السِّحْرُ وشؤمُه
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فإنه من يتَّقِ اللهَ يجعلْ له من أمرِه يسراً، ألا وإنَّ من تقوى اللهِ أيها المؤمنون شكرَه -سبحانه وتعالى- في السَّرَّاءِ، والصَّبرَ على قضائِه وقدرِه في الضَّراءِ وعند البلاءِ، فإنَّ الله -جلَّ وعلا- يبتليكم بما تُحبون وبما تكرهون، ليرَى شُكرَكُم فيما تُحِبُّون، وصبرَكم على ما تكرَهُون، ثم بعد ذلك إليه تُرجَعون، فيُنادَى الصابرون والشَّاكِرون أنْ تِلْكُم الجنةُ، أُورِثتُموها بما كنتم تعملون.
أيها المؤمنون.
إن مما يَبتَلِي اللهُ به بعضَ عبادِهِ الأمراضَ والأسقامَ والعللَ على اختلافِ ألوانِها وأنواعِها، إلا أنَّ أشدَّها وأعظمَها البلاءُ بالسِّحرِ، فإنه داءٌ عظيمٌ، وبلاءٌ مبينٌ، وشرٌّ مستطيرٌ، يُفسِدُ العقولَ والألبابَ، وينكسُ الآراءَ والأذواقَ، يُفرِّق بين الأحبابِ، ويُفسدُ عيشَ الأصحابِ، وصدقَ اللهُ حيث قالَ فيه: ﴿يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذنِ اللهِ) سورة البقرة (102).
أيها المؤمنون.
إن السحرَ ذنبٌ عظيمٌ، ووِزرٌ كبيرٌ، وجُرمٌ خطيرٌ، قرنَه اللهُ تعالى بالكفرِ والشكِّ: ﴿ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) سورة البقرة (102).
وقد جعله صلى الله عليه وسلم ردِيفَ الشِّركِ، فقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري: «اجتنبوا الموبقات : الشِّركَ باللهِ والسِّحرَ» أخرجه البخاري (5764) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
أيها المؤمنون.
إن من السِّحرِ ما هو كفرٌ باللهِ العظيمِ، قال اللهُ تعالى: ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، هذا جزاؤُه في الآخرةِ.
وأما جَزاؤُه في الدنيا فضربةٌ بالسَّيفِ، تَبِينُ رأسَه عن جَسدِه، تقطعُ شرَّه، وتُبطِلُ سعيَه، وتحذِّرُ من غيِّه.
أيها المؤمنون.
إن من أعظمِ الجنايةِ على المسلمِ عملَ السِّحرِ له، أو السَّعيَ في ذلك والتسبُّبَ فيه، فإن ذلك ظلمٌ عظيمٌ، وبغيٌ مرتعُه وَخيمٌ، فإنَّ من ضعافِ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ من يَلجأُ إلى السِّحرِ أو أهلِه لتحقيقِ مآرِبِه الفاسِدةِ، ونيلِ أَغراضِه المنحرفةِ، وتحصيلِ أهدافِه الرَّدِيئةِ، فيَذهبُ إلى السَّحَرةِ ليَسحَروا له فلاناً أو فلانةً؛ بغياً وعدواً وظلماً
إفسادٌ في الأرضِ، وإيذاءٌ للخلقِ، وإسخاطٌ للرَّبِ.
أيها المؤمنون.
إن هؤلاء البغاةَ الجناةَ المفسِدِين في الأرضِ، الذين يسحَرون الناسَ، أو يتسبَّبون في ذلك قد تبرَّأَ منهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فيما صحَّ عنه فقال صلى الله عليه وسلم: « ليس مِنَّا مَن تطيَّرَ أو تُطِيَّرَ له، أو تَكهَّنَ أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له ) أخرجه الطبراني في الكبير (355) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وصححه الألباني كما في صحيح الترغيب والترهيب (3041).
فيا خيبةَ من تبرَّأَ منه محمدٌ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وإياكم والظلمَ، فإن الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة.
