إن الحمد لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} سورة الحج (1 -2 ) .
عبادَ الله..
اتقوا يوماً تُرجَعون فِيهِ إلى اللهِ، ثم تُوفَّى كلُّ نفسٍ ما كسبتْ، وهم لا يُظلمون.
عباد الله..
آمنوا باللهِ ورسولِه، ألا وإنَّ من الإيمانِ باللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم الإيمانَ بما أخْبَرَ اللهُ به ورسولُه، مما يكونُ بعد الموتِ ويوم البعثِ، فأهلُ الإيمانِ الصادقون يؤْمِنون بأنَّ الناسَ يُفتَنون ويمتَحنون في قبُورِهم، فيقالُ للعبدِ إذا وُضعَ في قبْرِه: من ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟ فعندَها يثبِّتُ اللهُ الذين آمنوا بالقولِ الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ، فيَقولُ المؤمِنُ الموفَّقُ: ربِّي اللهُ، والإسلامُ ديني، ومحمَّدُ صلى الله عليه وسلم نبيِّي، وأما الكافرُ أو المنافقُ المخذولُ، فيقولُ: هاه هاه لا أدْرِي، سمعتُ الناسَ يقولون شيئاً فقلتُه، فيُضرَبُ بمطرَقةٍ من حَديدٍ، فيَصيحُ صيْحةً يَسمعُها كلُّ شيءٍ إلا الإنسانَ، ولو سمِعَها لصَعِقَ.
ثم بعدَ هذه الفِتنةِ يكونُ النَّاسُ إما في نَعيمٍ، وإما في عَذابٍ وحَميمٍ إلى أن تقومَ القيامةُ الكبرى، فيُنفَخُ في الصورِ، فإذا هُمْ من الأجْداثِ إلى ربهم يَنسِلون، فتعادُ الأرواحُ إلى الأجسادِ، وتقومُ القيامةُ التي أخبرَ اللهُ بها في كتابِه، وأخبرَ بها رسلُه صلوات اللهِ عليهم أجمعين، فيقومُ الناسُ من قبورِهم لربِّ العالمين حُفاةً عُراةً غُرْلاً –؛أي: غير مختونين - كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ سورة الأنبياء (104).
وفي ذلك اليومِ يا عبادَ اللهِ، في يومِ الفصلِ، في يومِ الدِّينِ تَدنْو الشمسُ من العِبادِ، حتى تكونَ قدرَ مِيلٍ أو ميلَيْنِ، فتَصْهرُهم الشَّمسُ، فيكونُ الناسُ في العَرَقِ كقدرِ أعمالِهم، فمنهم من يأخذُه العرقُ إلى عَقِبيْه، ومنهم من يأخذُه إلى حِقْويه، ومنهم من يُلجِمُه العرقُ إلجاماً، فلا إله إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ.
عباد الله..
في ذلك الكربِ العظيمِ واليومِ الشديدِ، تأتي الأعمالُ الصالحةُ تُظِلُّ أصحابَها من حرِّ الشمسِ ولهيبِها، قال صلى الله عليه وسلم: «الرَّجلُ في ظلِّ صدقتِه حتى يُقضى بين الناسِ» أخرجه ابن حبان في صحيحه (3310)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (872)، وكذا صاحبُ القرآنِ تُظلُّه البقرةُ وآلُ عمران.
فيشتدُّ الأَمرُ على الخلقِ، فيذهبُون إلى آدمَ وأولي العزمِ من الرسلِ ليشفعوا لهم عندَ اللهِ تعالى، فكُلُّهم يتخلَّى إلا رسولَ الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فيشفعُ الشفاعةَ العظمى لفصلِ القضاءِ، عندها يأتي الملِكُ الدَّيَّانُ في ظُلَلٍ من الغمامِ، فيفصِلُ بين عبادِهِ بالقضاءِ العدلِ، فتُنصَبُ الموازينُ لتوزنَ بها أعمالُ العبادِ: فمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ سورة المؤمنون (102-103)،فإذا وُزِنت الأعمالُ نُشِرت دواوينُ العالمين، وصحائفُ أعمالِ الأولين والآخرين، فآخِذٌ كتابَه بيمينِه، فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ}، وآخذٌ كتابَه بشمالِه، أو من وراءِ ظهرِه يقول: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} سورة الحاقة (25 - 27 ). وصدق اللهُ ومن أصدقُ من اللهِ قيلاً: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} سورة الإسراء (13 - 14 )، فيحاسب اللهُ الخلائقَ أجمعين في يومِ يجعلُ الولدان شيباً، يخلو اللهُ بعبْدِه المؤمنِ، فيقرِّرُه بذنوبِه ثم يسترُه ويغفرُ له، وأما أهلُ الكفرِ والنفاقِ فقد قال فيهم الواحدُ الديانُ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} سورة الكهف (105) { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}. سورة الفرقان (23)
فلا تنفعُهم أعمالهُم بعد أن كَفَروا باللهِ العظيمِ، وبمحمَّدٍ خاتمِ النبيِّين، بل مأواهم النارُ وبئسَ مثْوى الظالمين، وقد قال صلى الله عليه وسلم لما سألتْه عائشةُ رضي الله عنها عن ابنِ جُدعان: أينفعُه ما كان يفعلُه في الجاهليةِ، من صلةِ الرَّحِم وإطعامِ المساكينِ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينفعُه؛ إنه لم يقلْ يوماً: ربِّ اغفرْ لي خطِيئتي يومَ الدِّينِ» أخرجه مسلم (315).
