الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
فيا أيها المؤمنون.
أوصيكُم بتقوى اللهِ- جل وعلا- في الغيبِ والشَّهادةِ، والسِّرِّ والعَلَنِ، واتِّباعِ سُنَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، فإنَّ اللهَ- تباركَ وتعالى- أرسلَ محمَّداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، وحجةً على العبادِ أجمعين، أرسله اللهُ على حينِ انقطاعٍ من الرُّسُلِ، فهدى اللهُ به إلى أقومِ الطرُقِ وأوضحِ السُّبُلِ، وبصَّرَ به من العَمَى، وأرشدَ به من الغَيِّ، فتحَ اللهُ به أعيُناً عمياً، وآذاناً صمًّا، وقُلُوباً غُلْفاً، فأكملَ اللهُ به الدِّينَ، وأتمَّ به النِّعْمَةَ ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) سورة المائدة (3).
أيها المؤمنون.
لقد أمَرَكم اللهُ تعالى باتِّباعِ ما جاءَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ونهاكم عن مخالفتِه، قال الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) سورة الأعراف (3) .
وقال جل وعلا: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) سورة الأنعام (153)، وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) سورة النساء (80).
وقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) سورة الحشر (7).
فاتقوا اللهَ أيها المؤمنون، واستمسِكوا بهديِْ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقد جَعَلَهُ اللهُ لكُم أُسْوةً حسنةً، وأمَرَكم بالتَّأَسِّي به والاستنانِ بسُنَّتِه، قال اللهُ تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) سورة الأحزاب (21 ).
وقد تهدَّدَ اللهُ سبحانه وتعالى الذين يخالفون أمرَ رسولِه صلى الله عليه وسلم بالفتنةِ والعذابِ الأليمِ، فقال تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة النور (63)، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) سورة النساء 115.
ألا، وإنَّ من مخالفةِ أمر رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ومشاقَّتِه صلى الله عليه وسلم الابتداعَ في الدِّين، فإن كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النَّارِ، وقد أنكرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- الابتداعَ في الدِّينِ، وجعله تشريعاً لما لم يأذنْ به اللهُ، فقال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه) سورة الشورى 21.
وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من البِدَعِ، وبيَّنَ بطلانَها، فقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منْه فهو رد» أخرجه البخاري (2499)، ومسلم (3242) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيَّتِه لأصحابِه: «فعليكم بسُنَّتي وسُنةِ الخلفاءِ الراشدِين المهديِّين من بعدِي، عضُّوا عليها بالنَّواجذِ، وإياكم ومحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ» أخرجه أحمد (16569)، وابن ماجه (43)، والترمذي (2600 )، والحديث صححه الترمذي.
فاتقوا الله عباد الله، وعليكم بلزومِ السُّنةِ، فإنها لكم بإذن اللهِ نجاةٌ وعصمةٌ.
أيها المؤمنون.
أتدرون ما البدعةُ التي نهاكم اللهُ ورسولُه عنها؟ إنها الدِّين الذي لم يأمرْ به اللهُ ورسولُه، فمن دانَ ديناً أو فعل فعلاً يقصدُ به التقرُّبَ إلى اللهِ تعالى، ولم يأمرْ به الله ورسوله ،فقد ابتدعَ في دينِ اللهِ، وشرَعَ فيه ما لم يأذنْ به اللهُ.
فانظر أيها المؤمنُ إلى ما تقومُ به من العباداتِ، هل أنت ممن التزمَ فيها هديَ النبيِّصلى الله عليه وسلم وسُنتَه، أم أنت ممن هَجَروا هديَه وقَلَوْا سُنتَه؟ ثم انظر في هذه العبادةِ هل هي مما شرعَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِه أو لا؟ فإن كنت ملتزماً هديَه صلى الله عليه وسلم، وما شرَعَه فأنت على السنة، وإن كانت الأخرى فإياكَ إياكَ فإنه «من أحدثَ في أمرِنا هذا»؛ أي: في ديننا هذا «ما ليس منه فهو ردٌّ»، «فإن شرَّ الأمورِ محدثاتهُا، وكلُّ محدثةٍ بدعةٌ».
أيها المؤمنون.
إن البِدَعَ ضررُها عظيمٌ وأثرُها خطيرٌ، قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "من أحدثَ في هذه الأمةِ شيئاً لم يكن عليه سلفُها فقد زعَمَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خانَ الرسالةَ" الاعتصام 2/18.
فالبِدَعُ مضادةٌ للشرعِ ومراغَمةٌ للشارِع؛ حيث إن المبتدعَ نصبَ نفسَه مستدرِكاً على الشريعةِ مكمِّلاً لها، فاتقوا اللهَ عبادَ الله، فإن البِدْعةَ لا تزيدُ صاحبَها من اللهِ إلا بُعداً، قال ابن القيم رحمه الله:"وكلُّ عملٍ بلا اقتداءٍ - أي: بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يزيدُ عاملَه من اللهِ إلا بُعداً؛ فإن اللهَ تعالى إنما يُعبَدُ بأمْرِه، لا بالآراءِ والأَهواءِ" مدارج السالكين (1/96).
فاحرصوا -عبادَ اللهِ- على تركِ البِدَعِ، صغيرِها وكبيرِها، ومتابعةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، فإنه بحسب متابَعَتِكم للرسولِ صلى الله عليه وسلم تكونُ لكم الهدايةُ والصلاحُ والنجاحُ، فإن اللهَ -سبحانه وتعالى- علَّقَ سعادةَ الدَّارينِ على متابعتهِ صلى الله عليه وسلم، وجعلَ شقاوةَ الدَّارين في مخالفتِه، فلأَتباعِه الهدى والأمنُ والفلاحُ وطيبُ العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذِّلةُ والصَّغارُ والضلالُ والشقاوةُ في الدنيا والآخرة.
فأقبلوا- يا عبادَ اللهِ- على كتابِ ربِّكم، وسنةِ نبيِّكم، وزِنوا أقوالَكم وأعمالَكم بما فيهما، فما وافقَ ذلك قُبل، وما خالفه فهو مردودٌ على قائلِه وفاعلِه كائناً من كان.