذه الكلمةِ الطَّيِّبةِ "لا إله إلا الله" أنه من لقِيَ اللهَ بها أدخلَه الجنةَ، جنةً عرضُها السماواتُ والأرضُ، دارُ السلامِ، قال صلى الله عليه وسلم: «أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنِّي رسولُ اللهِ، لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غيرُ شاكٍّ فيهما، فيُحْجَبُ عن الجنةِ»([9]).
ومن فضائلها أيها المؤمنون: أنها تحرِّم على النارِ من قالها صادقاً مخلصاً، ففي الصحيحين من حديث عتبانَ بن مالكٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن اللهَ حرَّمَ على النارِ من قال: لا إلهَ إلا اللهُ، يبتغي بذلك وجهَ اللهِ»([10]).
ومن فضائلها يا عباد الله: أنها سببٌ لخروجِ صاحبِها من النَّارِ إذا دخلها بتقصيرٍ منه، وتفريطٍ في حقوقِ هذه الكلمةِ وشروطِها، قال صلى الله عليه وسلم: «يخرُج من النارِ من قال: لا إله إلا الله وفي قلبِه وزنُ شعيرةٍ من خيرٍ، ويخرُجُ من النارِ من قال: لا إله إلا الله وفي قلبِه وزنُ بُرّةٍ من خيرٍ، ويخرجُ من النارِ من قال: لا إله إلا الله وفي قلبِه وزنُ ذرةٍ من خيرٍ»([11]).
أيها المؤمنون..
إن من فضائلِ كلمةِ التقوى: أنه من كان آخرَ كلامِه من الدُّنيا لا إله إلا اللهُ دخلَ الجنةَ.
ومن فضائلها: أنه لا تحصلُ شفاعةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا بها، فإن أسعدَ الناسِ بشفاعةِ النبي صلى الله عليه وسلم من قال: ()لا إلهَ إلا الله خالصاً من قلبِه()([12]).
أيها المؤمنون! إنَّ لا إله إلا الله لا يعدلها شيءٌ في المـيزان، ففـي مسند الإمام أحمد بسند جيِّد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ()إنَّ نوحاً قال لابنه عند موتِه: آمُرُك بلا إله إلا الله؛ فإنَّ السماواتِ السبعَ والأرضين السبعَ لو وُضِعتْ في كفَّةٍ، ووُضعت لا إله إلا الله في كفَّةٍ، رجحت بهنَّ لا إله إلا الله()([13]).
ولذلك فإنَّ هذه الكلمةَ المباركةَ تطيشُ بِسجلاتِ الذُّنوبِ، وتثقِّلُ ميزانَ العبدِ، وترفعُ درجاتِه يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ.
أيها المؤمنون! إن قولَ لا إلهَ إلا اللهُ من أعظمِ أسبابِ تفريجِ الكُرُبات، وحَلِّ المعضلاتِ، وكشفِ النوازلِ والنَّكباتِ، فهذا نبيُّ اللهِ يونسُ، لما التقمه الحوتُ وهو مُليمٌ، نادى في الظلماتِ أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجابَ اللهُ له، ونجَّاه من الغمِّ.
فافزعوا أيها المؤمنون إلى هذه الكلمةِ المباركةِ عند حلولِ الكربِ، ونزولِ الضَّيْمِ.
أيها المسلمون..
إن ربَّكم-سبحانه وتعالى-قد ضربَ لهذه الكلمةِ مثلاً في كتابِه، ودعاكم لتدبُّرِه وتأمُّلِه، فقال جلّ وعلا: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾([14])، فشبَّه اللهُ تعالى هذه الكلمةَ الطيبةَ، كلمةَ التوحيدِ، كلمةَ: "لا إله إلا الله" بالشجرةِ الطيبةِ ثابتةِ الأصلِ، باسقةِ الفروعِ يانعةِ الثَّمرِ، تؤتي أُكلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها، فـ: "لا إله إلا الله" إذا ثبتتْ في قلبِ العبدِ-يا عبادَ اللهِ-أثمَرَت العملَ الصالحَ، والعلمَ النافع.
فجميعُ العلومِ النافعةِ، والأعمالِ الصالحةِ، الظاهرةِ والباطنةِ إنما هي ثمرةُ هذه الكلمةِ المباركةِ، والشجرةِ الطيبةِ، فمن ثبَّت "لا إله إلا الله" في قلبه إيماناً وتصديقاً، محبَّةً وعلماً، انقادت جوارحُهُ لشرعِ الله تعالى وحكمِه عملاً وتطبيقاً وامتثالاً وتنفيذاً.