أيها المؤمنون..
إن السِّحرَ ضررٌ لا نفعَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ، كما قال جل وعلا: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ﴾ كما أن من سحرَ مسلماً أو سعَى في سِحرِه فإنه لا يحصلُ مقصودُه مهما فعَلَ؛ لأنَّ اللهَ -جل وعلا- تكفَّل بإبطالِ سعيِ المفسدِين، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) سورة يونس (81)، وقد قال سبحانه: ﴿وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) سورة طه (69).
فاتقوا اللهَ عباد اللهِ، وذروا ظاهرَ الإثمِ وباطنَه، وإياكم ودروبَ الشقاءِ، ومسالكَ الرَّدَى.
أيها المؤمنون.
إن من أعظمِ أسبابِ الوقايةِ من هذا البلاءِ المبينِ: كثرةَ ذكرِ الله تعالى، فإن القلبَ إذا كان ممتلِئاً بذِكْرِه -جل وعلا- لم يضرَّه شيءٌ، فحافظوا عبادَ اللهِ على الأذكارِ الشرعيةِ، والأورادِ النبويةِ، والرُّقى الإلهيةِ، كقراءةِ أمِّ الكتابِ، وآيةِ الكرسي، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، وسورةِ الإخلاصِ والمعوذتين، وغيرِ ذلك من الأدعيةِ والأذكارِ.
ومن أسبابِ الوقاية أيضاً: صدقُ الاعتمادِ على اللهِ تعالى، والتوكلُ عليه في جميعِ الأمورِ:﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) سورة الطلاق (3) ؛أي: كافِيه، فعليه توكَّلوا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
الخطبة الثانية :
أما بعد .
فيا أيها المؤمنون.
إن الواجبَ على من ابتُلي بالسِّحرِ أو بغيرِه من الأمراضِ والأسقامِ الصبرُ على قضاءِ اللهِ وقدرِه، فإن الصبرَ والاحتسابَ مكسبٌ لحظوظِ جَزيلةِ، وأجورٍ كثيرةٍ: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) سورة الزمر (10).
فاصبر يا عبدَ اللهِ، فإنَّ مرضَ المؤمنِ وبلاءَه يجعلُه اللهُ برحمتِه كفَّارةً له ومُستَعْتَباً، وعليك بالدُّعاءِ والتَّضرُّعِ إلى اللهِ، وسؤالِه الشفاءَ، فإنه لا شفاءَ إلا شِفاؤُه: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) سورة الشعراء (80) ،واصْدُق اللهَ في الدعاءِ، وأظهِرْ الحاجةَ والفاقةَ، فإن الدعاءَ الصادقَ عدوُّ البلاءِ، يرفعُه ويعالجُه:﴿أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) سورة النمل (62)..
اُسلُك الأسبابَ الشرعيةَ في رفعِ هذا البلاءِ الكبيرِ، وإياك ثم إياك ثم إياك وملاحقةَ السَّحَرةِ والمشعوذِين، أو تتبعَ الدَّجَّالين والمخرِّفين، فإن هؤلاء يُفسِدُون القلوبَ، ويخرِّبون الأبدانَ، ويوقِعون في غضبِ اللهِ الملكِ الدَّيَّانِ: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقا ً) سورة الجن (6) ، فلا خيرَ عندهم، بل واللهِ هم منبعُ الشُّرورِ وسيئُ الأمورِ، وقد حذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من إتيانِهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهِناً أو ساحِراً فصدَّقَه، فقد كَفَرَ بما أُنزلَ على محمَّدٍ» أخرجه البزار (1873)، وصححه الألباني كما في صحيح الترغيب والترهيب (3049)..
فاتَّقِ اللهَ أيها المؤمنُ، فلئِن تموتَ مرِيضاً مُؤمِناً مُوَحِّداً خيرٌ لك- واللهِ- من أنْ تموتَ صحيحاً معافىً مشركاً.
اللهم إنا نعوذُ بك من الشركِ كلِّه.