من مظاهرِ ضعْفِ التوكُّل
الخطبة الأولى:
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
فيا أيها المؤمنون، عباد الله.
اتقوا اللهَ واعبدُوه وحدَه لا شريكَ له، وأفرِدُوه سبحانه وتعالى بالرَّغبةِ والرَّهبةِ والخوفِ والرجاءِ والسؤالِ والتوكُّلِ، فإن التوكلَ جماعُ الإيمانِ، فإنه لا إيمانَ لمن لا توكُّلَ معه، قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) سورة المائدة: 23 ، وقال عز جنابُه: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) سورة آل عمران: 122. فاتقوا اللهَ عباد الله، وحقِّقوا إيمانَكم بصدقِ الاعتمادِ عليه جلَّ شأنُه في جلبِ كلِّ خيرٍ، واعلموا أيها المؤمنون، أنه لا يستقيم لكم إيمانٌ إلا بالتوكُّلِ على اللهِ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) سورة الأنفال: 2 ؛ أي: لا يرجون سِواه، ولا يقصدون إلا إيَّاه، ولا يلوذون إلا بجَنابِه، ولا يطلبون حوائِجَهُم إلا منه، ولا يرغبُون إلا إليه، ما شاءَ كانَ وما لم يشأْ لم يكنْ، لا معقِّبَ لحكمِهِ، ولا رادَّ لقضائِهِ، ربُّ المشرقِ والمغربِ، لا إله إلا هو فاتخذوه وكيلاً.
أيها المؤمنون.
إن من أكبرِ الآفاتِ وأعظمِ الآثامِ التي بُلِيَ بها كثيرٌ من الناسِ ضعفَ التوكُّلِ على اللهِ، والتعلقَ بغيرِه، والاعتمادَ على سواه.
أيها المؤمنون.
إن علاماتِ ضعفِ التوكلِ على اللهِ تعالى كثيرةٌ في حياةِ الناسِ اليومَ، فمن تلك المظاهرِ:
أن كثيراً من الناسِ إذا نزلت بهم الأمراضُ، أو أصابتهم الأسقامُ ، تعلقَّت قلوبُهم بالأسبابِ الحِسيّةِ، وغَفلوا عن قوله عز وجل: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) سورة الشعراء: 80، فتجد فريقاً ممن أُصيبوا بالأمراضِ علَّقوا قلوبَهم بالأطباءِ أو الأدويةِ، ورجوا منهم الشفاءَ وزوالَ الدَّاءِ، ومنهم فريقٌ جابَ الفيافيَ والقفارَ، وقطع الصحارِيَ والبحارَ، وشرَّقَ وغرَّبَ في الأمصارِ، يلاحقُ السحرةَ والمشعوذين، يرجو منهم رفعَ البلاءِ، وكشفَ الضَّرَّاءِ، فخربوا قلوبَهم لإصلاحِ أبدانِهم، ففسدت قلوبُهم، ووَهِنَت أبدانُهم ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً) سورة الجـن:6.
فاتقوا الله عباد الله، فإن من أتى عرَّافاً أو ساحراً أو كاهناً فسأله فصدقه فقد كَفَرَ بما أنزلَ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فكيف يا عبدَ الله، تطلُبُ الشفاءَ من السَّحَرةِ والكَفَرةِ الذين لا حولَ لهم ولا قوةَ، وتغفلُ عن اللهِ الذي يجيبُ المضطَّرَّ إذا دعاه ويكشفُ السوءَ؟!
كيف تيأسَ من روحه ورحمتِه، وقد وسعت رحمتُه كلَّ شيء؟!
أما سمعت نبيَّ الله أيوبَ ،عليه السلام، وهو يقول: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) سورة الأنبياء : 83؟!
ألم ترَ كيف أجابه الكريمُ المنانُ ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) سورة الأنبياء :84..
فاتقوا الله عباد الله، وإياكم إياكم إياكم أن تأتوا هؤلاءِ الكهنةَ والمشعوذين تحتَ أيِّ ظرفٍ، فلأن تموتَ يا عبد الله، مريضاً موحِّداً مؤمناً خيرٌ لك من أن تموتَ صحيحاً معافىً مشرِكاً، فـ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) سورة المائدة: 72.
أيها المؤمنون.