فاحرصوا أيها المؤمنون، على رعايةِ هذه الشجرةِ المباركةِ، وتعاهُدِها في كلِّ وقتٍ، بالعلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ، فإن الشجرةَ لا تبقى حيَّةً إلا بمادَّةٍ، تسقيها وتنمِّيها وتحفظها، اللهم احفظ لنا دينَنا الذي ارتضيته لنا.
الخطبة الثانية
أما بعد .
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن معنى هذه الكلمةِ المباركةِ، كلمةِ: "لا إله إلا الله"، التي سمعتم شيئاً من فضائلها، أنه لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ، فقولك أيها المسلم: "لا إله إلا الله" هو إقرارٌ بأنه لا يستحقُّ أحدٌ أن يعبدَ إلا اللهُ تعالى، فكلُّ من عُبِدَ من دونِه فهو باطلٌ، فلا يجوزُ أن تُصرفَ العباداتُ الظاهرةُ والباطنةُ لغيرِ اللهِ تعالى، فمن قال: لا إله إلا الله، وأحبَّ غيرَ اللهِ محبةً عباديةً، أو اعتمد على غير الله تعالى في جلبِ المنافع ودفعِ المضار، أو دعا وسأل غيرَ الله تعالى، أو استغاثَ أو استعانَ بغيرِ الله تعالى، فيما لا يقدرُ عليه إلا اللهُ جلَّ ذكرهُ، فقد وقعَ في الشِّركِ الذي لا يغفرُ اللهُ لصاحبِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾([15]).
أيها المؤمنون.
إن من قال: "لا إله إلا الله" ثم تقرَّبَ للمخلوقين أو المقبورين بالسجودِ أو بالذبحِ أو بالنذرِ لهم، أو بغيرِ ذلك من العباداتِ والقرباتِ، فإنه مُتوَعَّدٌ بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾([16]).
فاحذروا- أيها المؤمنون- الشركَ بالله تعالى، دقيقَه وجليلَه، صغيرَه وكبيرَه، فإنه ظلمٌ عظيمٌ وإثم كبيرٌ، خافه إمامُ الحنفاء إبراهيمُ- عليه السلام- على نفسِه وبَنِيه، فقال سائلاً ربَّه ومولاه: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾([17]).
وقد خافه النبي ُّصلى الله عليه وسلم على خيرِ القرونِ، خافه على أصحابِه فقال صلى الله عليه وسلم: «أخوفُ ما أخافُ عليكم الشركُ الأصغرُ، فقالـوا: وما الشركُ الأصغرُ؟ فقال: الرِّياءُ»([18]).اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم.
أيها المؤمنون.
إن فضائلَ لا إله إلا الله ومناقبَها لا تحُصلُ بمجرَّدِ قولِ اللسانِ، بل لا بد من إيمانِ القلبِ وعملِ الجوارحِ والأركانِ، وإذا أردت- ياعبدالله- دليـلاً لذلك، فانظـر إلى المنافقين، الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار﴾(،[19])فهم تحتَ الجاحدين لها في الدركِ الأسفلِ من النارِ، مع أنهم يقولونها بألسنتِهم، فإياكم- أيها المؤمنون- أن تكونوا من الذين جعلوا القرآنَ عضين! فإنه من المعلوم بالاضطرارِ من دِينِ الإسلام أن الإيمانَ بهذه الكلمةِ لا يتمُّ إلا بقـولٍ وعمـلٍ، قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمانُ بضعٌ وسبعون شعبةً، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريقِ، والحياءُ شعبةٌ من شعبِ الإيمانِ»([20]).
فاللهَ اللهَ أيها الناس، تمسَّكُوا بكلمةِ التقوى والإيمانِ، اعرفوا معناها، واستقيموا عليها، وجاهدوا فيها، أحبُّوا أهلَها والدَّاعين لها، واجعلوهم إخوانَكم في الدِّينِ، ولو كانوا عنكم بعِيدين، واكفروا بكلِّ ما يُعبد من دونِ الله، فإنه من يَكفُرْ بالطاغوتِ ويؤمنْ بالله، فقد استمسكَ بالعروةِ الوثقى، لا انفصامَ لها.
اللهم بأسمائِك الحسنى وصفاتِك العليا اجعلنا من أهل لا إله إلا الله، الذين لا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعل آخرَ كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.
˜˜¹™™