وفي ذلك المشهدِ العظيمِ يا عباد الله، في يومِ الحسرةِ والندامةِ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} سورة عبس (34 -37) {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}. سورة المؤمنون (101)
وفي ذلك اليومِ يا عباد الله! ينادِي اللهُ تعالى في الخلائقِ : «من كان يعبدُ شيئاً فليتبعْه، فيتبعُ من كان يعبدُ الشمسَ الشمسَ، ويَتبعُ من كان يعبدُ القمرَ القمرَ، ويتبعُ من كان يعبدُ الطواغيتَ الطواغيتَ، حتى لا يبقى إلا أهلُ الإيمانِ، فيأتِيهم اللهُ تعالى في صورتِه التي يعرفونها، ثم يُضرب جسرُ جهنم - وهو صراطٌ منصوبٌ على متنِ جهنمَ - يمرُّ الناسُ عليه على قدرِ أعمالِهم، فمنهم من يمرُّ عليه كلمحِ البَصرِ، ومنهم من يمرُّ كالبرْقِ، ومنهم من يمرُّ كالرِّيحِ، ومنهم من يمرُّ كالفرَسِ، ومنهم من يمرُّ كراكبِ الإبلِ، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشْياً، ومنهم من يزحَفُ زحْفاً، ومنهم من يوبَقُ بعمِلِه ويُلقى في جهنم) أخرجه البخاري (764) ومسلم (267) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ،نعوذ بالله منها، فمن جازَ الصراطَ فازَ ونجا، وصدقَ فيه قولُ المولى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }. سورة آل عمران (185)
فإذا عبرَ المؤمنون الصراطَ وُقِفُوا على قنطرةٍ بين الجنةِ والنارِ، فيُؤخذُ لبعضِهم من بعضٍ، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دخولِ الجنةِ، وأوَّلُ من يدخُلُها نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يصدُقُ فيهم قولُ العظيمِ المنانِ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} سورة هود (105) {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} سورة الشورى (7). اللهم إنا نسألُك الجنةَ، ونعوذُ بك من النار.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الملكِ الواحدِ الديانِ، لا يحيفُ ولا يجورُ، ولا يظلمُ مثقالَ ذرةٍ، إن ربي على صراطٍ مستقيمٍ وبعد.
فـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} سورة لقمان (33)
أيها المؤمنون..
إن الإيمانَ باليومِ الآخرِ يخِفُّ النطقُ به على اللسانِ، إلا أنه يثقُلُ العمَلُ به على الجوارحِ في أكثرِ الأحيانِ، فكم رأَيْنا من مقرٍّ مؤمنٍ بالعَرْضِ على اللهِ الملكِ الدَّيانِ، قد تلطَّخَ بالمعاصي والآثام، يزحَفُ إلى الطاعةِ زحْفاً بطِيئاً، ويجري إلى المعصيةِ جرْياً حثيثاً.
فليت شعري!! هل هذا حالُ المصدِّقِ بما في ذلك اليومِ من عظيمِ الأهوالِ وشديدِ الأنكالِ؟! لا واللهِ، إنه لو كان بذلك موقِناً جازماً، لكان من أهوالِه وَجِلاً خائفاً، ولم يكن لأمرِ مولاه مخالفاً، وعن ذكره معرضاً.
أيها الناس..
إن المصدِّقِين بيومِ الدِّين هم الذين يخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً، فهم في أهلِهم مشفقون، إلى أعمالِ البرِّ مسابقون، في فضلِ ربِّهم راغبون، ومنه جلَّ وعلا راهبون، فأولئك الذين يمُنُّ اللهُ عليهم ويقِيهم بفضلِه عذابَ السموِم {فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراًوَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} سورة الإنسان (11-12).
ربَّنا لا تجعلنا عن ذكرِك غافلين، ولا عن دِينِك زائِغين، اللهم اجْعلنا من عبادِك الصالحين، ومن حزبِك المفلِحين، ومن أوليائِك المتقين.
اللهم إنا نسألُك حُبَّك، اللهم إنا نسألُك الجنَّةَ وما قرَّبَ إليها، اللهم عامِلنا بلطفِك ورحمتِك وفضلِك.