إن من مظاهرِ ضعفِ التوكلِ أنهم إذا نزلت بهم المصائبُ، وأصابتهم النوائبُ فزِعُوا إلى غيرِ مفزعٍ، وفرُّوا إلى غيرِ مهرَبٍ، فتجِدُ الواحدَ من هؤلاء إذا نالتْه نائلةٌ توجَّه إلى مخلوقٍ مثلِه يطلبُ شفاعتَه وغوثَه وتحقيقَ طلبِه، ولو أنَّ هؤلاء صدَقُوا اللهَ لكانَ خيراً لهم، طرقوا كلَّ بابٍ، وسلكوا كلَّ سبيلِ، إلا أنهم غفلوا عن اللهِ، الذي إذا أرادَ شيئاً قال له كنْ فيكونُ، فإنه سبحانه قد قال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) سورة الطلاق: 3؛ أي: كافٍّ من يَثِقُ به في نوائبِهِ ومهماتِه، يكفيه ما أهمَّه وأقلقَه.
فاتقوا الله عباد الله، وأنزلوا حاجاتِكم بالذي ينادِي كلَّ ليلةٍ، فيقولُ: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألُني فأعطيه؟ من يستغفرُني فأغفر له؟
جاء رجلٌ إلى الربيع بن عبد الرحمن يسأله أن يكلِّمَ الأميرَ في حاجةٍ له، فبكى الربيعُ رحمه الله ،ثم قال: أيْ أخي، اقصُدْ إلى الله عزَّ وجلَّ في أمرِك تجدْه سريعاً قريباً، فإني ما طلبت المعونةَ من أحدٍ في أمرٍ أريدُه إلا اللهَ، فأجِدُه كريماً قريباً لمن قصدَه وتوكَّلَ عليه.
عباد الله، إن من مظاهرِ ضعفِ التوكُّلِ عند بعضِ الناسِ: التشاؤمَ، والتطيرَ ببعضِ الأسماءِ أو الأشخاصِ أو الأرقام أو الألوانِ أو الأيام أو الشهورِ وغير ذلك، فإن ذلك من الشِّركِ المحرَّمِ قال صلى الله عليه وسلم: «من رَدَّتْه الطِّيرةُ عن حاجتِه فقدْ أشرَكَ» أخرجه أحمد (7005) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
فاتقوا اللهَ عباد الله، واعلموا أنه لا يأتي بالحسناتِ إلا اللهُ جلَّ وعلا، ولا يدفعُ السيئاتِ إلا اللهُ سبحانه، فعلِّقوا قلوبَكم باللهِ يا عبادَ اللهِ، واعتقدوا قولَه جل وعلا: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) سورة يونس:107.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي لا إلهَ إلا هو، عليه توكَّلتُ وعليه فليتوكَّلُ المتوكِّلون، أحمدُه جل وعلا، فهو كافٍ من يتوكَّلُ عليه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وسلم.
فاتقوا الله عباد الله.
أيها المؤمنون.
أنتم أحقُّ من يتوكَّلُ على اللهِ، فإن أهلَ السماواتِ وأهلَ الأرضِ، إنسَهم وجِنَّهم محتاجون إلى التوكُّلِ على الله تعالى في تحصيلِ مُرادِهم، وتحقيقِ مُبتَغَياتِهم على اختلافِها وتنوُّعِها.
فتوكَّلُوا أيها المؤمنون، على من بيدِه الأمرُ وله الحكمُ، فإن التوكُّلَ على اللهِ -جلَّ وعلا- من أعظمِ أسبابِ حصولِ المطلوبِ، والأمنِ من المرهوبِ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّكم توكَّلتُم على اللهِ حقَّ توكُّلِه لرزقَكُم كما يرزُقُ الطيرَ تَغدُو خِماصاً –أي: تذهب في الصباحِ جائعةً- وترُوحُ بِطاناً؛ أي: ترجعُ في المساء شبعى» أخرجه أحمد (205)، والترمذي (2344) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، و صححه الترمذي..
أيها المؤمنون.
إن من فضائلِ التوكُّلِ أن أهلَه هم أقوى الخلقِ إيماناً، وأصلبَهم ثباتاً، وأرسخَهُم يقِيناً، وهم أحِبَّاءُ اللهِ وأهلُ نُصرتِه وتأييدِه، إن اللهَ يحبُّ المتوكِّلين، ومن يكن اللهُ تعالى حسبَه وكافيَه ومراعيَه فقد فازَ الفوزَ الكبيرَ، فإن المحبوبَ لا يُعذِّبُ ولا يـُبعِدُ ولا يُحجِبُ.